«رماد الذاكرة» لحسن لختام … بين عمق الرؤية وجمال التشكيل

يكاد الحوار يستغرق الكثير من نصوص المجموعة القصصية «رماد الذاكرة» للقاص حسن لختام حيث أن تقنية الحوار من بين الأساليب التي تحضر بكثافة في بناء المجموعة، لكأنه السمة الأبرز، الأسلوب الأقوى الحاضر في الكتابة. كما في مثال نص «قلوب» ص 27، حيث يدور حوار وجودي بين طفل و أبيه، يبين ذكاء الطفل، وتكون قفلة النص كبيرة بكبر قلوب المؤمنين، مما ينم عن الطابع الدرامي للنصوص.

ولعل التركيز على تقنية الحوار في القص الوجيز هو وسيلة للحفاظ على واقعية الأحداث، وجعل الخطاب أكثر حيوية ودرامية كما هو واضح في النص السابق وفي نصوص أخرى غيره، بالإضافة إلى أن عملية التحاور بين الشخصيات، نمط من التواصل القائم على أساس التبادل و التعاقب على الإرسال و التلقي. فالحوار يسمح كذلك بإقحام وجهات نظر الآخرين، ووضعهم في المواجهة، أو واجهة الأحداث إلى درجة تسمح للقارئ أن يأخذ نظرة عن القضية المعالجة. فالحوار يركز في القص الوجيز على الحدث بشكل أخص. إنه أسلوب غير مباشر لمعالجة قضية ما وجعلها بؤرة النص ولب النقاش..
من الجميل أن تقرأ لحسن لختام، فهو يصنع لك عالما يعيرك بالسفر في حروفه، والتجول بين معالم بنائه، نصوص لختام عالم مذهل ومدهش، يمنحك المتعة، ويغسلك بالإفادة، ويغنيك انشراحا.
عالم لختام القصصي يتميز باللعب على المفارقة والسخرية والنقد اللاذع والتوظيف الجيد للصورة والمشهد، فضلا عن التقطيع والتركيب، مع اعتماد الكلمة الرقيقة والهادفة، ومع استحضار البعد العجائبي. لقد أبدع «حسن لختام» نصوصا قصصية مدهشة تظهر أنه يمتلك ناصية هذا الشكل التعبيري الادبي الراقي والجميل… يخوض لختام مغامرة كتابة النصوص القصيرة جدا وهو مدرك تماما صعوبة هذا الفن النبيل، ولم يسع بتاتا إلى استسهاله، لتمكنه، وإدراكه لخباياه. إنه يمتلك تكوينا عميقا بفعل حرصه على تنمية معارفه، ورغبته في عدم إفساد الذوق العام، ولا يروم إطلاقا سوى السمو بهذا الشكل التعبيري الجديد.
حسن لختام يدرك أن القصة القصيرة جدا وليدة مقومات وعوامل تخييلية، وعليه، فكلما كانت قوية وعميقة، كانت محققة للمتعة ولذة القراءة.
إن حسن لختام يكتب ما يجلي ما سبق ذكره، معتمدا بشكل أخص التخييل الذي يعد اللحمة الجامعة للحدث وتحليل الواقعة واستبطان خفايا الشخصيات، ونسج الحكاية، والوصول بالمتلقي إلى النهاية المفاجئة..ويحق لنا أن نقول ما قاله القاص الكبير حسن البقالي في تقديمه للمجموعة:
« بعض المجاميع القصصية تثبت بأن يد القصة القصيرة جدا ليست بتلك الرخاوة التي يراها البعض، وبأن بإمكانها الإمساك بأشياء العالم، كما بأفكار الحالمين، دون أن ننسى بأنها يد للتأشير على النقاط السوداء في الواقع المتردي والتاريخ المتآكل.. تصنع ذلك وهي تبني –مثل طفلات الشاطئ السعيدات- بيوتا للمفارقة، بنوافذ للدهشة والسخرية.. بيوتا حيث تتصادى الكلمات والأزمنة والأصوات، ، من دون كيشوت إلى ميكيافيللي، فثغثغة الأسطورة وحكايات أول الخلق. هكذا تتفلت القصة القصيرة جدا عند حسن لختام، وهي تنزع أرديتها، حتى يضيق..يضيق الجسد، ويصير مجرد ضوء يومض ليوحي بالمعنى..»

