قضايا المنهج في كتاب «الشعر المغربي المعاصر: تجليات وأبعاد»

«الشعر المغربي المعاصر: تجليات وأبعاد» دراسة نقدية للناقدة إلهام الصنابي، تقع في إحدى وتسعين ومائة صفحة من الحجم المتوسط، صدرت حديثا سنة 2016 عن مطبعة حذيفة بوجدة، وهي دراسة تؤهل صاحبتها لمركز الريادة، وتمنحها قصب السبق بين بنات جنسها في التأليف في النقد الأدبي بالجهة الشرقية إلى جانب الناقدة حياة خطابي1، ذلك بأنه كل ما كتب لحد الآن في هذه الجهة كان بأقلام رجالية.

 

إن فحص كتاب نقدي، وبحث محتواه أمر في غاية الصعوبة، يختلف تمام الاختلاف عن قراءة المتون الابداعية، هذا دون أن ننفي صفة الابداعية عن الكتابة النقدية، فإذا كان قارئ النصوص الابداعية يعمد إلى التحليل وإظهار المعاني وتقويمها والحكم عليها من خلال كتابة ثانية، أي ممارسة الكتابة عن الكتابة، فإن قارئ النصوص النقدية سيعمد إلى كتابة ثالثة، قد لا تختلف في طبيعتها عن الكتابة الثانية، فهو الآخر سيجد نفسه مضطرا إلى اعتماد أساليب التحليل والتفسير والتفكيك، ولكنها تفسير للمفسر وتفكيك للمفكك، وهنا مكمن الصعوبة، لهذا ارتأيت أن ألج متن هذا التأليف النقدي من باب المنهج بنوعيه: منهج البحث أو ما يصطلح عليه بالمنهاجية أو خطة البحث، ثم منهج الدراسة وهو مجموع الوسائل التقنية والأدوات الاجرائية التي استندت إليها الناقدة في محاورة المتون الشعرية، محاولا إظهارها ومناقشتها.
خطة الدراسة:
إن أول ما يعكس جدية العمل واهتمام صاحبه به، قبل النفاذ إلى جوهره وتحليل متنه، ومناقشة أفكاره ونقدها إيجابا أو سلبا، هو المنهج الخارجي للبحث المتمثل في خطة العمل، إذ لا يمكن وضع بناء بدون تصميم ومن غير الاستناد إلى خطة عمل، وإلا جاء البناء مضطربا معيبا، ذلك بأن إحكام البناء الخارجي يمنح المتن أهميته ويشد أذهان المتلقين إليه.
لهذا فكل كاتب هو مدعو إلى الالتزام بالمنهج في بحثه والخضوع لسلطته، لأن المادة العلمية لا تسمح لنا بمجاراة أذواقنا، فنعتسف الكتابة كما يحلو لنا، وذلك لسبب بسيط هو أننا لا نكتب لأنفسنا، وإنما نكتب للآخر المتلقي، والكاتب مطالب بأن يلبي رغبة القارئ في الكتابة والقراءة.
وأولى متطلبات القارئ أن يدعى إلى فعل القراءة من خلال منهج واضح ويسير، يوصله إلى مبتغاه. فكثير من القراءات غير المثمرة سببها منهج غير واضح أو غائب، فتجد القارئ يتذمر من القراءة وينفر منها لأنها لم تتح له الوصول إلى ضالته، كما أن الالتزام بالمنهج في الكتابة يمنحها بعدا حجاجيا وإقناعيا يدفع المتلقي إلى جانب تيسير سبل الفهم إلى التسليم بما يعرض عليه من طروحات.
وقد ارتضت الناقدة أن تنجز هذه الدراسة النقدية وفق خطة منهجية، اعتمدت فيها على مقدمة ومتن نقدي، قسم إلى محورين: الأول خاص بالشعر والثاني خاص بالزجل، بالإضافة إلى فهرس للمحتويات.
1 – المقدمة:
شغلت الصفحة الأولى من الكتاب وفيها أشارت الناقدة إلى الأسباب الكامنة وراء اختيارها لعنوان «الشعر المغربي المعاصر: تجليات وأبعاد» ميسما لهذا التأليف، وقد أرجعتها إلى طبيعة الكتاب الذي تشكل من مجموعة من المقالات النقدية في الشعر المغربي المعاصر، وانصبت على قضايا مختلفة مبرزة بعدها الانساني والجمالي. كما أشارت المقدمة إلى الأهداف المتوخاة من وراء هذا التأليف، وقد تلخصت في الرغبة في توثيق هذه المادة النقدية وصيانتها من الضياع، وختمت هذه العتبة بالتعبير عن أملها في أن يكون هذا العمل مفيدا في بابه، يجد فيه دارسو الشعر المغربي غايتهم.
