يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965
وصل المهدي بن بركة يوم الجمعة إلى مطار أورلي بباريز، قادما من جنيف حيث مقر سكناه. حطت الطائرة القادمة في الساعة التاسعة وعشرة دقائق. وصرح فليب برنيي (مهتم بالإشهار) أن بن بركة هاتفه ليلة سفره ليؤكد له حضوره في موعد الغداء في مقهى ليب بحي سان جرمان، والذي كان سيعقد بمعية السينمائي فرانجي وصاحب السوابق ،جورج فيكون، الذي لم يكن بن بركة يعرف شيئا عن ماضيه الثقيل.غير أن رواية أخرى تقول أن أصدقاء بن بركة في منظمة تضامن حذروه من المجموعة التي كان بن بركة ينوي الاتصال بها، وهكذا ورد في كتاب Perrault- Paris-1984 Un homme à part :Gilles، (ص386)، أن المهدي بن بركة فاتح صديقة هنري كيرييل (منظمة تضامن) في شأن فلم حول العالم الثالث ، فرحب كيرييل بالفكرة، واقترح عليه اسم المخرج جو ريس إيفان، لكن هذا الأخير لم يكن لديه الوقت للانكباب على الموضوع، فبحث بن بركة عن مخرج للعمل، وموازاة مع الخطوات التي اتخذها بن بركة قامت منظمة تضامن بالبحث عن هوية الأشخاص الذين اتصل بهم بن بركة حول موضوع الفلم، فحذر هنري كيرييل صديقه من الشبهات التي تحوم حول بعض الأشخاص، أعضاء «الفريق السينمائي»، فاقتنع بن بركة بتحذير كيرييل.
دار موضوع اللقاء مع هذه المجموعة حول مشروع فلم «باسطا»، والذي كان من المفروض أن تكون اللقطات الأخيرة منه من الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القارات الثلاث بكوبا. وسبق لبن بركة أن التقى بفرانجي وفيكون في القاهرة وجنيف، وكان مشروع الفلم ، كما كشفت التحقيقات فيما بعد، فخا نصب لابن بركة لتنفيذ عملية اغتياله.
وفق كتيب صدر بباريس سنة 1975 حول المهدي بن بركة، تمت الترتيبات الأولى لاختطاف بن بركة ابتداء من شهر أبريل 1965، تحت إشراف رئيس «الكاب 1»، الذي حضر إلى باريس، بأمر من الجنرال أوفقير، وأن السلطات الفرنسية لم تكن تعلم شيئا عن هذه الشخصية. وتبعا لنفس المصدر، فإن أوفقير حضر إلى باريس، يوم 21 أبريل، ليشارك في اجتماع خصص لتحضير عملية الاختطاف. (Affaire Ben Barka. Témoignages et documents- U.S.F.P. France-1975)
فهل حضر هذا الاجتماع الطرف المغربي والفرنسي والإسرائيلي والأمريكي؟
(ذكر تاريخ 21 أبريل أيضا في البيان الذي صدر عن الكتابة العامة للحزب ، في الذكرى الأولى لاختطاف بن بركة، 29 أكتوبر 1966 ، وذلك بناء على مجريات أطوار المحاكمة الأولى).
