في افتتاح للندوة الوطنية التي نظمها مجلس النواب حول مشروع القانون-الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي
أصحاب المعالي والسعادة،
السيد رئيس الحكومة،
السيد رئيس مجلس المستشارين،
السيد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي،
السيد الأمين العام للحكومة،
السيد كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي والبحث العلمي ،
السيد الأمين العام للمجلس الأعلى للتربية والتكوين،
زميلاتي زملائي النائبات والنواب،
أيها الحضور الكرام،
أودُّ في البداية أن أرحب بكم في مجلس النواب، في هذا البيت الذي يجسد ديمقراطيتنا التمثيلية، ويوفر فضاءً للحوار المفتوح حول قضايانا الوطنية الكبرى، ويمد الجسور بين مختلف الفاعلين السياسيين المعنيين بالشأن الوطني في كُلِّ أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتربوية كما هو الحال اليوم ونحن نلتقي حول موضوع المسألة التعليمية وفي أفق مشروع التشريع الجديد لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، مشروع القانون-الإطار المتعلق بهذه المنظومة.
واسْمَحُوا لي أن أعترف أمامكم، بدايةً، أنني لا أستطيع أن أتحدث في هذا الموضوع بنوعٍ من الحياد أو التَّجرُّد، فحينما يتعلَّق الأمر بقضايا التربية والتكوين والبحث العلمي تَنْهَضُ في أعماقي وذاكرتي مَشَاعِرُ خاصة ولحظاتٌ شخصية عشتها كتلميذٍ وكطالبٍ وكأستاذٍ جامعي، وفي أحيان معينة وأساسا، كمسؤولٍ حكومي تحملتُ المسؤولية على رأس قطاع التربية والتكوين، ثم قطاع التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر لخمس سنوات ونَيِّفٍ. كما أستعيد الكَثيرَ من الوجوه الطيبة الكريمة التي خدمت هذا القطاع، بَعْضُها قَضَى نَحْبَه إِلى رحمة ربه وبَعْضُها مازال يواصل العطاء في خدمة حقل التربية والتعليم، وأستسمحكم هُنَا لِأَذْكُر بالخصوص المرحوم سي عبد العزيز مزيان بلفقيه الرئيس السابق للمجلس الأعلى للتعليم وتلك الرفقة الطيبة التي اقتسمناها معاً في سياقِ تَفْعيلِ مقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين، إذْ تمكَّنا من إِرساءِ مورفولُوجْيَا تأسيسيةٍ للإِصلاح التربوي والتعليمي، المدرسي والجامعي، ونجحنا حيث أمكننا أَنْ نَنْجَحَ معتزِّين بما حققناهُ من مقتضيات الميثاق الذي شَكَّلَ قاعدةً للالتزام والعمل كما توافقت عليه إرادةُ الأمة بمختلف مكوناتِها الحزبية والنقابية والمِهَنية والتربوية والفكرية والثقافية والدينية، كما تعذَّر علينا أن نُنْجِزَ كامل مطامِحِنا الوطنية ومُجْمَلَ ما تصوَّرْنَاهُ وخَطَّطْنا له من خلال ذلك الميثاق الذي اشتغلنا في حدود سَقْفِهِ الذي كان متاحاً، وسَعَيْنا إلى أن نُبْدعَ ونُبَادِرَ في أفقه ورهاناتِهِ.
أعرفُ أن مياهاً كثيرةً قد مَرَّتْ تحتَ الجِسْر، كما يُقال، وأن بلادَنَا عرفَتْ جملةً من التحولات الكبرى العميقة في كافة الأَصعدة وعلى كل المستويات. ولكنَّ إرادةَ الإصلاح في هذا الحقلِ الكبِير الهام تواصَلَتْ بقوةٍ، بقيادةِ صاحِبِ الجلالة الملك محمد السادس حفظه لله، وبإشراكِ ومشاركةِ مُخْتَلَفِ الفاعلين والمعنيين والخبراء سواء على مستوى المجلس الأعلى للتعليم الذي يرأَسُه حالياً رَجُلُ دولةٍ وازنٌ، بتجربةٍ حكوميةٍ غَنِية، وخلفيةٍ فكريةٍ وحقوقية وأكاديمية رصينة وقوية، وبمرجعيةٍ وطنية راسخة وصادقة ؛ أو على المستوى الحكومي حيث تنخرط الوزارة الوصية على هذا القطاع في مجهودِ تفعيلِ رهاناتِ ومقتضياتِ الإصلاح بدلالاتِهِ وتوجهاتِهِ الجديدة حيث نرى أن لها برنامجاً سَبَقَ وأعلنَتْ عنه، ووضعت رهن إشارة المعنيين الوثائقَ الخاصة به.
