لقمان محمود، شاعر وناقد من مدينة عامودا السورية، ومن مواليد المنافي، عضو اتحاد الأدباء الكرد ، واتحاد الأدباء والكتاب السويديين .
شاعر لا يكبر ويشد بنواجذه على روحه حتى النفس الأخير، ولا يعرف متى سكنته القصيدة وسكنها ، يكتب القصيدة بمجموعه، يبني أسطورته من التفاصيل اليومية وأصدر باقة من التمارين النقدية والدواوين الشعرية منها:» القمر البعيد من حريتي» و» وسيلة لفهم المنافي».
حول تجربته الشعرية من منفاه السويدي، كان لنا معه هذا الحوار للملحق الثقافي:
– ثنائية لقمان محمود الموغل في أنانيته، ولقمان محمود الشاعر المبدع، أية مقارنة؟
– منذ نعومة أظافر الشعر، ولقمان محمود «الأناني» يحك جلده بهذه الأظافر التي لا تطول أبداً، لا مخالب للشعر إذن. كل ما في الأمر، أنّ هناك طفلا لا يكبر. طفلٌ يتمسّك بروحه حتى الرمق الأخير.
إنّ لقمان محمود «الشاعر» المبدع، الذي كبر قليلاً وصار يكسر الصحون بدل البكاء، وصار متزوجاً بعد أن أحبَّ للمرة المليون نفس الفتاة، لا يجد أيّ اختلاف بين الإثنين.
– ماذا عن الشرارات الأولى، من الذي جاء بك إلى الشعر، ومن أغراك بالقصيدة؟
– لا أعرف متى إبتليتُ بالنيران والحرائق!. منذ أن وعيتُ والكلمة في فمي والقلم في يدي. لا أعرف من ورطني بالشعر، ولا أعرف من أغراني بالقصيدة!!.
– كيف تقبض على الجملة الأولى متلبسة، وهل تأتيك القصيدة حينها بكامل تفاصيلها، أم تتشكل أثناء الكتابة؟
– في بداياتي الأولى كنتُ أجبر نفسي على الكتابة. لم أفكر حينها لا بالجملة الأولى ولا حتى بالتفاصيل. كنتُ أكتب وكأنني أسير في غابة من العتمة والظلام. هذا الكلام ينطبق على كل ما كتبته ولم ألحقه بديوان مطبوع.
– ديكنز كان يكتب بحبر أزرق على ورق أزرق، و «ماري أوهار» تستيقظ مبكرة قبل نور الصباح كي تتورط في الكتابة، ولقمان محمود، هل من عادات وطقوس وهو في ورشة الكتابة؟
– قبل الزواج كنتُ أكتب على طاولة الكتابة، وبقلم الرصاص، وعلى ورقٍ أبيض. خارج هذه العادات والطقوس، كانت الكتابة شبه مستحيلة. إذ لم أتصور أبداً أنني بعد الزواج سأكتب في المطبخ، أو في أيّ ركن فارغ من المنزل.
بعد عملي كمحرر لمجلة «سردم العربي»، صرتُ أكتب في مكتبي. الآن ومن مكان إقامتي في السويد، صرتُ أكتب بأظافري، بأصابعي، بيدي، بعيني، على أيّ شيء يمكن الكتابة عليه: دفتر مهمل، رسائل البريد، قصاصات ورقية، الموبايل، الحاسوب.. إلخ.
– هل حاولت يوماً أن تكتب قصيدة وأخفقت؟ تغافلت عنها فجاءتك في أوقات لم تتهيأ لها، ولم تكن في أتم استعداداتك؟
– لا أركض وراء القصيدة. لكنني أنتظرها طويلاً. هناك قصائد كثيرة قتلتها على حساب النقد الأدبي والعمل الصحافي. دائماً أحس أنني لا أملك الوقت الكافي لكتابة القصيدة!!.
– أفراح حزينة، القمر البعيد من حريتي، وسيلة لفهم المنافي، إلى الماء الأسير. من أي ورشة تأتي بهذه العناوين المعلقة في سقوف دواوينك؟
– الخيط السري الذي يربط القصائد ببعضها، بطريقة مدروسة أحياناً، وبالصدفة أحياناً أخرى، يبدو موفقاً إلى حدٍ كبير.
ربّما اعتنائي الكبير بالقصائد، تجعلني أحميها تحت سقف واحد، متشابه وأليف بقدر الإمكان، كي أحافظ على التعايش الايجابي بين القصائد.
– لقمان محمود مصاب بلعنة القصيدة الجميلة، ثم ناقداً أدبياً متمكناً من أدواته، ففي أيّ أراضي نجده؟
– أحاول بناء أسطورة من التفاصيل المعاشة يومياً على أرض الشعر وأرض النقد. يمكنك القول أنني جسر وهمي لمرور كل الأجناس الأدبية. ومع ذلك فأنا مصاب بلعنة الشعر أكثر مما هو متوقع.