 البنية الدلالية
لـ «رماد الذاكرة»

يبتدئ حسن لختام مساره الفني و الإبداعي بكتابة عدد من القصص القصيرة ذات الحمولة الاجتماعية والنفسية، لينتقل بعد ذلك إلى تجريب جنس أدبي لم يعد جديدا في الساحة مادام قد خرج من زمن الحبو إلى زمن الرشد واستقامة العود، ألا وهو جنس القصة القصيرة جدا، وقد كتب مجموعته الأولى»رماد الذاكرة» في اثنين و ثمانين قصيصة مختلفة من حيث المواضيع والتيمات والأبعاد الدلالية. ومن ثم، اتسمت قصيصاته بالشاعرية، كما في قصيصته»غربة»، كما انساق وراء الرؤية الواقعية، ويتضح ذلك جليا في مجموعة من النصوص، مثل: «محاكمة» ص 11، إضافة إلى إفراد حيز مهم للقضايا الوجودية وتلك التي تشغل باله و بال المجتمعات العربية، ومنها على وجه أخص، قضية الإرهاب والدين، والحرية والقمع، ويتجلى ذلك في العديد من القصيصات، منها، على سبيل الذكر، لا الحصر: «نتشه» ص 56، و»سكارى» ص 54، و»معبد» ص 52، و»لاهوت» ص 53، و «محاكمة» ص 50، فضلا عن تطرقه لقضايا نفسة واجتماعية ذات خطورة ، كالأنانية والجشع، والحسد، وغيرها من الموضوعات، ويكفي أن نشير إلى بعض الامثلة الدالة والمبينة..»أنانية» و»تفاخر» ص48 و»النهر» و»غليان» ص .47..
«هذا، وقد شغل القاص مجموعة من المتخيلات الموضوعاتية، كمتخيل تضخم الذات،»كبرياء» ص 8، ومتخيل الحرية، «مطر» ص 9، «تحرر» ص 12ومتخيل الغربة، «غربة» ص11، ومتخيل الحيرة، «حائر» ص 12
ومتخيل المعرفة والسعي إلى إدراك أسرار الوجود، «معرفة» ص 25، ومتخيل الوجود والحضور في الحياة، «إيمان» ص 23، ومتخيل الأمل، «فيض» ص 24
ويعني هذا أن المجموعة متنوعة من حيث التيمات والمحتويات، هذا بالإضافة إلى أن الكاتب يعبر عن ارتباطه بواقعه التزاما وملاحظة ورصدا وتقويما، مع الإشارة إلى أن القاص ظل مشدودا إلى القضايا الفلسفية العميقة، كالموت والحياة، والحرية والضلال، معتمدا في ذلك أسلوب السخرية والنقد اللاذع.

البنية الفنية و الجمالية

تختزن المجموعة الكثير من الملامح الشكلية والأسلوبية التي تميز القص الوجيز بشكل عام، وتوظيف التراكيب الفعلية، وسرعة الإيقاع، والإكثار من أفعال الحركة، وتنويع المقدمات والقفلات، مع تشغيل السرد، والصور السردية، والتوظيف المحكم للرمز والترميز.
ومن بين أهم الملامح المميزة لهذه المجموعة قصر الحجم، بحيث نعثر على نصوص ذات السطر الواحد إلى التي يبلغ عدد أسطرها أحد عشر، مما يعني تجويع اللفظ لحساب اتساع العبارة، ودليل على حرص القاص على الاختزال واعتماد بلاغة الإيجاز، مع التكثيف الشديد، مراهنا على المفارقة والقفلة المراوغة.
أخبرك أن الملمح الفني ينبغي أن يأتي بعد تحليل مجموعة من النصوص على مستوى التيمات
ومن بين النصوص الدالة على هذا التكثيف الشديد: نص»»حائر» ص 12،: قرأ الكتب المقدسة والتفاسير، لم تدخل في قلبه ذرة إيمان…
!!! ونص «تحرر» في الصفحة نفسها: بداخلي فتحت نافذة إلى الخارج قفزت متلهفا…و»
إن نصوص القاص لختام شبيهة بتلك الألغام الصغيرة جدا لكن مفعولها شديد، إنها كبسولات مشاغبة تتطلب درجة عالية من الوعي الإجناسي.