في ذلك اليوم ترك بن بركة حقيبته عند أصدقاء له ( جو أوحنا، الذي كان عضو منظمة التضامن الأفرو أسيوي، وكان أيضا عضو المجلس الوطني الاستشاري الذي ترأسه بن بركة بين 1955 و1959 ) بشارع جان ميرموز، وفي ملتقى الشانزيليزي التقى بالطالب الأزموري )، والذي طلب منه بن بركة مرافقته إلى الموعد في السان جيرمان ، لإعطاء رأيه في الفلم المراد تنفيذه ). ولعل هذا العمل الذي رتبه بن بركة كان نابعا ربما من تحذير زميله كيرييل من الشبهات التي تحوم حول بعض الأفراد من «الفريق السينمائي»، وهذا الطالب في التاريخ ، هو الذي كان وراء إشهار عملية الاختطاف، وكان الورقة التي لم يدخلها المختطفون في حساباتهم، ولم يستطع منفذو الاختطاف أمام مقهى ليب، الحسم في أمر الأزموري. كان ذكاء بن بركة حاضرا، فرغم دقة التخطيط للاختطاف، كان الأزموري وراء إفشاء العملية، ولولا هذا الطالب لظلت عملية اختطاف واغتيال بن بركة لغزا محيرا إلى يومنا هذا، أو أنها كانت ستأخذ أبعادا أخرى .إضافة إلى أن بركة و الأزموري حضرا إلى المكان قبيل الموعد، وهو الاحتياط الذي اتخذه بن بركة في هذا الموعد/الفخ، وأفلح على الأقل في إرباك حساب المختطفين وبالتالي فضح عملية الاختطاف. وحسب شهادة جورج فيكون ، فإن أوفقير أنب كثيرا المختطفين لبن بركة على تركهم الطالب الأزموري على الرصيف ، دون اعتقاله.
بينما بن بركة و الأزموري يتجاذبان أطراف الحديث على الرصيف، تقدم نحوهما فجأة رجلان، الأول توجه إلى بن بركة مشهرا بطاقته، طالبا منه مرافقته في سيارة الشرطة ويتعلق الأمر بالضابط سوشون، في حين توجه رجل الشرطة الثاني- فواتو- إلى الأزموري طالبا منه الابتعاد. لم يبد بن بركة أي اعتراض في الصعود إلى سيارة الشرطة. وهذا الامتثال إلى أوامر سوشون أثارت عددا من التساؤلات حول عدم رفض بن بركة لطلب سوشون.
جاء في كتاب جيل بيرو: «Un Homme à part»، الصادر في باريس، سنة 1984، معطيات صادرة عن رفاقه في منظمة تضامن ، نجد في الصفحة 386 من هذا الكتاب، أن بن بركة الذي كان يعيش في شقته دون أخذ الاحتياطات التي كان يلجأ إليها عندما يتحدث إلى أحد ، بفتح المذياع ، لمواجهة كل احتمال تجسس على محادثاته . وأنه في سنة 1965 ، عندما كان الجميع ينتظر تبوأه لرئاسة مؤتمر القارات الثلاث أصبح رجلا منهكا من خلال الاحتياطات التي كان يتخذها في حياته اليومية.
ليلة سفره إلى باريس تم الاتفاق بينه وبين جيهان فانجن على ترتيبات إقامته بباريس ، إنه أول سفر لبن بركة إلى باريس باسمه الحقيقي ، بعدما عمل مناضلو تضامن على ربط علاقات بينه وبين مستشاري دوكول ، الذي اهتم كثيرا بالتحولات الجارية لموازين القوى في العالم بظهور القوة الجديدة، مؤتمر القارات الثلاث ، ورئيسه المقبل بن بركة، خصوصا وأن هنري كيرييل ، كان ينظر بتفاؤل لسياسة فرنسا تجاه العالم الثالث، فمن ضمن ترتيبات مواعيد بن بركة في باريس أيضا لقاء في قصر الإليزي يوم 30أكتوبر، بين أحد مستشاري دوكول وبن بركة، ويضيف أصدقاءه في منظمة تضامن، أن هذه الخطوات جميعها أعطت لبن بركة إحساسا بالأمان لدى زيارته الرسمية هذه إلى فرنسا، ولقاءه بأحد كبار مستشاري الجنرال دوكول. وقد رفض أن يكون في استقباله بمطار أورلي ، مناضلو تضامن حتى لا يكون لهذا انعكاس سلبي ، لدى الإليزي ، فهو إذن كان يعتبر نفسه ضيف الرئيس الفرنسي.