واليوم، ونحنُ نُدَشِّنُ حواراً وطنيّاً حول مشروع القانون-الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، مازلتُ مقتنعاً بأَنَّ إصلاح حَقْلِنا التربوي والتعليمي لَيْسَ ولا يمكنُ أن يكون إصلاحاً قطاعيّاً، وإِنما هو مشروع إِصلاح مجتمعي بنيوي شامل، واسع، مُرَكَّب وعميق. وهو إصلاحٌ أفقي وعمودي في الآنِ نفْسِهِ. كما أَنَّه إِصلاحٌ يتطلب تعبئة كافة إِمكانيات الدولة والمجتمع تعبئةً وطنيةً حقيقية ينخرط فيها الجميع بدون استثناء، من حكومةٍ وأحزابٍ ونقاباتٍ وقطاعٍ خاص ومجتمعٍ مدني ونسيجٍ أُسَرِي.
وفي هذا الإطار، وبهذه الروح – واعتماداً وتفعيلاً والتزاماً بتوصية الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030 التي أَقَرَّها جلالة الملك محمد السادس نصره لله والتي تدعو إِلى تحويل اختياراتها الكبرى إلى قانونٍ-إطارٍ يُجَسِّد المعنَى الملموس لتعاقُدٍ وطني مُلْزِمٍ للجميع ويلتزم به الجميع في أفقٍ من الحرص الوطني على نسقنا التربوي التعليمي في ترابطاته المختلفة والمتعددة، خصوصاً في علاقته بمشروعنا المجتمعي الوطني في المغرب وأهداف التنمية البشرية والمُسْتَدَامة، وأساساً ما صَدَرَ عن منظمة الأمم المتحدة من أهدافٍ للتنمية المستدامة، وبالأَخص الهدف الرابع من أجلِ ضمانِ «تعليمٍ جيدٍ ومنصفٍ وشاملٍ للجميع، وتعزيز فُرَصِ التعلُّم مدى الحياة للجميع» الذي تابعت وتُتَابِعُ منظمةُ اليونيسكو آفاقَ تنفيذِهِ عالميّاً، كما هو واضح في إِعلان إنْشْيون بجمهورية كوريا الصادر عن المنتدى العالمي للتربية في ماي 2015.
إن مشروع هذا القانون-الإِطار يأتي لِيَضَعَ أولوية إِصلاحِ منظومةِ التربية والتكوين في صدارة الأولويات الوطنية كما هو منصوص على ذلك في الديباجة مولياً الاعتبار لاِلْتقاءِ إِراداتِ مُخْتَلَف مكونات أُمتنا، دولةً ومجتمعاً، وترصيد المكاسب، وتجاوُز الاختلالات الحالية التي بات المعنيون جميعاً يدركونها ويعرفُونها ويُلِمُّون بأسبابها، بناءً على جملة من التشخيصات العلمية الفاحصة الرصينة، ويَسْعَوْن مَعاً سَوِيّاً إلى ضمان إِصلاحها من أجل إِرساء مدرسة مغربية جديدة، مفتوحة أمام الجميع، ومنفتحة على العصر الحديث ومنجزاته العلمية والتقنية، ومستَوْعِبة للثقافة الإنسانية وروح الابتكار والإِبداع.
ومن هُنَا، ومن مَوْقِعِنَا البرلماني اليوم، أَودُّ أن أُلِحَّ على معنى التفكير في السلطة التشريعية كسلطةٍ داعمةٍ، كسلطةٍ مُوَاكِبةٍ لا بالمعنى الرَّقَابي للعمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية – وهذا دورٌ دستوريٌّ بديهي – وإِنما كسلطة منخرطة في هذا المشروع الإِصلاحي الشامل الذي يرعاه جلالةُ الملك ونؤمن به جميعاً باعتباره ركيزةً من ركائز النموذج التنموي الجديد.