ملمح الترميز

ملمح الترميز وهو من الملامح الفنية الحاضرة بكثافة، كما في النصوص التالية، على سبيل المثال لا الحصر: «مؤلف» ص 23: في لحظة عشق و افتنان بها، ألف قصة غرام جارفة..كانت هي بطلتها التراجيدية.، ونص «انتصار» ص 23 : كلما كتب قصة قصيرة جدا، يتفكك من الداخل عضوا عضوا…. لما جاء الموت الأكبر…ليأخذه…لم يجد إلا العظام الخاوية. ونص «حصان سباق» ص..
29 : كان يعشق الصهيل في المضمار…ذات سباق، وقع، فانكسرت قوائمه. لم يعد مرغوبا فيه..عليه أطلقوا رصاصة.
نضبط الكثير من النصوص لقاعدة الفعل ورد الفعل، و تتوسع أحيانا إلى الاستهلال، الفعل، و رد الفعل، ثم النتيجة، و إليكم بعض النماذج الدالة على ذلك
في قصة «غريزة» ص 35: نام في حضنها كحمل وديع..في جوف الليل، افترسه نهداها الوحشيان، فنرى حضور بينية الفعل والنتيجة، وكذلك في نص «رعب» ص 28: بعد موتهم، أرسلوا أشباحهم تطارده..ظل يركض و يركض من شدة الهلع.. مازال يركض حتى بعد موته. نرى أن النص ينضبط لقاعدة الفعل ورد الفعل ثم النتيجة.
ملمح القفلة المراوغة، ونميل إلى القول إن النصوص بأكملها تقريبا تعتمد على مفاجأة القارئ، وتخييب انتظاره بما يحقق الدهشة، و يجعله يعيد قراءة النص من جديد، ونكتفي بالإشارة إلى النص التالي: «غزوات» ص 8 إن ينتهي بضبابية محببة، وغموض مشع، وقفلة مثيرة: شوهد هذه المرة، وهو يجر أذيال الهزيمة، في غزوة لا يعلم أحد تفاصيلها». ففي بداية النص نجد أنفسنا أمام مفتتح يرتبط بالديمومة: دائما، وهي لفظة تعبر عن التكرار المرتبط هنا بالنصر، فهو كثير الغزوات كثير الانتصارات، غير أن مسار الحكي سينقلب رأسا على عقب، إذ أن الناس سيكونوا شهداء على انكساره في غزوة ظلت مجهولة، وترك الغزوة مبهمة هو إشراك للقارئ لتحديد ملامحها بدل استهلاك النص بسلبية فاضحة، ومن هنا، يتأكد لنا، أن القص الوجيز الذي يحترم ذكاء القارئ، هو الذي يشرك هذا الأخير في كتابة النص وإعادة كتابته، يدفع به إلى أن يكون فاعلا إيجابيا في بناء النص.

 ملمح السخرية

ملمح السخرية: أساليب السخرية في الأعمال الأدبية تكون وسيلة لإدارك المفارقات والمواقف المثيرة، وهي لذلك أداة بالغة الأهمية أيضا في إثارة انتباه القارئ إلى عمق العيوب الفردية والتناقضات الاجتماعية. وقد مثلت السخرية إحدى أهم الوسائل الفنية لبلورة مواقف الشخصيات، وما يميز حالتها من تناقض بين الأفعال و الأقوال. وإذا كانت السخرية تخضر في الأدب بعامة، فهي في القص الوجيز بخاصة. ومن بين النصوص التي يمكن التمثيل بها على هذا الملمح
نص «شاعر» ص 9، حيث السخرية تظهر فيه بشكل قوي، وتزداد قوة من خلال إظهار تهافته وتكالبه، إذ كان من المفروض على هذا المثقف أن يكون في المقدمة، من الطلائع التي تقود الجماهير نحو التنوير والتثوير، غير أننا نجده رجلا متخلفا، لا يحب إلا السير خلفا، وراء المؤخرات، إنه شويعير مكبوت، كل همه أن يصيب جنسا، وأن يحقق متعة، وهو بذلك، أبعد ما يكون عن النموذج المحتذى، لا علاقة له بصاحب المقدمة ، الكتاب الفذ و العميق، بل هو من أصحاب المذهب الكلبي، يلهث وراء ما كور واستدار، ولا يبالي إن علم به الناس أم لا، لأنه من المخلوقات ذات الوجه المصفح…
كما أن نص»الرغيف الهارب» ص 43، يوظف منذ العنوان السخرية لإبراز الفشل الذي يعانق بقوة فئة من الناس، كتب عليها أن تظل في القاع تعيش، رغم ما تحمله في داخلها من طاقة تغيير، و رغبة في تحسين الوضع، و لعل السبب في هذا الفشل الذريع تلك الرغبة الفردية في تحقيق النجاح، بدل أن تكون رغبة طبقة تعاني العسر والاستغلال، إنه بحق، رغيف هارب، يتطلب الكثير من الجهد، والتداريب المكثفة لبلوغ الهدف، و يا له من هدف، إنه العدو حلف تلك المدورة، لا تلك التي يسعى خلفها الشاعر السابق، بل تلك التي تلتهب باستمرار، وتشكل الطعام الأساس لسكان المغرب.
إن السخرية لا تفارق المجموعة، ترافق كل نص فيها، تحمله نقدا للعديد من الظواهر السلبية، و المفارقات الصادمة، و يتحقق ذلك بفعل النظرة الثاقبة للقاص الذي يعرف كيف يلتقطها، كما في نص»حائر» ص12، حيث إن الحيرة ما كانت لتتولد من المطالعة ومجالسة الكتب، كان ينبغي أن تحقق للقارئ متعة وإفادة وإضاءة، لكن، نفترض أن كل تلك المتون المقوروءة لم تشبع نهم القارئ، ولم تحقق الهدف من وراء السعي، لكونها متضاربة، تعاكس العقل وتناقض الزمن.