(أثناء معارك البيانات بين مسؤولين مغاربة ودوكول، تم التهديد بالكشف عن تقرير لبن بركة حول لقاءات مع دوكول)
لكن ذلك لم يقنع أصدقاءه الفرنسيين، فتم التراضي على أن يلتقي بأحد أفراد منظمة تضامن في الساعة الخامسة من مساء يوم 29 أكتوبر على أساس أن موعد وصول طائرته سيكون بعد الظهر، وبعد موعد اللقاء في المقهى ، سيحمله فانجن إلى منزل أحد «المناضلين « جو أوحنا . يؤكد فانجن أنهم لم يكونوا على علم بالموعد في مقهى ليب. إذا كانت هذه المعلومات صحيحة، لماذا غير بن بركة موعد سفره من ظهيرة يوم الجمعة إلى التاسعة والنصف صباحا؟
وعندما طلب منه الشرطي سوشون مرافقته في سيارة الشرطة، بعدما أبرز له البطاقة المهنية، تبعه دون اعتراض، لأن إحساسه بالأمن فوق التراب الفرنسي كان قويا، خصوصا أنه سيستقبل داخل قصر الإليزي، وربما ربط حضور الشرطة بالموعد المضروب في اليوم التالي. فإذا كان ذلك صحيحا، هل كانت هناك أوساط داخل قصر الإليزي غير راضية على التقارب بين بن بركة ورئيس الجمهورية الفرنسية، وأن موعد اللقاء سرب إلى الجماعة التي كانت تتهيئ لاختطافه أو اغتياله؟ هل كان تسريب موعد بن بركة ضمن الصراع القائم بين أجنحة متعددة داخل قصر الإليزي، وأن بن بركة أدى ثمن ذلك؟ هل كانت هناك أطراف داخل أجهزة الدولة الفرنسية غير راضية على هذا التقارب بين رئيس مؤتمر القارات الثلاث المقبل، ورئيس فرنسا ذي الميول نحو العالم الثالث؟ هل استعملت الإدارة الأمريكية بعض أوراقها الفرنسية لإفشال موعد السبت 30 أكتوبر؟ وخصوصا وأن كوبا ستحتضن مكان مؤتمر القارات الثلاث، في ظل ما كان يعرف بالحرب الباردة. وأخيرا هل كان ذلك التقارب بين بن بركة ودوكول يشكل خطرا على سياسة فرنسا تجاه المغرب، وبالخصوص مواقف المصالح الاقتصادية الفرنسية الكبرى؟
المهم من هذا وذاك أن الرئيس الفرنسي أعلن غضبه الكبير، واحتل الواجهة في قضية بن بركة، وهذا ما أثار استفهاما لدى عدد من المراقبين، كتب في حينه أن أم بن بركة أرسلت رسالة، عن طريق أحد الصحفيين، إلى دوكول تطالبه فيها بالبحث عن ابنها، فكتب دوكول جوابا يتعهد فيه بالبحث عن مصير بن بركة، وعلم فيما بعد أن ذلك الجواب قد مر من القنوات الدبلوماسية، فزمجر وطلب أن تسلم الرسالة مباشرة إلى «ماما فطومة»، والدة بن بركة (نوفيل أوبسرفاتور.2-8 فبراير 1966).
صعد بن بركة إلى المقاعد الخلفية بين سوشون وراكب آخر اسمه لوني، له ماض خاص في الإجرام. كان يجلس إلى جوار السائق رجل آخر برز اسمه بشكل جلي أثناء التحقيق والاستنطاق، ويتعلق الأمر بأنطوان لوبيز، وهو الذي كان يوجه السائق فواتو نحو مكان الاختطاف، باتجاه فونتني لو فيكونت، وبالضبط نحو فيلا يملكها بوشسيش، أحد وجوه الإجرام في فرنسا، ووفق رواية فرنسية، كان بوشسيش في استقبال الضحية والجناة، وصرح الشرطيان اللذان قاما بعملية الاختطاف ، بأنهما لم يريا أي واحد من رجال العصابة التي احتجزت المهدي بن بركة في فيلا بوشسيش.