لقد رَاكَمَ المغربُ جملةً من التشخيصات الوطنية بل واسْتَأْنَسَ بتَشْخيصاتٍ دولية ذاتِ مصداقية. وهناك مرجعيات نستند إِليها في هذا الإصلاح الوطني لمنظومتنا التربوية التعليمية وفي مقدمتها ما عبَّرتْ عنه خُطَبٌ ملكية سامية. كما أن هناك ما أقَرَّهُ دستورُ 2011، فضلاً عن مقتضيات الرؤية الاستراتيجية 2015-2030. وطبعاً، هناك رهاناتٌ مجتمعية كبرى ينبغي أن نُولِيَهَا الاعتبار الضروري في كل تفكير وتخطيط وتشريع وتفعيل، خصوصاً الرهاناتِ الوطنيةَ التي لها مَظْهَرٌ اجتماعي وثقافي ولغوي وحقوقي بارزٌ ومُلِحّ ؛ وذلك دون أن ننسى أَيضاً رهانَ الجهويةِ المُوَسَّعَة وإمكانيات إنجاح الإِصلاح التربوي التعليمي من منظور مطالبِ ومستَلْزَمَاتِ وإِمكاناتِ هذه الجهوية دون أَيِّ مساسٍ بالرابطة الوطنية وبوحدة المغرب ككيانٍ، وكهوية وعقيدةٍ وحضارةٍ وثقافةٍ وطنيةٍ متعددة منفتحة.
وإِذا كنتُ دائماً من الذين يرفضون مطلقاً محاكمةَ وخَدْشَ صورةِ المدرسةِ العمومية في المغرب، وأنا وغَيْري من أبناءِ وبناتِ هذه المدرسة لنَعْتَزُّ بها، بعطاءاتها وأجيالها وتضحياتِ أُسْرَتِها التربوية والتعليمية والإِدارية منذ بدايات عهد الاستقلال إلى اليوم – فإِنني أدرك مع الكثير من الفاعلين بأن هذه المدرسة باتَتْ في حاجةٍ إلى تجديدٍ عميق وشامل في رُوحِها وأدائها ومناهجها ومقَرَّراتِها وتَعَلُّماتِها. ففي ظل تحولات العصر، والتغيرات السوسيولوجية والثقافية والعلمية والتكنولوجية الحديثة، أصبح علينا أن نطرح السؤال حول نَجَاعَةِ نظامِنا التربوي التعليمي وفعاليتِهِ، سواء من حيثُ الحكامةُ أو من حيث الأَداءُ الداخلي والأداءُ الخارجي، بمعنى هل تحقق هذه المنظومة الأهداف المُسَطَّرة على مستوى مكتسبات التلاميذ والطلبة ؟ هل لخِرِّيجي هذه المنظومة القدرةُ على الاندماج السَّلِس في سُوقِ الشغل والإنتاج، وكذا الاستجابة لمتطلبات العمل العصرية الجديدة ولانتظارات المؤسسات الاقتصادية والمعرفية والصناعية والتقنية والتواصلية ؟
لقد بَاتَ الجميعُ اليومَ مقتنعاً بأن منظومتنا هذه لا تؤهل أَجيالنا الجديدة لمثل هذا الاندماج المطلوب في العصر، وفي سوق الشغل، وفي الإنتاج والابتكار، في عَالَمٍ شديدِ التعقيدِ والتوترِ حيث تتسارع التحولاتُ المجتمعيةُ نحو مجتمعاتِ المعرفة، وحيث يغدو التحكم في العلوم والتقنيات واللغات الإنسانية من المفاتيح الكبرى للاندماج الإيجابي في العَالَم والاستفادة من المكتسبات والإِمكانات الكونية المتاحة.
