يقول أبو نصر الفارابي: «ليس ينبغي للفاضل أن يستعجل الموت، بل ينبغي أن يحتال في البقاء ما أمكنه ليزداد من فعل ما يسعد به، ولئلا يفقد أهل المدينة نفعه لهم بفضيلته»، تلك في جانب كبير منها كانت سيرة المنسحب من بيننا تواً المرحوم محمد بن شريفة، فقد احتال كثيراً في البقاء، ما أسعفته تكاليف الحياة ذلك، لكن لا ليزداد من فعل ما يسعد به هو، أنانية من الحكيم أو الباحث على حد سواء، ولكن ليقدم للمهتمين بالحضارة الأندلسية كثيراً من الكتب والتّحقيقات والأعمال تعقب فيها حيوات وسير وأعمال أعلام هذه الحضارة من المشهورين وممن سحقت القرون الطّويلة أسماءهم وشهرتهم بيننا ومسخت أسماءهم ودرست صورهم.
بالنّظر إلى لائحة بحوث وأعمال المرحوم محمد بن شريفة، لا يسعك إلا أن تهمس لخويصة روحك أن الرّجل قد أدّى كل ما كان منتظراً منه، بل وكانت منه الحسنى وزيادة تجاه كل ما هو أندلسي. بسخاء جُهد وبوفرة إنتاج أتم كل ما كان عليه من مسؤولية، مسؤولية حمّلها لنفسه، في الوقت الذي أبى كثيرون حملها، باحثين ومؤسسات. وذلك منه على عادة سدنة التّراث الأندلسي وأمنائه المعدودين، إنها مسؤولية الشّهادة في زمن يفيض بشهداء الزور وأدعياء الأمانة على هذا التّراث، لتشغله طوال عمره مهمة واحدة، هي مهمة إنقاذ ذكرى الإنسان الأندلسي، وإنقاذ منجزاته الفكرية والأدبية الكبرى من عوالم التّناسي أو التّعامي والفقدان الكبير لها، بشكل تجاوز معه المرحوم محمد بن شريفة مجال وحقل خبرته الأساسي والأصلي إلى محاولة منافسة المتخصصين في ميادين أخرى كالفلسفة والفلاحة والتاريخ في محاولة مستحيلة لفهم ووضع رسومات واضحة ومعبرة عن حياة الأندلسيين لا الرسمية فقط بل وحياتهم العادية المتعلقة بمنسوجاتهم وبلهجاتهم العامية وبمصطلحاتهم الفلاحية، وتصوير حياتهم داخل صالات الأدب، بل وتجاوزها إلى زوايا المطبخ وما يطبخون.
التّعامل مع النّصوص المخطوطة والبحث المضني عن المفقود منها وغير المعروف، والتدقيق في نسبة الأقوال والأبيات كانت مهمة الرّجل، وكان انهمامه اليومي وشغله الذي يعطي لحياته معنى، وينفخ في روحه، بشكل مستمر، تلك الحيوية التي لم تسلبها إياه إلا يدُ المنون. وأخذ مهمة العناية بالتّراث الأندلسي في جميع مظانه مأخذ الجد الذي يليق بحضارة لطالما اعتبرها بن شريفة حضارة أسلافه أو على الأقل عناية منه بوصية كانت وستظل في رقبة المغاربة أجمعين، وصية بالأندلس وأهلها، غير أن هذا التّعامل الجدي مع النّصوص، والعناية المفرطة بالتّراث، والإفراط في التدقيق ومحاولات جمع ما تفرق بين الكتب وتوزع بين التّآليف قد لا تكون عاقبته جيدة بالنّسبة لصحة الباحث، فتصحيح قول عن كتاب أو كاتب يتبعه دوماً الإضرار بالبدن، إذ تكون صحة البحث غالباً على حساب صحة الباحث، حتى وإن حُمل الأمر على سبيل المزاح. ولنستعيد هنا حكاية هابرماس عن تلقيه ذات يوم إيمايلاً من ريتشارد رورتي يُنبّؤه بالآتي:
«لقد أصابني، ويا للأسف، المرضُ ذاته الذي أتى على دريدا فأهلكه».
يضيف هابرماس، وللتخفيف من هول الصّدمة، استرسل رورتي مازحاً، وقال:
«إن ابنته رأت أن هذا النّوع من السّرطان لا يأتي إلّا من الإفراط في قراءة هايدغر!».
ربما الأمر نفسه يصدق على المرحوم محمد بن شريفة وإفراطه في القراءة للقدماء، ومحاولاته الدّائمة لاستعادة نصوصهم لجعلهم يقرؤون من جديد، فقد أخذ منه ابن حريق وابن رشد، والبسطي، وأبو المطرف أحمد بن عميرة المخزومي، وابن عبد الملك المراكشي، وأبو يحيى الزّجالي لقرطبي، والقاضي عياض وابنه، وأسرة بن زهر، وابن الزّبير وكثيرون لا يحصون عدداً وعدّة كامل جهده. في تضحية تبين عن كرمه الإنساني الذي عبَّر عنه بجلاء في كتاباته تجاه كل الأسماء التي كان أغلبها في عداد المنسيين الذين لا حضور لهم، كرم وسخاء في الكتابة والبحث قاده لأن يكون ربما آخر المحققين الكبار للتراث الأندلسي، وبأعماله العميقة والموسوعية شبيهاً ونداً بعبد السّلام هارون وإحسان عباس وابن تاويت الطنجي.
