يتميز الخطاب الأدبي بأهمية كبرى نظرا لوظيفته الجمالية والاجتماعية والروحية، وكذا تنوع موضوعاته التي تستميل المتلقي لها، وتحفِّزه على التفاعل معها دينيا واجتماعيا وفنيا، تبعا لما يحدثه هذا الخطاب من أثر على عاطفة الإنسان. ومن ثمة وجد أعلام الفن القصصي بالمغرب في الغزل العذري معينا طيبا ونبعا سلسالا يتوافق مع مواجيدهم، واستلهموا من قصص العشاق العذريين، التي وردت في صورة ثنائيات عاشقة مثل (قيس وليلى- جميل وبثينة- كثير وعزة) رموزا على غزلهم العذري، ذلك أن العاشق العذري يدخل تجربته سليما معافى ثم لا يزال به الحرمان والشوق والجوى حتى ينحل جسمه ويضمر عوده وتضطره مشاعره أن يختلط عقله، وإذا هو يهذي هذيان المحموم أو المجنون. ولم تشذ المبدعة فاطمة الزهراء المرابط عن استدعاء رموز الغزل العذري وتوظيفها في مجموعتها القصصية الموسومة ب”ماذا تحكي أيها البحر؟” إذ عبرت عن جوهر الغزل العفيف وما يتصل به من وصل وقرب وهجر وفراق وشوق ولوعة، إلى غير ذلك من العبارات والأساليب التي أطلقت عنان الخيال لمشاهداتها الغزلية اللطيفة.
1- إطلالة على المجموعة القصصية:
صدرت عن الراصد الوطني للنشر والقراءة بطنجة – المغرب مجموعة قصصية للكاتبة فاطمة الزهراء المرابط، تحمل عنوان: ماذا تحكي أيها البحر …؟ وتقع في (124) صفحة من الحجم المتوسط في طبعة أنيقة، وتشتمل على عشرين قصة، هي على النحو التالي: (أنت القصيدة؛ ص: 5) (انتظار؛ ص: 11) (سفر؛ ص: 17) (لعنة؛ ص: 21) (معاكسة؛ ص: 29) (أمواج؛ ص: 33) (وردة؛ ص: 43) ماذا تحكي أيها البحر؟؛ ص: 49) (S. M. S؛ ص: 55) (نوستالجيا؛ ص: 63) (التباس؛ ص: 67) (أيام الباكور؛ ص: 73) (شمعة؛ ص: 81) (أبواب مفتوحة؛ ص: 87) (ضباب؛ ص: 95) (ثرثرة؛ ص:103) (برج الهوى؛ ص: 109) (عبور؛ ص: 113) (تلك الشقراء؛ ص: 119). وتتأرجح هذه القصص بين الذاتية والموضوعية، وإن كنا في التحليل نعتبرها نصا واحدا، لأن ما يعنينا هو الموضوعة الكبرى/ البنية الكبرى للعمل الإبداعي، وليس بناه أو نصوصه الصغرى. ومن ثم عملنا على ترتيب الموضوعات حسب الكم الظهوري.
2- صور الغزل العذري
قمنا بإحصاء شامل للموضوعات ذات الصلة بتيمة الحب بما فيها هذه الأخيرة، عملا بقانون المقاربة الموضوعاتية، فتبين لنا بعد ذلك أن الموضوعة الكبرى المهيمنة هي تيمة الحب بأربع عشرة كلمة، تليها موضوعات أخرى كالعشق والغرام والهوى والوَجْد. يتبين أن الموضوعات تتصل اتصالا وثيقا فيما بينها، وذلك من خلال علاقات الاشتقاق أو الترادف، أو تتعالق مع بعضها بحسب وشيجة القرابة المعنوية.
ولهذه الغاية، يجري افتراض مقاربة التردد الإحصائي للموضوعاتي الذي يمكننا ملاحقته عبر تواترات تظل غير متوفرة على قاعدة ثابتة وعامة، مع أنه بإمكاننا حصر الموضوعاتي من خلال التكرار كطريقة عادية تسمح بالإلمام المعجمي أو السيميائي بالموضوعاتي الأساس والثانوي في النص، ممَّا يساعد على تبين المعمار الظاهر أو الخفي، وإدراك مفاتيح مكوناته كعلامة على قابليته للفهم والتأويل. والواقع أن النقد الموضوعاتي يتميز بدراسة البنية الرمزية والدلالية (الأفكار)، وذلك مع الحرص على أن يكون التحليل محايثا للنص، على الأقل في هذا الجانب بالذات.
