رفعت عينيها الى الأعلى فاصطدمت نظراتها بسقف الغرفة المتداعي .أشاحت بوجهها عنه ليغلبها نور يتسلل في هدوء من نافذة صغيرة أعلى الجدار ، تعبرها أشعة الشمس والعصافير وأنسام الصباح والصراصير اللعينة . في أقصى الغرفة تربع دولاب صغير تتدلى الملابس منه في فوضى .والى جانبه تزاحمت كراكيب أخرى تملأ زاوية الغرفة . سرير يحتل ثلث المساحة ، لكنه ملاذها الآمن من صقيع الشتاء القاسي .
المنظر يذكرها بالمتشردة صباح ، المرأة الطيبة التي كانت تنام تحت سقف السماء ،تلتحف اليابسة ، وتتدثر بالبطانيات المهلهلة ، وفي ليالي الشتاء البارد الممطر كان لزاما عليها أن تغلف الفراش بقطعة سميكة من البلاستيك حتى لا يتسرب البلل الى جسدها العليل . استمرت على ذلك النحو سنين عديدة ،تعيش بين التجار وبائعي الملابس المستعملة ،كانت علاقتها بهم طيبة ،فهم من يدعمها لتوفير الطعام .وفي أحد الصباحات الباردة لم تستيقظ صباح كعادتها من فراشها في زاوية (الجوطية) ولم تحمل آنيتها الى حيث توجد الحنفية في مدخل السوق ،أشرقت الشمس يومها دافئة تجلي صقيع ليال قاسية .كان الهدوء يسود أرجاء الجوطية ، ولم يسمع الباعة صوت صباح ذاك الصباح ،لم يشتموا رائحة قهوتها المفعمة بالأعشاب .تساءلوا عن سر اختفائها ، لكنهم صدموا عندما اكتشفوا جثتها الجامدة تحت ركام البطانيات . وهكذا انطوت قصة صباح كغيرها من الحكايات والقصص التي تعج بها هوامش المدينة في مجتمع يتنكر للضعيف :
صباح ، يا وردة المدينة الذابلة
يا صرخة أنثى
ضاعت في دروب الحياة العابرة
لفظتك أرحام البيوت من غير وجع
واحتضنتك الميادين والشوارع
كم من صباح نامت على صخر
وأصبحت على جوع وقهر
يا حورية تبحث عن مرافئ سلام
ارقصي على شفير الجرح والألم
اشتعلي بركانا من الحمم
احترقي،وانبعثي من جديد
فينيقا يولد من رماد العدم.
أجالت نظرها مرة أخرى في أرجاء الغرفة تملؤها الحسرة ويعصرها الندم.غرفة صغيرة بسومة كرائية مرتفعة ،جسد واهن تزحف الأمراض إليه منتشية في صمت .
-»يرحمك الله سيدي عمر» ، دعاء يتكرر بداخلها كلما ضاقت بها الدنيا . الأب الطيب الحنون ،كان كل أسرتها وأهلها بعد الرحيل المفاجئ لأمها. كانت هي لا تزال غضة طرية يملؤها النشاط ويسيل لعابها لملذات الحياة ومباهجها . الرجل المسن لم يمتنع يوما عن تلبية طلبات فتاته المدللة ،رغم قلة اليد كان دوما يسعى الى إسعادها ورسم الابتسامة على وجهها .لكن الموت اختطفه منها وهزم إصراره على العيش من أجلها .
استيقظت منتفضة من صدمتها ، الموت كشف لها الوجه الحقيقي للحياة .ما تملكه الآن محل بقالة صغير ينتظر من يسيره كي تتمكن من دفع ثمن اكتراء البيت وتوفير القليل من المال لتدبير شؤون حياتها ……..