خصصت جريدة لوموند ليوم 18 نوفمبر 1965 مقالا ت حول تطور التحقيق في اختطاف بن بركة ، والذي مس في البداية الشرطيين: سوشون وفواتو، وأدت أقوالهما أمام قاضي التحقيق إلى استنطاق لوبيز. فقد صرح الشرطيان أنهما قاما بفعلهما نظرا لدور لوبيز داخل مصالح المخابرات، التي كانت تنعت في الصحافة في البداية بهيئة رسمية، وأنهما كانا يعتقدان القيام بمهمة رسمية. واعترف لوبيز أمام قاضي التحقيق أنه حضر إلى موعد الاختطاف متنكرا بنظارات وبشارب مستعار استعاره قبل مدة من الشرطيين سوشون وفواتو. وأن فيكون رسم للشرطيين ملامح بن بركة، ليلتحق بعد ذلك بالمقهى، موعد اللقاء، حيث ينتظره كل من برنيي وفرانجي. وعندما حضر بن بركة والطالب الأزموري، كان ديباي وباليس يراقبان العملية في الجانب الآخر للطريق. ولحقا بسيارتهما سيارة الأمن التي كانت تقل بن بركة نحو فيلا بوشسيش. قال لوبيز لبوشسيش: «عليك أن تقول أننا حملناه إلى هنا لحمايته من محاولة اغتيال»، بعد ذلك عاد لوبيز إلى باريس رفقة أحد الشرطيين. وهاتف الجنرال أوفقير الموجود بالمغرب. وسيصرح لوبيز فيما بعد أن لوروا رئيس المصلحة التي كان يتعامل معها، أوحى له باتهام أوفقير ، كان هذا عندما أحس لوبيز بأن السديك لم يمد له الحماية أثناء التحقيق والمحاكمة. صرح إذن لوبيز أمام قاضي التحقيق، أن الشتوكي عضو في جهاز الأمن المغربي، وباتفاق مع سلطات فرنسية، طلب منه استقطاب شرطيين فرنسيين، وأضاف أنه التحق في اليوم الموالي بالمطار في الساعة الخامسة والنصف لاستقبال الجنرال أوفقير، الذي كان برفقة الدليمي ورجل آخر اسمه الحسيني (لعله الممرض الحسوني)، وأن لوبيز نقل الجنرال أوفقير إلى فيلا بوشسيش، في حين انتقل الدليمي و»الممرض» بوسائلهما الخاصة. وبعد تسليم مفتاح فيلته إلى أوفقير التحق بعائلته التي كانت في عطلة بمنطقة لواري.
لاحظ المحامون ومتتبعي قضية بن بركة، ومن خلال ما تم الكشف عنه خلال «التحقيق» أو المحاكمة، أن ردود فعل مصالح المخابرات الفرنسية (S.D.E.C.E)، عقب عملية الاختطاف كان مثيرا للانتباه، خاصة بالنسبة للوروا الذي لم يلتحق بعمله صباح يوم 29 أكتوبر. وتوجه مباشرة إلى مطار أورلي، حيث وصله حوالي التاسعة والنصف، وهو نفس الوقت الذي وصل فيه بن بركة إلى مطار أورلي قادما من جنيف، وبرر لوروا هذا التنقل[بأنه حضر المطار لاستقبال رئيسه الجنرال جاكيي، لكن المحكمة ستكتشف أن طائرة الجنرال كان موعد وصولها إلى المطار في الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة، وليس التاسعة والنصف، كما أن لوبيز هو الذي يتكلف عادة بهذه الشكليات، وهي إجراءات قصيرة، كما اعترف بذلك لوبيز نفسه، والذي أخبر لوروا في صبيحة ذلك اليوم أنه لن يكون موجودا في المطار، وأن زوجة لوروا هي التي تلقت المكالمة. وصرح بما يلي: «طلبت منها أن تخبر زوجها بالموعد مع المغاربة، وقد نطقت باسم بن بركة أو ب ب ، ولن يكون هناك أدنى خلط في ذهن لوروا عندما تخبره زوجته بمضمون المكالمة «
(هل يتعلق الأمر بالموعد مع المغاربة الأربعة التي ذكرت أسماؤهم في تقرير لوروا المؤرخ في 22 أكتوبر 1965 ).