يكتسي خطاب الحب في الأدب العربي عموما مكانة متميزة، إذ يرى الإمام ابن القيم الجوزية أن الحب حرَّك “النفوس إلى أنواع الكمالات إيثارا لطلبها وتحصيلا (…) وأثار بها الهمم السامية والعَزَمَات العالية إلى أشرف غاياتها تخصيصا لها وتأهيلا، فسبحان من صرف عليها القلوب كما يشاء ولما يشاء بقدرته (…)، فجعل كل محبوب لمحبه نصيبا، مخطئا كان في محبته أو مصيبا، وجعله يحب منعَّما أو قتيلا”.
ومن هنا نجد المبدعة فاطمة الزهراء تتوسل في غزلياتها الحسية بقوالب أسلوبية موروثة عن الغزل العفيف. ومن هذه الأساليب خاصية الجنون التي وسمت شخصية بعض العذريين، وخلخلت قواهم الشعورية نتيجة الصراع بين مبدأ العشق ومبدأ الواقع، مثل شخصية قيس بن الملوح الملقب بمجنون ليلى. وهذا ما يتجلى بوضوح قي الصورة الآتية: ” آه منك أيها المجنون، لم تجد سوى هذا اليوم الضبابي لتأتي إلي”، أهمس لنفسي. الضباب يغلف كل شيء والبرد القارس يتسلل إلى جسدي عبر المعطف الأحمر والقبعة الحمراء، الاختيار كان اعتباطيا، ولكني بدوت كأميرة في عيد الحب، ربما ستضحك عندما ترى لوني الأحمر، خداي اكتسبا حمرة غريبة”. إن المثير في تجربة الحب لدى القاصَّة، هو كونها تدفع الإنسان لكي يعيش أحداثها لا لكي يفهمها، ولذلك تلازم المعيش بالجنون في الحب حسب هذه التجربة الإبداعية.
بيد أن هذا الحب حفزها على الحلم الذي يخلق عالم الراحة، مع حركات السمو والانطلاق الحر. وهذا ما أشارت إليه في أعقاب حديثها عن شخصية الحاج ملوك: “ما يأتي به النهار يأخذه الليل، يتجه بعد صلاة العشاء إلى مقهى “السلام” ليتسامر مع عشاق الورق والضاما، وعندما تخف حركة الشارع، يحث السير إلى الحانة ليحتسي كؤوس الخمر حتى مطلع الفجر، ثم يقصد الحاجة ابْرَيْكَة ليجدد شبابه فوق الأجساد السمراء والبيضاء”. غير أن الانجذاب نحو كؤوس الخمر ليس هو الوحيد الذي يوقظ لدى الإنسان الحنين إلى ذات المحبوب، فسمو الطبيعة أيضا يقوي ذلك الحنين ويجذره. ومن هنا يظهر التلازم القوي بين الحنين إلى الاتصال بالمحبوب، وبين الحنين إلى الاتصال بالطبيعة.
3- مشاعر الحزن والشجن
شكلت موضوعة الحزن أهمية بالغة داخل المجموعة القصصية “ماذا تحكي أيها البحر؟” حيث ظهرت عشر مرات، وتتداخل هذه الموضوعة وجملة من الموضوعات الصغرى، هي: الشكوى والحرق والحيرة والبكاء. ومن هنا يتضح أن الموضوعات السابقة تتداخل وتتعالق فيما بينها، من حيث المعنى والدلالة، مما يسمح باعتبار كل منها امتدادا للآخر واستمرارا له. وسنعمل هنا على ترتيب الموضوعات ليس حسب الظهور، وإنما حسب حقولها الصغرى، وما يشكله كل حقل من دلالة متصلة بالموضوع الكبير أو الرئيس. عملا بضوابط النقد الموضوعاتي الذي قال عنه جيرار جنيت “Gerard Genette”: “لاشيء في الحقل الأدبي تعلَّمت منه أكثر ممَّا تعلمت من الدراسات التي أنجزها النقد الموضوعاتي، وانطلاقا منها رحت أبحث عن تطوير النقد، وهو تطوير قد يبدو الآن قد أدار ظهره لنقطة انطلاقه، لكن يبقى دائما أن النقد الموضوعاتي هو الذي علَّمنا كيف نقرأ، لأننا قبله كنَّا ربما ننجز أشياء مهمة، لكننا لم نكن نقرأ النصوص قراءة حقيقية”.