2 – المتن النقدي:
*محور الشعر: تضمن هذا المحور ثماني مقالات تتقارب أحيانا من حيث المباحث والمستويات المنقودة، كما في الأبعاد الانسانية والجمالية في ديوان «من مكابدات السندباد المغربي» لمحمد علي الرباوي، والأبعاد الانسانية في ديوان «صلوات للفضيلة وضوؤها دمي» لمحمد ماني، وأحيانا أخرى تتباعد، كما في «تجليات الغربة في ديوان عراء الروح» لمحمد غريب ماخوخي، ومستويات الدهشة في ديوان الهايكو «خنافس مضيئة» لسامح درويش. ولا شك في أن هذا التقارب وهذا التباعد هما المتحكمان في خطة الدراسة، وهما المشكلان لبنائها العام، فقد كان بالإمكان أن تغير هذه المقالات المشتركة من حيث المضامين والمستويات شكل هذا التأليف وخطته، فتجمع في شكل مباحث أو فصول، وتمنح عنوانا مشتركا، وهو أمر كان سيتيح للناقدة إمكانية المقارنة بين شاعرين أو أكثر في كيفية تناول المواضيع وحضور الأبعاد الإنسانية مثلا في شعرهما، غير أن حصول هذا التباعد أحيانا نزل بثقله على منهجية التأليف وفرض على الناقدة إبقاء المقالات النقدية على صورتها الأولى، مما سيضطرنا إلى فحص هذه المقالات من الداخل، وتتبع خططها والمقارنة بينها.
*محور الزجل: تضمن هذا المحور مقالة نقدية وحيدة، وهي قراءة نقدية في الديوان الزجلي «منين تتكلم لحروف» لنجاة احسايني، تطرقت فيها الناقدة إلى موضوع المرأة بين سلطة المجتمع وهوس الكتابة.
ويمكن التمييز في هذه المقالات جميعها بين ثلاثة أنواع: مقالات عامة وسعت مجال اشتغالها، كما هو شأن الدراسة التي تناولت شعر حسن الأمراني، والدراسة التي عنيت بشعر محمد بنعمارة خاصة وأن الشاعرين يعدان من الشعراء المكثرين الذين حققوا تراكما مهما، أثرى مكتبة الشعر المغربي بما يمكن من الحديث عن تجارب شعرية لديهم، ثم مقالات خاصة ضيقت مجال عملها، فصبت اهتمامها على مؤلف واحد كما هو حال ديوان «صلوات للفضيلة وضوؤها دمي» لمحمد ماني، ومقالات مقارنة جمعت فيها الناقدة بين تجربتين أو ديوانين، ومثال ذلك «جمالية التناص القرآني ووظيفته في الشعر المغربي الحسين القمري وجمال أزراغيد نموذجا»، وسواء أتعلق الأمر بالنموذج الأول أم الثاني أم الثالث فإن هذه المقالات جاءت محكمة البناء، خضعت جميعها لمنطق البدء والختم، وتوزعتها عناوين أساسية وأخرى فرعية بحسب ما تختزنه المادة المدروسة، تبيح للقارئ تتبع تفاصيل المؤلف المنقود، وتظهر مدى تمكن الناقدة من الاستحواذ على هذه المادة وقدرتها على التحكم في مجرياتها، ذلك بأن تقسيم المادة المدروسة إلى محاور وعناوين يعني تملك مقاليد مغالقها والعثور على مدخلاتها ومخرجاتها، فكثير من الدراسات التي تباشر الكتابة بشكل مجمل دون اعتماد منطق العناوين، فإما أن تسقط في الانشائية وإما أن يلفها الغموض والابهام، لأنها تباشر الكتابة خلوة من أي موجه أو ضابط يمكن أن يؤطرها ويصنع حدودها.
3 – منهج الدراسة:
