عندما يُصلب كيان الإنسان فيأكل طير الضياع من أدميته، يصبح سؤال الأنا والوجود ضرورة ملحة، يفرضه واقع مأزوم. وسؤال «من أكون في هذا الوجود؟» قائم على رغبة في تحديد هوية الأنا، وتلك بداية مرحلية لعميلة التفكير، أو لنسميها مخاض ولادة الوعي، الذي يدفعبالإنسان إلى البحث عن سُبل توصله إلى أن يعيش وجوده الإنساني،وعن التحرر والعدالة.أوبتعبير سارتر «الوجود يسبق الماهية». فما دام الضياع بمفهومه الفضفاض يستحوذ على كيانه، فهو كرقم داخل مجتمع اختلت كفتاه، وقامت سلطته تقابله بالصد والعنف والإهانة.
الإنسان مشروع وجود أي «وجود لذاته». وبهذا المعنى هو مسؤول على تحقيق وجوده بتحقيق كرامته وإثبات إنسانيته بالعمل وليس بالجمود والتسليم والإذعان، أي هو من يختار «ماهيته».
علامات أو أرقام تشير إلى شخصيات نصوص مجموعة “الأرقام الضائعة”. استطاع القاص بوعزة الفرحان أن يضعنا في عوالمها المشحونة بالألم والحزن، إذ تعاني الضياع،وتتخبط في صراع نفسي دائري يفضي إلى اختلال توازن بين الغاية في العيش الكريم وبين جبروت الواقع والظروف وعنف المحيط. لهذا تعاني أزمة فقدان الحل من حيث هي واعية بوضعها وواقعها. ونجد هذا ابتداء بالقصة الأولى “الاختيار القاتل”، التي نرى من خلالها أن “علال الجنداري” وقع بين رغبة في تحسين وضعه الاجتماعي والخروج بنفسه وبأسرته من ضنك العيش والبطالة، وبين قسوة الواقع وانعدام بصيص أمل. فكرة العلاء وفكرة التسليم تتحولان إلى صراع نفسي عند “علال” تحت ضغط اكراهات مختلفة أخرست لسانه وأشغلت تفكيره، أفضى به في النهاية إلى قرار ركوب البحر مهاجرا سريا على متن قارب الموت. فاختار بذلك لنفسه مصيرا مجهولا لتحديد وجوده (إما أن يكون أولا يكون)، فكان اختيارا قاتلا.
كما نقرأ أن بطل قصة “تائه في مدينة الاسمنت”، وقع في اختلال توازن بين الوعي بحقيقة فقدان الكرامة وبين دوافع قاهرة مُلزمة بالتسليم والانقياد إلى الخنوع والذلة كمصير حتمي ناتج عن: – الخوف من سلطة عليا من شأنها أن تلعب بالمصائر بطرق لا أخلاقيةلانعدام العدالة الاجتماعية. قال السارد: «لم يعد لدي شك أن العدل سرقت منه الكفة الثانية، والرشوة ترقد بين الكفة الأخرى» – وناتج كذلك عن: خوف من كسر منظومة معينة قد تكون قِيَميَّة أو قانونية لكن لا يتم فهمها بشكل مبدئي أو عرفي ولا يُتعامل معها بمسؤولية. وهذا نقرأ بدايته حين تلَقى الزوجُ الإهانة من زوجته. لأنه عندما أوشك أن يضربها تراجع عن فعل العنف بسبب تذكره القولة المشهورة: «الرجال لا يرفعون أيديهم على النساء. وشعار: لا للعنف ضد النساء». ثم أضاف: «قلت في نفسي هذا ما نزلت به مدونة الأسرة على رؤوس الرجال». هذا الاختلال في التوازن يؤدي مباشرة إلى فقدان الاتجاه، وتحول الرؤية إلى رؤية عبثية اتجاه الواقع العنيف.
والعبثية – ضمن هذا النص- لا تشكل تحريضا للوعي على التمرد الذي بموجبه تنهض الشخصية للمطالبة بحقها، بل إنها تقتصر على الانتقاد والمراقبة. فالفعل فعل مشاهدة. مشاهدة البطل نفسَه والآخرينَ، يحيون عالم النواقض والنواقص مع التزام الصمت. قال السارد:«والكلمات الجوفاء تسكن فؤادي. تتراكم..تتزاحم.. وتتفاعل على فم مسدود»، حالة تفضي في النهاية إلى التوسل بالجنون: «فبدأت أصرخ بدون وعي قائلا: لو أني لا قدر الله سقطت على الأرض. وسرت عاريا(…) قولوا: لقد مسه الجنون. والجنون في بعض الأحيان دواء..». والصراخ كان من غير وعي، وهذا المنحى غير مجد، لأن الخلاص يقتضي الوعي المؤدي إلى المعرفة وليس الجنون الذي يمثل اللاشيء.