يبدو من خلال ملاحقة تردد موضوع الحزن –عبر المجموعة القصصية- أنه مرتبط بقضايا متباينة. وموضوع الحزن ظاهرة كبرى من ظواهره التي تتجسد من خلال صور داخلية وأخرى خارجية، تبقى لصيقة بفكرة الغياب أو التغييب الذي يأبى الحضور أو لا يسمح بذلك. وفي هذا المعنى تقول القاصَّة متألمة: “ألملم ثنايا جسدي المحترق تحت الملاءة كل ليلة وأنا أسترق السمع إليه، يتنهد بصوت مسموع ويتنشق أنفاسها بالشرفة. حضورها القوي لا يطاق، يشككني في أنوثتي، يدفعني إلى الوقوف لساعات أمام المرآة، أتأمل جسدي الناعم المعطر بالصابون والكريمات الملينة. تلك الشقراء، تلغي وجودي، تصيبني بالحنق، أنهض فجأة وأقف أمامه غاضبة: إما أنا أو هي في هذا البيت”.
وهذا الاحتراق يفضي إلى البكاء الذي يعد في الخطاب الأدبي “من بقية الوجود، وللباكين عند السماع مواجيد مختلفة، فمنهم من يبكي خوفا، ومنهم من يبكي شوقا، ومنهم من يبكي فرحا، وبكاء الوجدان أعز رتبة وحدوث ذلك في بعض مواطن حق اليقين، ومن حق اليقين في الدنيا إلمامات يسيرة، فيوجد البكاء من بعض مواطنه لوجود تغاير وتباين بين المحدث والقديم، فيكون البكاء رشحا هو من وصف الحدثان لوهج سطوة الرحمان”. ولهذا نجد الكاتبة تفصح عن شدة الوجد بالبكاء.
تعبر الكاتبة عن المشاعر التي تنتاب الحاجة رحمة وهي تنتظر عودة زوجها: ” تكتوي بنار الهجران منذ سنوات وتصمت، تنتظر عودته كل ليلة، وهي تمسد شعرها المصبوغ بالحناء والعصفة، تتأمل التجاعيد التي زحفت إلى وجهها، وجسدها الذي ترهل لحمه وفقد نعومته. وتحدث صورتها المعكوسة في المرآة: “لقد ولى الشباب يا رحمة”. لقد أشعل الهوى في أحشاء الحاجو رحمة نار الأشواق، فهي كثيرة الشوق من شدة تعلقها وولعها بالمعشوق الذي جعلها تحس بالتيه والحيرة فتتساءل بعد ذلك عن حرقة ذلك الوجد الذي حملها على البكاء. وتبعا لهذا كله، يغشى الشوق ذات المتيم الولهان، فتلزم باب الترقب والانتظار.
يوحي غياب الحبيب بغياب الحب، و يعني الإحساس بالاغتراب غياب الأحبة، والافتقار إلى حضورهم. ويتجسد حضور الاغتراب في آلية الاستفهام (أين). تقول الكاتبة في قصة نوستالجيا: “السماء وحدها تعلم أين رحلت؟”. إن نشدان عودة الغائب يوحي بمنادى من نوع خاص –على عادة الرومانسيين- في اللجوء إلى الطبيعة وتشخيص ظواهرها. ولهذا تقول الكاتبة: “الرعد يخترق السماء، كأنه وحش يتوعد بني البشر، صوت التلفاز يعلو من حين لآخر، معلنا عن فاصل إشهاري. لا أحد يؤنس وحدتي، سوى الصور المتراقصة على صفحة الفايس بوك …”. ويتم حضور المحب عبر استدعائه والتفكير فيه، فكل استدعاء، إذن، هو مثول في الخاطر، وحضور من نوع خاص. وهذا ما يتجسد عبر آلية الاستفهام (متى). متى ستعود … ؟.