– يكتب عدي العبادي: «إن عدم وجود المركزية في شعر لقمان محمود.. تجعله أكثر ثراءَ وأكثر قدرة في التعامل مع القارئ الذي هو الشريك الثاني في العمل»، ما تعليقك؟
– مع موت المؤلف يتم شرعنة الشريك. لولا الشريك – القارئ، لما كان هناك شاعر – مؤلف. ما أريد قوله يعزز مكانة القارئ ومكانة رولان بارت أكثر.
نعم، أنا ضد الممارسة التقليدية لوجود المركزية في الشعر.
– في إحدى حواراتك تقول: «كل شيء بدأ من الوطن، وانتهى بالمنفى من جديد»، بالمناسبة ماذا عن حزنك ومنفاك؟
– لا وطن حقيقي للشاعر. الشاعر ابن الحرية، وابن الحقيقة، وابن الكلمة. بهذا المعنى، وطني كان قيداً، كان كذبة، كان صمتاً. وكي لا أذهب بعيداً، لقد كنتُ منفياً وأنا داخل وطني.
الآن وبعد كل هذه السنوات عرفتُ كم كان حزني عميقاً وشجاعاً ومكابراً، لأنه كان حزناً وطنياً قبل أن يكون حزناً شخصياً.
– وماذا عن القصيدة الكردية، وما الذي تريده منها؟
– لحدٍ ما كانت القصيدة الكردية تعكس الواقع الكردي المرير. حيث كُثر الشعراء مع كثرة حالات القمع والقتل والمجازر. هكذا بقيت القصيدة الكردية طيلة أربعين عاماً وكأنّ كاتبها شاعر واحد.
ما أريده من القصيدة الكردية هو ما أريده من الكتابة بشكل عام.. أي أن تكون القصيدة وطنا وبنفس الوقت منفى. أن تكون القصيدة سفرا وبنفس الوقت عزلة. أن تكون القصيدة كردية وبنفس الوقت عالمية الإبداع.
– ومن الذي ينبت فيك الحنين واستحضار الأمكنة الأولى والقديمة وبدقة متناهية؟
– كل مكان عرفته بشكل عميق وأحببته، كتبتُ عنه. كل مكان سقطتُ فيه على قلبي أحنّ إليه.
كل الأمكنة التي تركتُ فيها جزءاً من روحي ووجعي ودمعي وكبريائي وأملي ومستقبلي وطفولتي كانت وما زالت أرض خصبة لحنيني.
– ما الذي قادك إلى المنفى، حتى اصطبغت قصائدك بعذاباته، هل منحتك القصيدة بعضاً من الدفء للتخفيف من صقيع المنافي؟
– الوطن هو الذي قادني إلى المنفى، بعدما أجبرني على ترك جثتي المقتولة ورائي، وبعدما أجبرني على ترك رأسي المقطوع في غير مسقط رأسي. هكذا شاعر ملاذه الأول والأخير كان وما زال هو الشعر. أكتب لأحقق حلمي في تفاعل الثقافات، و لأخفف عن قلبي وقلب العالم بعض الألم والصقيع.
– أنت شاعر مسكون دائماً بالبوح الأصيل مع الذات والوطن والذكريات والحكايات الخبيئة والحافلة بالإشارات، ما القصة؟
– ما زلتُ أكتب عن نفسي، عن ألمي، عن فرحي، عن حبي، عن فشلي، عن نجاحي، عن حريتي، عن أملي، عن طفولتي، عن دموعي، عن سجني، عن حريتي.. إلخ. ما زلتُ أكتب عن كل ما مررتُ به وعجنني طويلاً.
ربما، هذا كل ما في القصة يا صديقي.
– يقول شارل بودلير «القصيدة طفولة ثانية»، وأنت ما هي قصيدتك؟
– تختلف شروط المساواة بين قصيدة وأخرى، بين طفولة وأخرى، بين شاعر وآخر، وبين لغة ولغة أخرى.
بمعنى من المعاني، قصيدتي هي حياتي الثانية، التي أعيشها بموت كبير، وبحماس أكثر.
– ما الذي بقيَ في ذاكرتك من الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكس؟
– بقيَ الشعر العابر للغات والثقافات. بقيت مؤسسة سردم للطباعة والنشر والتوزيع. بقيت مقبرته الوحيدة في منتزه الحرية في السليمانية.
ومع ذلك، فكل ما بقيَ في ذاكرتي حول هذا المبدع، الصديق، المعلم، الأستاذ، والرئيس في تحرير مجلة سردم، كتبته في كتابي المعنون ب «أسطورة شيركو بيكس الشعرية، بين أغنية الوطن وصوت الحرية»، الصادر عام 2014، ضمن منشورات جمال عرفان الثقافية.
– وأخيراً، أما آن الأوان لأوبة لقمان محمود من منفاه؟
– لا أعرف إلى أين سأعود. أحس أحياناً أنني ولدتُ في المنافي. لم يبق لي أرض أذهب إليها. هنا – السويد – آخر الأرض، آخر العالم، وآخر المنافي.
لن أحاول العودة إلى أيّ مكان. قلتُ ذات قصيدة: يتعب النهر كثيراً، لذلك ما أن يخرج من بيته، لا يعود إليه أبداً.