يحتاج الناقد الأدبي إلى أدوات ووسائل إجرائية، تعتبر بمثابة قواعد عامة في النقد، تعينه على فك مضمرات النصوص الابداعية وتفسيرها، غير أن هذه القواعد «ليست وصفة جاهزة قابلة للاستعمال في كل وقت، بل هي نظرة متبصرة وعميقة تسبر أغوار الأثر الأدبي والفني، وتحاول ضبط العوامل والعناصر التي تكونه وتؤلف أجزاءه ومكوناته»2. والمتتبع لكتاب «الشعر المغربي المعاصر تجليات وأبعاد» يكتشف هذا المعطى، فقد كان الأثر الأدبي منطلق الناقدة ومنتهاها، أرهفت إليه سمعها وأنصتت لنبض النصوص، ولم تعمد إلى لي أعناقها، فهي لم تفرض على النص معايير خارجة عنه كما يلجأ إلى ذلك كثير من الدارسين الذين يغرقون في الحديث عن المناهج وأعلامها، ويتخذون مواقفهم قوالب جاهزة يصبون فيها العمل الأدبي، ويجعلون منها أحكاما مسبقة يقيسونه بمقاييسها.
إن الناقدة لم تستدع من المناهج لمقاربة النصوص ونقدها إلا ما شاءت هذه النصوص لا ما شاءت هي، والدليل على ذلك خلو هذه المقاربة من الاحالات على مواقف أعلام المنهج ورواده، بل خلوها من الاحالات على مقاربات نقدية أخرى إلا ما كان على سبيل المقارنة وإثبات وجهة النظر، وذلك نادر جدا.
لقد أدى انصات الناقدة إلى النصوص واستفادتها مما تواءم معها من مناهج إلى ترك الباب مشرعا أمام التفسير والتأويل، فهي لا تدعي القول الفصل فيما ذهبت إليه من استخراج المعاني وتحليل المضامين، ولم تقسر النص على حمل الأفكار التي تريدها3، وهذا ما يعكسه اعتمادها بنية السؤال أحيانا كما في بحثها عن الأسباب التي كانت وراء ولادة شعر الهايكو في الأدب المغربي، هذا الفن القادم إلينا من اليابان، وانعطاف الشعراء المغاربة نحوه، كما تحضر هذه البنية في إضاءتها لعدد من عتبات العنونة. وهذه الأسئلة أو بالأحرى التساؤلات تظهر انفتاح الآراء النقدية في هذا التأليف على كثير من التأويلات، ويظهر هذا الانفتاح أيضا من خلال اعتماد الناقدة مصطلحات لا تفيد القطع والجزم في إصدارها للأحكام، كاستعمال مصطلح الاحتمال والتوقع.
إن اختلاف النصوص وتنوعها وحرص الناقدة على تتبعها بعيدا عن الاغراق في الأطر المنهجية الجاهزة، جعلا الناقدة تستفيد من كثير من المناهج، فتستدعي في المقالة الواحدة أكثر من منهج، فقد زاوجت بين المنهج الموضوعاتي والتاريخي وهي تدرس شعر محمد بنعمارة، ففي الوقت الذي كانت تبحث فيه موضوع المرأة في شعر الشاعر، تعرضت إلى تحولات المرأة وتمظهراتها في شعره، فمن المرأة الأنثى في مرحلة الرومانسية إلى المرأة القضية في المرحلة الذهنية الإيديولوجية إلى المرأة الرؤيا في تجربة الشاعر الصوفية. ومزاوجتها أيضا بين المنهج الاجتماعي والبنيوي في الكشف عن الأبعاد الانسانية والجمالية في ديوان «من مكابدات السندباد المغربي» لمحمد علي الرباوي، فمن خلال التعرض لبنية اللفظ داخل النسق الشعري للرباوي كشفت ذلك الترابط الوثيق بين سابق إنتاجه ولاحقه، وابرزت ثبات الشاعر على الخط الشعري الذي ارتسمه لمسيرته الشعرية، وهو الرؤيا الذاتية. ومن خلال تفسير البكاء في العرف الاجتماعي توصلت إلى سبب إخفاء الشاعر دموعه ومنعها من الاسترسال حتى لا تكون علامة ضعف أمام أبنائه بالرغم من صعوبة الموقف الذي عاشه الشاعر، هذا بالإضافة إلى حضور المنهج النفسي على طول الدراسة، لأن دراسة الشعر نفسه تتطلب آليات هذا المنهج لكون هذا الجنس الأدبي فنا صادرا عن مجموعة القوى النفسية ويعمل على تصوير الخصائص الشعورية لصاحبه، ويمكن تلمس ذلك في أكثر من موضع، وبخاصة في الدواوين التي تطغى فيها ذاتية الشاعر، ونذكر على سبيل المثال “صلوات للفضيلة وضوؤها دمي” لمحمد ماني، ومن “مكابدات السندباد المغربي” لمحمد علي الرباوي.