ويأتي وضع “عبو الحرش” في قصة “رقم ضائع بين الأرقام” ليكمل ملامح صورة هذا الضياع البشري. ولاشك أنالأشخاصضاقوا بدائرة المعلوم الذي يمثل بالنسبة إليهم واقعا مريرا يواجههم فيستاؤون منه دون معرفتهم بدائرة الخلاص. يقول السارد عن شخصية القصة: «الطريق غير واضح لديه»، ليتبين أن: كل ما تدركه الشخصيات، هو أن حقها مهضوم: «حقي بقي معلقا بين جدران السماء والأرض. حقي مختبئ في صناديق الانتخابات المزورة. وفي ذلك المكتب».
وإن وعي الشخصيات بحقها الضائع هو نفس ما أشارت إليه قصة “أرقام ضائعة”، حين خاطب “أبو العريف” أهل القرية قائلا: «حولتم القرية إلى ظلام حالك(..) انتحرت العزة بينكم. وسكن الذل بين لباسكم.». فكان جواب الشخصية الساردة له دلالة تأويلية: «ذئاب القرية تأكل فاكهة الظل والشمس بدون حياء. وتشرب ماء الصنبور المطهر دون أن تلتجئ إلى الأبار…».
ولعل رمزية أبو العريف في القصة تشير إلى صوت الدعوة إلى النهوض وامتلاك الإرادة من أجل نزع الحقوق ونبذ الخنوع والذل، أو لعله الوعي المُحقق للمعرفة في صيغة النداء للعمل. غير أن شخصيات هذه القصة لم تفلح معها تلك الدعوة فهي وقعت في اختلال توازن بين وعي ناقص بحقوق مهضومة وحرية مقيدة، وبين عدم امتلاك القدرة والارادة للانتفاض والعمل. كما أنها تجهل السبيل إلى دائرة الخلاص، أو تخشى من الخلاص عامة على اعتباره مجهولا، وبهذا تضيق بالمعلوم وتتساءل (لماذ؟)، ولا تسأل عن المجهول (كيف؟).
وحق البطل في الوجود غير تام،ومادام لم يختر ماهيته، فهو لا يؤدي إلا دور: «رقم بشري ضائع يحصى في الانتخابات». لهذا سنجد سؤال الأنا يلح على وعيه: «من أنا؟ ومن أكون في هذا الوجود؟».
قد يحيلنا هذا التساؤل الوجودي على قضية الحرية،لنحدد أن الكاتب بدأ بطرحها ابتداء من النص الرابع “أمضي والثورة خلفي”. الحرية كحق طبيعي للإنسان يقلق دائرة السلطة، ويدفعها إلى ممارسة عنف لا أخلاقي يتنافى مع مبادئ تشريع القانون، يقول السارد: «كانت المفاجأة قاتلة فتشوا جيوبي بعثروا أوراقي كسروا أدراج مكتبي». إضافة إلى طرق تلفيق التهم واصطناعها: «الملف الأحمر يتدحرج بين أياد تتقن كل فنون توليد الجرائم المصطنعة». ولأن علاقة السلطة بالإبداع وبالكتابة عموما، علاقة ملتبسة يشوبها القلق والريبة، فقد صور لنا القاص شخصية كاتب يدان بتهمة كتابة القصة ومقالات اجتماعية يقول عنها السارد: «ربما لا ترضي السلطة». لكن الحرية قيمة كبرى لا يموت الايمان بها بل يتجدد مهما تم حصرها أو قمعها في شخص أو أشخاص، قال السارد: «أمضي والثورة من خلفي، والعصافير توزع الحروف الغالية: ح ري ة في الحي. في القرية. في الحقل وهي تشقشق معلنة العهد الجديد».الحريةفكرة لا يقتصر الايمان بها كقيمة مطلقة بل العمل من أجل تحقيقها في الوجود، فالعمل الدائم والمستمر من أجل التحرر الفردي والجماعي هو المحك الوحيد لمشروعية وجودها. هذا ما أشارت له القصة، إذ أن البطل دفع ثمن الحرية بمفرده: «أمضي ولن تمضي الثورة معي». لكنه رسخ أسس ثورة تعمل من أجل حرية الجميع: «أمضي والثورة من خلفي».
وإذا كان أبو العريف في قصة “الأرقام الضائعة” يمثل صوت الدعوة إلى الثورة، فإن صوت السارد في قصة “مشهد من مسرحية لم تكتمل” لم يُفلح بدوره في اقناع أهل القرية على الانتفاض ضد الظلم، لأنهم: «لا يعرفون من الدنيا غير الجزء الذي ولدوا فيه». وقال محاولا اقناعهم فيما يشبه إشارة إلى أن مسيرة التحرر مستمرة لا تنتهي: «يا سادة: معركة التاريخ لم تنتهي. أمامنا عدو جديد: الفقر. الجوع. والمرض.». لكنهم كتموا الصوت وخنقوه، كإشارة إلى خنق صوت الوعي أو الثورة، يقول السارد: «فأحاطت بي الخلائق (…) لم تترك لي منفذا أهرب منه(…) بصعوبة استطعت الانفلات من القوم لا يفهمون الحياة. فرحلت وتركتهم يرقصون على عظام الكلاب.».