لاشك أن لوبيز كان يهيئ صحبة آخرين اللمسات الأخيرة لتنفيذ الاختطاف، إذ كان موجودا في السيارة التي اختطفت بن بركة، وهو الذي كان يوجه سائق السيارة نحو فيلا بوشسيش. بعد انتهاء العملية هاتف لوبيز لوروا من نادي يدعى Vieux de la vielle، فأجابه أحد مساعدي لوروا، يدعى بواتيل، فأملى عليه لوبيز النص التالي : «
De la part de don Pedro, faire connaître à Thomas que le rendez-vous avait lieu à Fontenay, prés de chez moi.
واكد بواتيل بعد ذلك تلقيه لهذه المكالمة، وأنه شبه متأكد أنه سلم المضمون إلى لوروا، عندما عاد هذا الأخير إلى مكتبه في الساعة الرابعة بعد الظهر. لكن الوثائق التي قدمت إلى المحاكمة تنفي وجود تسجيل لهذه المكالمة، فهل كانت هناك عملية إخفاء من لدن مصالح المخابرات الفرنسية لنفي أي علم لها بعملية الاختطاف؟
وبقدر ما نجد عناصر المخابرات الفرنسية متورطة في عملية الاختطاف، بقدر ما نجد منحى نحو إنقاذ المصالح من تهمة التورط في عملية الاختطاف، والوثائق التي قدمت، تهم بالأساس الأشخاص قبل المؤسسة.
بعد ظهر يوم الجمعة 29 أكتوبر، ساعات بعد عملية الاختطاف، انتقل بوشسيش ولوبيز إلى مطار أورلي، في الساعة الخامسة والنصف، حيث اتصلا مرتين بهدف التحدث إلى أوفقير، وكشفت سجلات التلفون بالمطار أن لوبيز كان يتصل بالرقم 03 -201 بالرباط ، لكنهما أبلغا ضابطا مغربيا بأنهما حصلا على»الطرد»، وأن على أوفقير القدوم فورا إلى باريس.
في الساعة التاسعة ليلا تمكن لوبيز من الاتصال بأوفقير ، الذي كان موجودا في مكناس ،وأخبره بنجاح العملية وضرورة حضوره، لكن أوفقير طلب مهلة للاستشارة . في الساعة العاشرة والنصف ،اتصل أوفقير بلوبيز ليخبره بأنه سيصل إلى باريز يوم السبت 30 أكتوبر ، حيث حل بمطار أورلي في الخامسة بعد الظهر، أما الدليمي فقد سبقه إلى باريس، قادما من الجزائر ،حيث حل بالمطار في الساعة الثانية ظهرا. ووفق الرواية الفرنسية رافق أوفقير والدليمي في تحركاتهما كل من «الشتوكي»، الذي أشير إليه في تقرير لوروا إلى رئيسه الكولونيل بومون ، بأنه ( الشتوكي) مكلف بمهمة مغربية، و»طالب» اسمه الماحي، وهو في الحقيقة عميد شرطة. قاد لوبيز أوفقير إلى فيلا بوشسيش، ليغادر صحبة عائلته إلى منطقة لواري.
