فيلم «قصة تحرير كوبا».. عالم ما بعد الديكتاتور

في ثماني حلقات بمجموع ثماني ساعات، ينقل الفيلم الوثائقي “قصة تحرير كوبا” من إنتاج شركة “نتفليكس” الأمريكية عام 2015، كوبا كمطمع للمستعمرين على مر التاريخ، وحاضنة للثقافات المختلفة، وكوجهة جاذبة للمهاجرين من كل الأقطار.
تحمل كل حلقة من فيلم “قصة تحرير كوبا” عنواناً يمثّل حقبة مختلفة تمر بها كوبا بدءًا من تعاقب الحكومات الاستعمارية على الجزيرة المميزة جغرافيًا، بعد “اكتشافها” من قبل الإسبان قبل 500 عام، وخضوعها للاستعمار الإسباني بعد ذلك، ومن ثم تحويلها “لمحمية” أمريكية بعد دحر الإسبان في حروب لم تكلّف أمريكا جهدًا كبيرًا.
في كل مرة كانت كوبا تحاول التمرّد والخروج من هذه الأزمات في سبيل التحرر والاستقلال، وكان لها ذلك في العام 1933، بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الكوبي “فولغينسيو باتيستا”، وحصلت بذلك على حكمها المستقل الأول. ولكنه كما يظهر الفيلم، كان استقلالًا مزيّفًا، إذ استمرت كوبا بالخضوع للولايات المتحدة التي كانت تسيطر آنذاك على 75% من أراضيها وكذلك اقتصادها وسياستها. ونرى كيف يتحوّل باتيستا خلال فترة حكمه الثانية إلى ديكتاتور وفاسد كليًا. ولكن الفيلم لم يُهمل ما قدمه هذا الديكتاتور للشعب الكوبي الذي لم يكن يدرك هذا الزيف من الاستقلالية بعد، إذ أن باتيستا أوفى بوعوده التي كان قد أعلن عنها بعد تقلده الحكم، فقلل عدد ساعات العمل إلى 8 ساعات، وسمح للنساء بالمشاركة في الانتخابات، إضافة إلى أن كوبا حصلت على أول دستور خاص بها في فترة حكمه.
ولكن المصالح المتوشحة بالطمع بقيت هي الدافع والمحرّك الأساسي لدى متقلدي السلطة في معظم الأحيان. فما لبثت أن تحولت كوبا إلى دولة بوليسية تحت قيادة ديكتاتور سياسي واقتصادي. ومرتعًا للمافيا الأمريكية.
وبينما كان باتيستا يقمع أي معارضة تحاول الظهور والإعلان عن نفسها، فيُجهض محاولات التمرّد، كان الشاب فيديل كاسترو على الجانب الآخر من الجزيرة، يُنهي سنوات دراسته الجامعية بتخصص القانون.
لم تكن كوبا تعلم أن مصيرها القادم سيكون متوقفًا على تمرّد كاسترو وثورته الشهيرة التي أصبحت فيما بعد قصة نموذجية لكثير من الثوّار من ضمنهم ثوّار المغرب العربي. فليس هناك أبهى من مجموعة ثائرة لا يتجاوز عددها المئة، تقرر العودة للجزيرة لتخليصها من الديكتاتور، على متن قارب قديم “غرانما”، ويُقضى على معظمهم قبل الوصول إلى جبال “سييرا مايسترا” التي ستصبح مركز حرب العصابات بين هذه المجموعة وجنود باتيستا.
في أقل من عام، يكتب تاريخ الأول يناير 1959 هزيمة للديكتاتور باتيستا، ويشهد نجاح ثورة كاسترو ورفاقه. ولكن هل انتهى الأمر بوصول الثوار إلى الحكم؟
لم تحقق مرحلة ما بعد التخلص من الديكتاتور الطموح الذي حلمت به كوبا، فالثورة التي صنعت الرموز الأخوين كاسترو، ورفيقهم الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا، إلى جانبهم قادة الثورة هوبر ماتوس وكاميلو سيينفويغوس – الذين تخلّص منهم كاسترو فيما بعد بالقتل والنفي والإخفاء – مهدت لواقع ذي معالم تشبه تلك التي كانت في عهد باتيستا في إطارها العام، بينما اختلفت فقط بالتفاصيل. وقد وصِفت هذه المرحلة خلال الوثائقي في حلقة بعنوان” تشتيت الجمع بسبب إصلاحات ووحشية كاسترو”.