والمُؤْسِف أَيضاً – ولا أريد أن أَلُومَ أحداً بعَيْنِه أو طرفاً مَّا على ذلك، إذ إِنَّ المسؤوليةَ جماعيةٌ ومجتمعيةٌ وتاريخيةٌ وثقافيةٌ، فضلاً عن أنها مسؤوليةٌ سياسيةٌ بالتأكيد– المؤسف أن شَبَابَنا تُرِكَ أَعْزَلَ وحيداً أَمام تعبيراتِ الغُلُوِّ والتطرف الفكري وانحرافِ الرُّؤَى والاستيهاماتِ والتَّخَيُّل المجاني في ظلِّ منظومةٍ تربويةٍ تعليميةٍ لم تَجْعَلْهُ مؤهَّلاً وقادراً على تَمَلُّكِ إِمكانياتِ الحِجَاج والاستدلال بل أَحياناً غَيْرَ قادرٍ حتى على تَملُّكِ إِمكانياتِ التَّعْبيرِ البسيطة. وهو ما أَسْهَمَ بقوة خلال المرحلة الماضية في أَنْواعٍ من الاختلال مع زَمَنِ العَالَمِ المعاصر.
المؤسف أَيضاً أن بعضَ الاختلالِ الراهن وُجِدَ بسَبَبِ ممارسةٍ معيَّنَةٍ من التوترات الوطنية. علينا أن نقول ذلك اليومَ وفي هذا السياقِ الوطني الجِرِّيء من التأمل والمُراجَعَة والإِصلاح. فَلَطَالما حاولنا أن نصلح منظومتنا التربوية التعليمية، ووجَدْنا أَنْفُسَنا نُضَيِّع وقتاً وجهداً في ترتيب الاختلافات وطمَأنَةِ هذه التوترات أو تلك كي نَصِلَ في آخِرِ المطاف إِلى تركيبة من الرؤى والاجتهادات والخيارات المرجعية والنظرية والمنهجية، إلى ترضياتٍ أحياناً لم تكن دائماً ضروريةً.
ومن هُنا، ينبغي أن نكون اليومَ أيضاً – وأكثر من أَيِّ وقتٍ مَضَى – أكثر نزوعاً نحو العقلانية والحكمة والجرأةِ والحَسْم في خيارات الإِصلاح التربوي والتعليمي. ولنا دور في هذا الأفق كمؤسسةٍ تشريعية وطنية.
علينا أن نتساءل بهذا الخصوص حول مايَهمُّ هُوِيتَنا الوطنية وقيمَنا المغربية المُشْتَرَكة لنُدركَ أَيَّ مُواطِنٍ نريد. والحمد لِلَّهِ أن أُمَّتَنَا توافَقَتْ على هويتها القائمة على تَعدُّد العناصر الإِثنية واللغوية والثقافية وسيرورة الانفتاح في ديباجة ومقتضيات النَّص الدستوري الذي صَادَقَ عليه الشعبُ المغربي في يوليوز 2011 نحو بلورة مفهوم واضح لمواطنة وطنية.
وبالتأكيد هناك قضايا أخرى متعددة تَحْضُرُني وتَشْغَلُني كمسؤول وكفاعل سياسي مارس مهْنَةَ التدريس، وهي مهنة ملأتْ حياتي وذاكرتي ووجداني وترتبط بهُويتي ومِخْيَالي، لعل من أَبرزها مضامين المقررات التعليمية ومَدَى الحاجة إِلى مُلاءَمَتها لِمُتَطَلَّبات العصر وأَولوياته. وأَيضاً مكانة الإنسانيات في علاقتها بالعلوم والتقنيات، وهي مواد متوفرة في برامجنا التعليمية، لكنها – بالتأكيد – في حاجة إلى مراجعة بالنظر إلى ما أشرنا إِليه من حجم التحولات المتصلة بسوق الشغل وآليات الإِنتاج. لكنْ في الوقت نفْسِهِ لا ينبغي تبخيسُها أو التقليلُ من شأنِها وشأنِ المنتجين في حقولنا الفكرية والفلسفية والأَدبية والفنية، فالشعوبُ لن تعيشَ بالخبز وحدَهُ بل لابد لها من تغذيةٍ روحيةٍ وثقافية ورمزيةٍ وجَمَالية.
مرةً أخرى – أصحاب المعالي والسعادة، ضُيُوفَنا وحُضُورَنا الكرام – أجدِّدُ الترحيب بكم في هذا الحوار الوطني آملاً أن يشكّلَ مناسبةً سانحةً للتأمل والإِنصات والتبادل الفكري والمعرفي والتشريعي شاكراً لكم جميعاً كَرَمَ الاستجابةِ لدعوتنا والمساهمةِ في إِثراء هذا اللقاء.
والسلام عليكم ورحمة
وبركاته.