ملمح التناص

ملمح التناص: التناص هو تشكيل نص جديد من نصوص سابقة وخلاصة لنصوص تماهت في ما بينها فلم يبق منها إلاّ الأثر، ولا يمكن إلا للقارئ النموذجي أن يكتشف الأصل، فهو الدّخول في علاقة مع نصوص بطرق مختلفة «يتفاعل بواسطتها النص مع الماضي والحاضر والمستقبل وتفاعله مع القراء والنصوص الأخرى.
يحضر هذا الملمح بكثافة، إذ يستغرق العديد من النصوص بشكل ظاهر، وفي أخرى، بشكل مبطن، يتطلب الكثير من الجهد للقبض عليه، ومن أمثلته، نص»مطر» ص 9، إذ يستدعي لافتات أحمد مطر في تشكيل النص وبنائه، ويكون وسيلة للسخرية من الرهاب الذي يعانيه العسكر من أشعار هذا الشاعر الساخر بامتياز، إن المطر، في ظنهم المريض، ما هو إلا لافتات تم إنزالها لتحقيق الفوضى وإثارة الغضب، وإلا، فما معنى أن يكون منزويا، ووحيدا؟ إنها مؤشرات لديهم تدل بما لا يدعو أي شك، أن الرجل يخذذ للتدمير، وإشاعة فوضاه الخلاقة.
كما أن نص»غزوات» ص8 يوحي بالغزوات المعروفة، وهو توظيف ذكي من القاص لإثارة انتباه القارئ، وشحذ همته، وجعله متيقظا ومتسائلا، وحين يفرغ من تناول النص، سيقف مشدوها، لكون الغزوات التي لامست ذهنه في البداية لا علاقة لها بتلك التي يشير إليها النص، فيخيب توقعه، الأمر الذي يحفزه على إعادة القراءة للإمساك بالمعنى، علما أن المفارقة الأخرى، القابعة في النص تكمن بين المقدس والمدنس…
أما في نص «جحيم» ص 34، فتحضر قولة سارتر، الآخر هو الجحيم، وتكون خلفية النص وتشكل ظلاله، إن القولة جيئ بها للتأكيد، لا للنفي، وبذلك، تتقاطع ورغبة النص وتؤكد فحواه
وبناء على ما سبق، يتأكد بقوة أن القاص لختام جاء إلى القص الوجيز بقوة ليغنيه ويقوي حضوره بفعل عمق مطالعته وعمق رؤيته، وما التناص والسخرية إلا حليفان له يحققان هدفه، ويبلغان به المبتغى الذي خطه..
من هنا، نقول إن المجموعة استحضرت ملمح الكتابة ومعاناتها، لإبراز مكانة القاص في المشهد الثقافي، وبخاصة، في مشهد القص الوجيز، هكذا نراه في نص «تناسل» ص 17، يبسط القول في هذا المجال، مبرزا المعاناة التي يشعر بها وهو يروم مغازلة الحرف لتشكيل نصوصه، حيث تداهمه الأسئلة الحارقة تلو الأسئلة، فلا يجد إلا الهروب كعلاج من وجع الرأس. والأمر نفسه نراه في نص «مؤلف» ص 13 حيث يهدف النص من بين قضايا أخر، إلى إبراز المعاناة، ولعل كلمة « تراجيدية» كافية للتدليل على معاناة الكتابة وألم مخاضها. ولا ننسى قصة»انتصار» الواردة في الصفحة نفسها، لكونها تشير بشكل جلي إلى عشق القاص للقصة القصيرة جدا حد الذوبان، فهي أخذت منه كل أعضائه عضوا عضوا، بحيث حين قدم الموت لم يجد ما يسلبه منه، لقد سكن نصوصه، وصارت له مأوى، وحمته من الموت.
حسن لختام قاص يعمل في صمت بهمة وورع النساك، تأتي مجموعته لتؤكد حضوره القوي في مجال القص الوجيز، هذه المجموعة التي نوعت في مضامينها، وتناولت قضايا كثيرة بنفس فني راق، حيث وظف العديد من الأساليب في عرض منتوجه، فوفق في ذلك لبراعته وقوة نسجه….


الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي

  

بتاريخ : 02/11/2018