وهذا التعدد في وسائل القراءة وآلياتها يحيل على أن الناقدة سلكت في هذا التأليف طريق المنهج المتكامل الذي يجمع بين عدة مناهج و”يتناول العمل الأدبي من جميع زواياه، ويتناول صاحبه كذلك، بجانب تناوله البيئة والتاريخ، وأنه لا يغفل القيم الفنية الخالصة، ولا يغرقها في غمار البحوث التاريخية أو الدراسات النفسية، وأنه يجعلنا نعيش في جو الأدب الخاص”4 وهذا ما منح هذه الدراسة جاذبية خاصة.
لقد مكن هذا المنهج المتكامل الناقدة من التركيز على المضمر في قراءة النصوص الشعرية والسعي إلى إظهاره والكشف عنه، فليس النص الشعري مرآة واضحة يظهر بجلاء ما ينطبع عليه من ذاتية الشاعر أو من أوضاع اجتماعية وتاريخية، وإنما هو «لغز يحدثنا عن الاجتماعي- التاريخي من خلال ما يبدو عنصرا جماليا أو روحيا أو أخلاقيا»5، وهذا ما يظهر من خلال حرص الناقدة على تفكيك عتبة العنوان في جل الدواوين المدروسة، والكشف عن الخيوط التي تربطها بالمتن، وبخاصة حين تجنح العناوين إلى التغريب من خلال إسقاطات أسطورية «من مكابدات السندباد المغربي» مثلا، أو حين تعتمد التعميم والتعويم «الحرف الثامن» على سبيل المثال. فتفكيك هذه العناوين وكشف مضمراتها كانت مرحلة ضرورية في رحلة الناقدة عبر متون الدواوين الشعرية قيد الدراسة، وهو في الآن نفسه مقلاد من المقاليد التي يتسلمها المتلقي ليبدأ رحلته القرائية.
4 – خاتمة:
إن كتاب «الشعر المغربي المعاصر تجليات وأبعاد» للكتورة إلهام الصنابي يعكس مفهوم النقد في أوضح تجلياته وأبسط معانيه، فهو عملية توضيح العمل الأدبي وتفسيره للمتلقي، على ما في هاتين العمليتين من حكم، ويعيد إلى الأذهان من جديد السؤال الشائك عن دور النقد في الاستهلاك الابداعي: أهو ضروري لتفسير النص الابداعي للمتلقي وتقريبه من الفهم؟ أم أنه على العكس من ذلك يسهم في إغلاق النص، ويضع المتاريس أمام وصول المتلقي إلى المعنى الصحيح؟ وبهذا يصبح النقاد كما شبههم منتيسكيو «جنرالات فاشلة».
فإلى جانب الجواب البدهي عن هذا السؤال، فإن عمل الناقدة في هذا المؤلف النقدي يؤكد أهمية النقد في القراءة وضرورته في إضاءة مغالق النصوص، ولعل مقاربة الناقدة لنصوص الهايكو هذا الوافد الجديد ما يؤكد ذلك، فقد استطاعت أن تميط السجوف عنه وتكشف عن الكثافة الدلالية للنصوص بالرغم من قصرها الشديد، وتظهر عمق الصور البلاغية التي تختزنها بساطة اللغة المعتمدة في صياغتها، وتوضح فنيتها وجماليتها

هوامش
1 – يتعلق الأمر بكتاب: التأليف المسرحي بشرق المغرب- حياة خطابي- مطبعة الجسور- وجدة- 2012
2 – التصور المنهجي ومستويات الادراك في العمل الأدبي والشعري- أحمد الطريسي أعراب- شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع- الرباط- 1989- ص: 10
3 – مدخل إلى مناهج النقد الأدبي- مجموعة من الكتاب- تر: رضوان ظاظا، ومراجعة المنصف الشنوفي- مجلة عالم المعرفة- المجلس الوطني للثقافة والفنون- الكويت- ع221- 1997- ص: 8
4 – النقد الأدبي أصوله ومناهجه- سيد قطب- دار الشروق- بيروت، القاهرة- ط5- 1973- ص: 628
5 – مدخل إلى مناهج النقد الأدبي- مرجع سابق- ص: 190


الكاتب : محمد رحو

  

بتاريخ : 05/05/2017