«طنجة ، المدينة الجميلة ذات الروح الأوربية ، شاسعة بحيث يمكن أن تحتوي كل القادمين من مدن بعيدة ،تضمد جراحاتهم وتحتضن انكساراتهم وتمنحهم فرصة العيش في رخاء». هكذا وصفن لها هذه المدينة .قالت لها صديقاتها : لم لا ترحلين عن هذه المدينة المغمورة ، وتنطلقين مثل فراشة تعانقين صخب الحياة وتوهجها . طنجة تنتظرك ، هناك يمكنك العمل ،يمكنك الارتقاء ، يمكنك نسيان ماضيك البائس، هناك ستولدين من جديد . تمكن من إقناعها ببيع محل البقالة والمضي قدما نحو الشمال الساحر .
هناك بدأت حياة جديدة مفعمة بالتفاؤل .استطاعت بفضل صديقاتها أن تحصل على عمل في أحد المعامل .أقبلت على العمل بلهفة شديدة يملؤها الحماس والرغبة في تحمل المسؤولية . كان اليوم يمر طويلا ممتدا وهي واقفة أمام حزمة من الأسلاك الملونة ،تشذبها وتعيد ترتيبها ، وفي بعض الأحيان كانت تضطر الى العمل ليلا . وهي المدللة الخاملة سرعان ما أنهكها العمل ، فتخلصت منه كمن يتخلص من قميص ضيق .بحثت كثيرا لعلها تجد عملا أرحم وأسهل ،لكنها تأكدت بأن من لا شهادات له،لا موضع قدم له هناك ، ومن لاجذور لا جذور له ، لايمكن أن تنمو له أغصان .
تمكنت هذه المرة من الحصول على عمل كنادلة في مقهى ، كان لديها الوقت الكافي لتدلل نفسها وتعتني بأنوثتها الناضجة وأصبح لديها زبناء من نوع آخر . بيتها صار مزارا لصديقاتها يقضين معها الليالي ويقمن حفلات يصطحبن إليها رجالا ونساء لا تعرفهم . كانت بلهاء لا تعرف الرفض ؛ ترحب بالكل وتجتهد في إسعاد كل من دخل بيتها . مرت الأيام والسنين سريعة ،نفد المال ، تنكرت لها الصديقات ،انتهت كل العلاقات العابرة التي تركت ندوبا عميقة بداخلها وشوهت روحها المرحة . الجسد الجميل تغيرت تضاريسه ، لم يعد غضا مثيرا ، تسوست الأسنان ورسمت التجاعيد خطوطها القاسية فوق صفحة الوجه الصغير . الكل يتنكر لها حتى المدينة التي جاءتها حاملة معها أحلامها الجميلة لفظتها كعقب سيجارة ينتهي بها المطاف أن تداس بالأقدام .
العودة أمر مر عندما تكون مشبعة بالإخفاقات و الانتكاسات . تحمل حقيبة مثقلة بالأوهام وبقايا جراح لم تندمل ، تحط الرحال بمدينتها الأم ، لا شك أن المكان الذي سقط فيه رأسها ذات يوم لن يرفضها بل سيفتح ذراعيه محتضنا إياها بكل آثامها وبكل تشوهاتها .
اليوم ، تجلس في غرفتها على حافة السرير ، تمد يدا مرتجفة الى فنجان القهوة ، اللون القاتم يعيد بداخلها رسم مسار منعرج لمحطات حياتها ، الحياة الرخيصة التي أفقدتها آدميتها وجعلتها مجرد دمية يتلهى بها العابرون ثم يمضون في حال سبيلهم . فورة ندم عارم يتأجج في الأعماق ، يتحول الى ألم شديد تحاول إخماده بنيران سيجارتها الرخيصة. ترتعش اليد الممتدة الى شفتيها ، يعقبها زفير قوي أسود اللون يلقي معه آثار التوقد بالداخل . تفتح الراديو وتتمدد فوق السرير شاردة مع أغنية لها في نفسها وقع كبير .
العصافير هذا الصباح لم تتجرأ على دخول الغرفة كعادتها ، تطل من النافذة ثم تفر مفزوعة ، مبحوحة الاصوات تنعي جسدا نحيفا تعلق في الهواء .وتستغرق الغرفة في هدوئها المعهود ، وتستمر (الصباحات) في تساقطها كأوراق الخريف …