الانسحاب النّهائي للمفكر أو الشّاعر أو الباحث، أو بالأحرى موته، يستدعي بالطّبع كلاماً بليغاً عن حياته التي انتهت تواً، كلاماً يليق بمكانته وأفضاله، خاصة إن كان قامة لم تتكاسل يوماً، ولم تتقاعس للحظة عن تقديم ما في جعبتها من جهد، من أجل خدمة تراث خَلُد جزء كبير منه في مكتبات العالم مخطوطاً مصوناً، أو مجزوءاً مشطوراً إلى خروم لا جامع بينها. فالحرص على التّذكير بفضائل مثل هؤلاء هو بالطّبع من أعظم الفضائل الأخلاقية التي يمكن أن يتولاها من هم في عداد الأحياء، كدين في رقبة من بقي حياً اتجاه من انسحبوا إلى العالم الأخروي، خاصة إن كان الميت من ذاك الجيل العظيم من المفكرين، جيل سدنة وحراس التّراث الكبار، لتصير خيانة الحي للميت، أي ميت كان، هي نسيانه وتناسي مآثره.
محمد بنشريفة شخصية استثنائية، لا يمكن نسيانها، واسمه سيظل حاضراً، لن يستنكف الباحثون عن الاستشهاد به، وإحياء ذكراه. شخصية طبعت ببحوثها ووسمت ورسمت ملامح الجامعة المغربية في علاقة الأخيرة بما هو أندلسي، شخصية فذة وجهت دفة شُعب بأكملها، وأجيال من الباحثين، من جديد، نحو التّراث الفكري والأدبي للغرب الإسلامي، في شقه المغربي وشقه الأندلسي.
في مدة قصيرة نزف المغرب علماءً أفذاذاً، الجامع بينهم، ويا للعجب، هو الهمّ الأندلسي، فبعد المرحوم حسن الوراكلي، ها هو محمد بن شريفة يرفض أن يتأخر عنه، وكأن هناك اجتماعاً طارئاً في عوالم البرزخ بين من كان بَالهم مع كل ما هو أندلسي، في حين الذي كان بيننا هي أجسادهم فقط. وذلك دون قسط راحة يُذكر، ما بين الموتين/ الرُّزأين، فيُزاح بن شريفة من عداد قائمة الباقين على قيد الحياة، لينضافا معاً إلى اللائحة التي ضمت، عن قريب، كلّاً، من الدّكتور عبد السّلام الهراس، والدّكتور عبد الهادي التّازي. وبرحيل بن شريفة وبقية المهوسين بتجديد وتكريس البحث في تراث الغرب الإسلامي، يرحل من كنا نتحصن وراء ظهورهم، ونحتمي بإنتاجاتهم لنؤكد للجميع بتقدم دراساتنا التّراثية، من كنا بإنتاجاتهم نستر عوراتنا في البحث، ونغطي عن خيانتنا المتكرر لشيوخ العلم والمعرفة في فاس وقرطبة ومدارس المعرفة والحكمة في مراكش وغرناطة.
إنهم يُستلون واحداً واحداً، بعد أن صدرت في حقهم قرارات الموت طبقا لقدر كان أو لذنب منا هو كائن، لتُغلقَ دفاتر حسابهم، وأعمالهم بشكل نهائي من جهتهم، وتقفل أبواب بيوتات العلم معهم، بيتاً بيتاً، في قصيدة حزينة لا قافية لها ولا وزن. قصيدة حزن ورثاء على أرواح هي الأجدر بالسّماء منها بأرضنا التي لم تعد تلد غير مفكري التّدوينات و»التّويتات»، وأساتذة المناوشات على تويتر والفيس بوك بسُباب وشتائم الواقفين عند أودية جحيم، وكأنهم وعدٌ جديد بالخراب وبالقزمية؟ بفقدان د. محمد بنشريفة، و د.حسن الوراكلي، ود. عبد السلام الهراس ود. عبد الهادي التّازي، نكون قد جردتنا السّماء عن باحثين في أرض الفردوس المفقود عن بقايا مثالات الخير الأكمل والأسمى، لتنسحب من بيننا قواعد العلم وتتراجع أمام زحف رؤوس الجهل والحمق، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ُ «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَاد،ِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء،ِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
وليبقى السّؤال، ليس معلقاً وفقط، بل جارحاً ومخيفاً: من سيواصل جهود محمد بن شريفة؟ وبمن سيُرتق الفتق الذي تركه موت هذا الرّجل المؤسّسة؟
فليرحم الله د. محمد بن شريفة، ولتسعه مغفرته وإحسانه، والمجد، كل المجد، للحي الذي لا يموت.
محمد بن شريفة أو الرجل المؤسسة
الكاتب : محمد صلاح بوشتلة
بتاريخ : 30/11/2018