وكذلك نقرأ في قصة “أحياء تحت الحصار”،استغلال “الطاهر الحنويشي” مجهود عمل سكان مزرعته،واستغلال كرامتهم وإنسانيتهم: «سكان المزرعة يفتقدون للحرية. فهم يعرفونها، ولكن لا يعرفون كيف يحصلون عليها». فالحرية معلومة لكن الـ “كيف” مجهول. لهذا تستبد وتتقوى سلطة الارغام على الانقياد والخنوع والحصاروالصمت، إلى درجة أن حتى السؤال عن السبب يظل محتبسا، يخشى صاحبه أدنى مستوى في التفكير في الخلاص:«ردد عمي بوجعادة في نفسه:لماذا نصمت كالأكباش، ونغرس أنوفنا في صدورنا، ونعترف بالضعف أمام الطاغية؟ ولا نطالب بحقوقنا/ يلتفت خوفا أن يسمعه أحد فكمم فمه بيده». هذا الاختلال في التوازن هو ضياع لا حل له إلا صوت الوعي الذي يؤسس معرفة بطريق التحرر. والصوت يتمثل في السارد الذي شرع في تحقيق الحرية الجماعية من خلال توحيد الصف، ليشكل عُصبة ثائرة على الظلم والاستغلال.
وفي قصة “وكاد أن يتكلم وادي الحجر”، نجد البتول التي وقع عليها الاغتصاب بوادي الحجر بالقرية فرت إلى المدينة هربا من وصمة العار وفكرة الشرف، فأدى بها الهروب إلى الضياع: «رحلت البتول عن القرية وفكرة الشرف تطارد دماغها. قاصدة مدينة الإسمنت وهي تمضغ حزنها لوحدها».انساقت إلى ممارسة الدعارة فوقعت في اختلال توازن بين الاستسلام للخطيئة، وبين سؤال الرغبة في العودة إلى قريتها. وبما أن العودة تدخل في دائرة المجهول، فقد اختارت المعلوم: «أأعود من حيث أتيت؟ كلا…لن أعووود،رغم أنني أحن إلى صبار أبي وإلى سدرة جارنا العياشي…». فهي تعلم واقعها بالمدينة لكن تجهله بالقرية التي صارت بالنسبة إليها ماض يجمع ما بين الحنين والألم المفجع.
كما أن الحرية لا تعني تجرأ الإنسان على فعل أي شيء بالمطلق دون التزام أخلاقي، وإلا فإن البتول – مثلا- أتت كل فعل مخالف للأخلاق والقيم وانطلقت في الحياة تفعل ما تريد، لكنها ظلت أسيرة هواها، وفي قرارة نفسها لم تتخلص، رغم بعدها عن القرية، من فكرة العار التي تلاحق وعيها في المدينة أيضا. وكما قال سارتر في رواية سن الرشد على لسان برونيه: «فأنت حر. ولكن ما جدوى هذه الحرية إن لم تكن لتمكن المرء من الالتزام؟».لأن الحرية لا تكتشف إلا بفعل يؤسس راهن الشخصية ويؤثر على بناء مستقبلها، والتفكير وحده لا يغير الحاضر، بل لابد من العمل الذي هو مادة الفكر حتى لا تفقد الحرية معناها وتصير فوضى وعملا لا إنسانيا.
والحرية لا تصبح أخلاقية إذا اعتدت على حق الاخرين. وهذا ما طرحته – ضمنيا – قصة “الشيخ يتصابى”. فأول عبارة تبتدئ بها تشير إلى موضوع الاعتداء على حق الغير: «الرقص الصاخب يقلق الجيران، إيقاع العيطةالمرساوية تحمله الرياح إلى الأحياء المجاورة. يستيقظ الأطفال من نومهم قسرا من عنف الجذبة العصرية». ثم ينطلق السرد ليحكي عن “القندافي”، الشيخ الذي تزوج الصبية “ريم”، أو بالأحرى اشتراها بماله، وهي لا تملك حرية الاختيار لأنها لا تملك وعيا مسؤولا، فتمت الصفقة بين البائع (والدها) والمشتري (الشيخ). غير أن المال لا يُصلح ما أفسده الدهر ولا يحقق السعادة واللذة الكاملة، ومن أخذ حقه من لذة الحياة فمن الظلم أن يطمع في حق الاخرين فيها. قال السارد: «وقرصنة اللذة لا تحقق الشبع. لقد استهلكت الكهولة أيامها، وبقي الجسم مخروما..».
اختلال التوازن وقلق الوجود في قصص «الأرقام الضائعة..؟» لبوعزة الفرحان
الكاتب : بقلم: رشيد أمديون
بتاريخ : 27/11/2018