استقر أوفقير والدليمي وشركاؤهما في فيلا لوبيز، الذي عاد إليها في نفس الليلة، والظاهر أنه كان مهتما لمعرفة تطورات عملية الاختطاف. حل بفيلا لوبيز أيضا أناس على متن سيارة تحمل لوحة السلك الدبلوماسي، ووفق رواية لوبيز فإن أوفقير لم يمض الليلة في الغرفة التي حجز لها له الماحي بفندق «روايال –مونصو»، فقد تنقل كثيرا تلك الليلة، وغادر باريس في اتجاه جنيف في الساعة الثامنة وثمانية دقائق صباحا. أما الدليمي وبقية أفراد المجموعة المغربية فقد غادروا مطار أورلي في نفس اليوم، وتبعهم بوشسيش يوم الاثنين 1 نوفمبر. في نفس اليوم أيضا عاد الدليمي إلى باريس وتبعه أوفقير يوم الثلاثاء، للمشاركة في حفل إتمام تدريب عدد من العمال بمقر وزارة الداخلية الفرنسية بحضور وزير الداخلية الفرنسية روجي فري، وتوبع الحفل مساء في إقامة رسمية، وهناك سلم إلى باليس، أحد المشاركين في عملية الاختطاف، مبلغ مليون فرنك فرنسي قديم، لتدبير عملية فراره من فرنسا.
في صباح يوم الخميس 4 نوفمبر، صباحا غادر أوفقير والدليمي بسرعة العاصمة الفرنسية، لتقدم البحث من لدن عدد من الأجهزة المختلفة، والتي بدأت تربط اختفاء بن بركة بتقارير سابقة للمخابرات الفرنسية عن مشاريع أشرف عليها أوفقير للتخلص من بن بركة.
بعد عملية الاختطاف لم يتمكن الأزموري من إبلاغ الطلبة الاتحاديين بباريس، باعتقال بن بركة، من لدن شرطيين فرنسيين، إلا في الساعة الثالثة بعد الزوال). هناك رواية تقول بأنه اختفى عن الأنظار لمدة ثلاثة أيام، لكن العودة إلى الأحداث تتبث أن الأزموري أخبر أصدقاء بن بركة في نفس يوم اختطافه، وإلا كيف عرف محمد الطاهري المقيم بباريس وصديق بن بركة، نبأ اختطافه في نفس اليوم) وفي الساعة السابعة مساء كان الجميع من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصحافيين، على علم باختطاف بن بركة. اتصل الطاهري بعدد من القياديين الاتحاديين، وحاول أيضا إعلام أصدقاء بن بركة من الفرنسيين، لكن دون جدوى.
يوم السبت 30 أكتوبر 1965
في صباح يوم السبت 30 أكتوبر، وفي الساعة الحادية عشرة، « علم « وزير الداخلية باختطاف بن بركة من لدن شرطيين فرنسيين. في الساعة الثالثة والنصف هاتف العميد المركزي شارونديير، من الاستعلامات العامة التابعة لولاية أمن باريس، مصالح S.D.E.C.E وطلب من ضابط المداومة إن كان على علم باختطاف بن بركة، فأجاب الضابط بأن لا علم له بهذه القضية، وفي مكالمة أخرى سلم نفس الضابط للعميد شارونديير، عنوان ورقم هتف محمد الطاهري، وهنا تسائل المحامي ستيب إبان المحاكمة : لماذا لم تسلم المصلحة الثالثة كل ما لديها من معلومات إلى مصالح الاستعلامات بباريس، ولما أنكر مسؤولوها معرفتهم بالقضية؟ وتزداد الأمور غموضا بالنسبة لهؤلاء، عندما اختفوا من الساحة، مستغلين عطلة نهاية الأسبوع الطويلة، والتي صادفت عيد الموتى(1 نوفمبر).
في صباح يوم السبت 30 أكتوبر، أخبر الطاهري إدغار فور بما تعرض له بن بركة، وطلب منه الاتصال بالسلطات الفرنسية، وإخبار جريدة لوموند، عن طريق جان لاكوتير. في الساعة الثانية عشرة زوالا اخبر الطاهري من لدن جان لاكوتير، ومن طرف بعض المسؤولين الفرنسيين، أن بن بركة ليس بين يدي الأمن الفرنسي.