إن تأجيج جذوة الشوق، والبحث عن الغائب، رغم عقم الوسيلة المتمثلة في الشوق والحنين إلى الذكرى الجميلة، كما تنم عن ذلك الصورة التالية: (اشقت إليك) فدلالة السلب تفيد انعدام الإحساس بالغبطة والدعة. وتبقى الوحدة – بالنسبة للكاتبة- والاغتراب وحدهما شاهدين على لوعة الاحتراق، رغم فعل المغالبة والمجابهة، كحضور من لدن الكاتبة وغياب حاضر من طرف المحبوب في مفارقة موقفية بين احتراق الأول واستمتاع الثاني. وهذا المعنى تفصح عنه الصورة الآتية: “أستحضر صورتها، صراخها، صمتها، ارتعاشة جسدها، نبرة صوتها الحزينة ما تزال عالقة في أذني: ” تتلذذ بتعذيب جسدي المحترق كل ليلة ولا أحتج، بل لا أقوى على الاحنجاج. انتهى كل شيء …” وانخرطت في موجة بكاء. بكت وبكيت …” .
نستخلص الإفصاح عن الحب الصادق والمشاعر الفياضة والقلب النابض الذي تصطليه حرارة الهوى، فتبدأ المعاناة الروحية. “لا أقوى على الصراخ في وجه الأيادي التي تتلذذ في تعذيبي، وهي تغمس الفرشاة في الألوان، ثم ترسم على جسدي خربشات وخطوطا لا معنى لها، تبعثر بياضي الناصع وتعبث بأيامي القادمة، وها هي السنوات تمضي والعمر ينفلت مع الزمن”. ومع ذلك فلا شيء ألذ ولا أحلى ولا أغلى من أن يحترق العاشق بنار الحب الذي تتغذى منه نفسه وتمنح حياته ما هي له أهل من التوازن الروحي، الذي لا تكتمل لذة الحياة إلا به.
إن حركية الموضوع تتوزع على عالمين اثنين: أولهما عالم الواقع وما فيه من وحدة واغتراب، والثاني عالم الخيال –ماضيا ومستقبلا- وما تضمنه من حرية وانطلاق. إذ يرى جاك دريدا أنه لا بد من الغياب الخالص لكي يتم إعلان الحضور، وبهذه العملية يتحقق الإلهام/ العمل الإبداعي، وتنكشف الأشياء من خلال اللغة. بتسمية اللاشيء الجوهري، أو معنى المعنى، كما ورد لدى الجرجاني، فالغياب الذي ينسبه دريدا إلى الكتابة المبدعة هو ما يستدعي الحضور الإلهامي للنص والقارئ حين يعلن النص عما كان منطوقا، ويصمت كما يرى فوكو، وهو أيضا تقنية الكلام المتحايل التي اعتمدها أرسطو على وجود محتمل معين وصفه.
على سبيل الختم
استنادا إلى ما سبق ذكره، نستنتج أن المبدعة فاطمة الزهراء المرابط تكثف، في منجزها السردي المتفرد، كل التعيينات الجزئية، مما هو جميل في قصص الحب العذري، لتعلن من خلالها عن تشكيل صورة مطلقة للجمال تختصر تاريخ كل العشَّاق، ويعكس تعدد كل الصور التي تبدو بها الحبيبة. من هنا يتبين، بعمق، مفهوم المرأة والأنوثة ونوعية الحضور الذي يمثله داخل الخطاب السردي، إذ المرأة في صورتها الوجودية الخاصة هي تكثيف للجمال الكوني، وليست مجرد جسد يخضع لمنطق الرغبة والمتعة الجنسية. لأن ما يميز السر الأنثوي هو كونه مظهرا أسمى للجمال الإلهي. ولهذا استعارت القاصَّة من الغزل العذري لغته الدالة على التعالي والتطهر والعفة والمعاناة والرومانسية التي تدور حول الهجر وتمني الوصال، فمزجت هذين النمطين في بناء رمزي لم يكن بمعزل عن تصورات غنوصية خاصة، تعد الأساس الجوهري لرمز المرأة من خلال أساليب غزلية مختلفة، فتبدو من خلال الوصل والهجر والفراق واللقاء والشوق والبكاء، وكأنها تجسد تجربة غزلية حقيقية أو مغامرة وجدانية، لكن سرعان ما تكشف القرائن السياقية أو اللفظية طبيعتها الصورية، وتفضح دلالاتها الرمزية.
إن اللغة التي اعتمدتها القاصَّة أساسا لإبداعها تنهل من كل ما هو متاح من رؤى وأفكار ومعارف، من أجل تعميق صلتها بجوهر الوجود وباطنه. بيد أن المتلقي العادي قد يتجه فهمه إلى المنطوق اللفظي المباشر عند تفسيره ملامح الشطط والانزياح الذي تمارسه لغة القاصّة عندما تعبر عن رموز الغزل العذري بأسلوب هو أقرب إلى الحب الإنساني.