انتقلت كوبا من السيطرة الرأسمالية الأمريكية إلى النقيض تمامًا، أي الخضوع للشيوعية السوفيتية. والتي لم يكن كاسترو حينها يعي تمامًا معنى هذا المصطلح كثيرًا، الأمر الذي كان جليًا في خطاباته المطوّلة في الأمم المتحدة، ومحاولته الإبقاء على رضى الأمريكان حتى لا ينهار الاقتصاد الكوبي إذا ما سحبت أمريكا استثمارتها. ولكن الثائر الكوبي لم يحظى بثقة الولايات المتحدة، ممثلة برئيسها حينذاك دوايت ايزنهاور، الذي كان في آخر فترة حكمه الثانية، فلم يكن أمام كوبا إلا التحوّل العلني للشيوعية لمصادقة الاتحاد السوفيتي، خاصة وأن العمود الفقري للثورة واليد اليُمنى لكاسترو رفيقه جيفارا كان شيوعيًا، ويطمح لتحويل جزر البحر الكاريبي إلى الشيوعية. وعلى الرغم من ذلك فلم يكن جيفارا على وفاق مع الاتحاد السوفييتي حينها، الذي اتخذ سياسة المد والجزر في صراعه مع الولايات المتحدة.
وهكذا مهّد كاسترو لمرحلة جديدة تكون فيها كوبا دمية قطبي الصراع في حربهما الباردة، وفي الوقت نفسه، أسس لاقتصاد متذبذب بين سنوات عجاف، وأخرى سمان لم تكن تسمن لولا مساعدة السوفيات.
ما يُكتب حقًا من إنجازات الثورة خلال العقد الأول من السلطة، والذي يُعد نقطة ضعف في فيلم “قصة تحرير كوبا” لأنها لم تقم حتى بالإشارة لهذه الإصلاحات، هو قيام كاسترو بسن قوانين المساواة للكوبيين من أصول إفريقية، والمزيد من القوانين التي تكفل حقوق المرأة. وحاولت حكومة كاسترو تحسين مجال الاتصالات والمرافق الصحية والتعليمية التي قررت إبقاءها خدمات مجانية للشعب الكوبي، ولكنها لم تكن تملك أي خطط لتعويض هذه النفقات. إضافة إلى الإصلاحات التي شملت المرافق الفنية والترفيهية والإصلاحات الزراعية، التي لم يُذكر أي منها في حلقات الفيلم الوثائقي.
يوضح فيلم “قصة تحرير كوبا” أن كوبا عاشت 50 عامًا تحت حكم الثائر فيديل كاسترو، باقتصاد قائم أساسًا على تجارة المخدرات، وشبكات الجاسوسية، وبـ10% من شعبها لاجئًا إلى الدولة العدوة “أمريكا”، وكابنة للاتحاد السوفييتي، قبل أن يُكمل الشقيق الأصغر راؤول كاسترو مهمة المحافظة على نتائج الثورة بهامش أكثر مرونة قليلًا من سابقه.
إذًا هل تغفر الثورة الواقع غير المستقر الذي عاشته كوبا بعدها؟ من الواضح أن الحماس عادة أخذ الثوّار، فجعلهم لا يفكرون بضرورة امتلاكهم خططًا حقيقية لتحسين الواقع، ولإصلاحه في مرحلة ما بعد الثورة.
في الواقع، لن يسر الشعوب الثائرة واقع ما بعد الإطاحة بالديكتاتور كثيرًا، إن لم يتبعها واقع ينهض بهذه الشعوب نفسها وبالدولة، لا أن يتسبب بانهيارات على نحو آخر شبيه بما كانت البلاد عليه قبل الثورة.


بتاريخ : 06/10/2018