أبلغ والي أمن باريس بابون، وفق تصريحه أمام المحكمة، وزير الداخلية بالخبر في الساعة الحادية عشرة والنصف من يوم السبت . و بابون هذا يعرف جيدا موقع المهدي بن بركة في الساحة السياسية المغربية، فقد كان عميد شرطة الرباط سنة 1952 ، و كان يتابع تحركات بن بركة إبان فترة النضال من أجل الاستقلال.
في منتصف نهار السبت 30 أكتوبر، كانت الحكومة الفرنسية إذن على علم بجريمة اختطاف بن بركة فوق التراب الفرنسي. لكن لا أحد حرك ساكنا،وهو الشيء الذي أثار حفيظة دفاع الطرف المدني إبان المحاكمة. لم تعلن الخطوات الأولى للقيام ببحث في الموضوع إلا يوم الأحد 31 أكتوبر بعد الظهر، كما أكد ذلك عميد الشرطة مارشان، الذي أكد الجميع أنه لم يكن في مستوى الحدث، إذ لسبب أو لآخر لم يبدأ بالقيام بالإجراءات الأولى للبحث إلا يوم الأحد 31 أكتوبر، في الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة، حيث وزعت برقية على مراكز الشرطة حول اختطاف بن بركة. ويظهر أن هذه البرقية لم يتعد مفعولها إلى البحث في كل ما ينتقل بين المغرب وفرنسا، ولم يشمل أيضا مراقبة الأشخاص الذين ساهموا في عملية الاختطاف ومن بينهم، بوشسيش، الذي سافر إلى المغرب يوم 1 نوفمبر 1965 في الساعة التاسعة وخمس وأربعين دقيقة.
تم إخبار عميد الشرطة مارشان من لدن الطاهري، الذي سبق ذكره، بأن أوفقير موجود بفرنسا، لكن لا أحد أخذ بعين الاعتبار هذه المعلومات، واختفت ورقة المعلومات التي تخص الجنرال أوفقير ووصوله إلى باريس يوم 30 أكتوبر في الساعة الخامسة والنصف، ولم يعثر عليها أحد.
في يوم الأحد 1 نوفمبر، استقبل مارشان، زيارة فليب برنيي، ودار الحديث حول موضوع اختطاف بن بركة. كان برفقة مارشان مساعده كيرلان، طلب مارشان من برنيي ، فيما إذا كان يشك في أحد، فأجابه:
«نعم، لدي شكوك، فقد أخبرني المهدي بن بركة بالمحاولات التي كانت تستهدف تصفيته، وأن الجنرال أوفقير وراء ذلك.» فقال مارشان، وإذا كان الفاعل هو الجنرال أوفقير، فأجاب بيرنيي:
« لن يخرج بن بركة منها سالما، إني أعرف فظاعة أوفقير، إنه رجل يقتل، وهذا معروف عند الجميع».
ومع كل هذه المعطيات، لم يخلص عميد الشرطة، الذي كان يقوم بالمهمة بالنيابة إلى الربط، في نفس الوقت، بين اختفاء بن بركة وحضور أوفقير بباريس، واعترف مارشان بذلك أمام المحكمة. ومما زاد الطين بلة أن شهادة بيرنيي لم توضع في الملف، فقد ظهر له أن اتهام وزير الداخلية المغربي أمر خطير جدا.
كان العميد كاي، من الاستعلامات العامة، أشد انتباها لما يجري، ويظهر من خلال تسلسل الأحداث، انه كان يدرك خطورتها. وهذا ما دفع دفاع الطرف المدني إلى الشك في نفس الوقت في نوايا مارشان وكاي على السواء. وأكد المحامي بريكويي أن مارشان كان يعلم بما سيجري من أحداث.
كان عميد الشرطة كاي، صديقا للمحامي والبرلماني لومارشان، الذي هو بدوره صديق و درع لجورج فيكون صاحب السوابق في عالم الإجرام، وقد تبدو من هذه العلاقات الروابط التي تجمع بين مسؤولين من الأمن وعناصر إجرامية، وهي نفس الظاهرة التي سوف تبرز من خلال علاقات عملاء المخابرات الفرنسية مع أصحاب السوابق، من خلال الحلقة التي تجمع بين لوروا و لوبيز وبوشسيش ولوني وغيرهما. وهي نفس الشبكة التي خططت وساهمت في تنظيم الاختطاف، بل حاولت في بعض اللحظات تظليل البحث عن بن بركة، والتستر على معلومات لها أهميتها ، لو كشفت في حينه، أي لو قام هؤلاء الموظفون الفرنسيون بواجبهم لربما أخذت قضية بن بركة منحى آخر.
يوم 1 نوفمبر 1965
أدت مواكبة كاي للأحداث قبل وأثناء وقوعها إلى جمع المعلومات حول عملية الاختطاف، منذ يوم الاثنين 1 نوفمبر 1965، وذلك بفضل مخبرين أمثال كوهيي و فينيو و وورث ومارفيي وآخرون، وبفضل هؤلاء تم جمع معلومات أخرى في صباح يوم الثلاثاء 2 نوفمبر. كان فيكون يحكي في الحانات أنه شارك في عملية اختطاف بن بركة. كان وراء هذه المعلومات كل من جان مارفيي وجيرالد كوهيي، فقد التقى الاثنان فيكون في حانة تسمى Courrier de Lyon ، مسائي 29 و 30 أكتوبر.
في مساء يوم 29 أكتوبر التقى فيكون بما رفيي وكوهيي، وفهما منه أن أحدا اختطف اليوم ، وفي مساء اليوم الموالي ، صرخ فيكون أمام نفس الشخصين ، وفي نفس الحانة : Ca bouge, ça va bouger .
انطلاقا من هذه المعلومات، حاول كاي الاتصال بالمحامي لومارشان، الذي هو في نفس الوقت صديق فيكون وكاي، وتمكن من ذلك يوم الثلاثاء 2 نوفمبر، في الساعة الواحدة زوالا . كان فيكون متلهفا لحكي القصة من ألفها إلى يائها ، وكما لاحظ المحامون في حينه ، أن فيكون كان يرمي من وراء ذلك إلى خلق فضيحة داخل الأوساط الرسمية الفرنسية، ليسهل إخفاء عملية الاختطاف والاغتيال، فقد كان فيكون، وفق شهادة صديقه المحامي لومارشان جد حذر، وكان بعمله هذا يهدف إلى عدم توريطه وحده في العملية، خصوصا، وانه استعمل في خطوة التقرب من بركة، إذ كان عضو «الفريق السينمائي»، وأكد لومارشان، أن فيكون ما كان أن ينخرط في هذه العملية لو لم يكن متأكدا من أنه لن يتعرض إلى أي عقاب. ويمكن أن نظيف أن الأمر كان بالنسبة لهذا الرجل خدمة يجب أن يؤدى عنها ، ولذلك كان يلح على تسليمه مبلغ 100 مليون فرنك فرنسي ،مقابل الخدمات التي أدها إلى «المغاربة». وكما كتب في حينه، ألم يهاتف لوبيز، لوروا أمام فيكون، ليتبث له أن المصالح الفرنسية وراء العملية؟ وعندما حكى فيكون لصديقه لومارشان ما جرى، كان يعرف حتما أن كلامه سيصل إلى عميد الاستعلامات العامة كاي، لكن لم يصرح بأي اسم من الجماعة التي اختطفت بن بركة، وربما كان هذا هو المنطق السائد في وسط العصابات، ولذلك تمحورت تصريحات جورج فيكون حول عملية اختطاف بن بركة وتصفيته. ولم يمنع كل هذا من انتقال فيكون إلى الدار الآخرة شهورا قليلة بعد اغتيال بن بركة، خصوصا بعد أن افتضح أمره، وأصبح يشكل تهديدا على الآخرين، فوجد « منتحرا» في الوقت الذي حاصرت قوات الأمن منزله.
لم يسلم كاي كل المعلومات التي كانت بحوزته إلى ضابط الشرطة، الذي كلف بالبحث.