المالكي: قضية الهجرة أمام اختيار حضاري في القرن 21 بأبعادٍ إنسانية وثقافية وأخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية بل ووجودية
اعتماد الميثاق العالمي من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية، حدث دولي فاصل يدشّن لمرحلة مهمة في العلاقات الدولية
عرف مقر البرلمان المغربي بالرباط ندوة دولية، على مدى يومي 06 و07 دجنبر الجاري، في إطار المواكبة البرلمانية للمؤتمر الدولي حول الهجرة، الذي ستحتضنه مدينة مراكش يومي 10 و11 دجنبر 2018.
شارك في هذا اللقاء البرلماني، الذي ترأسه كل من الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب وحكيم بنشماس رئيس مجلس المستشارين، البرلمانات الأعضاء في الاتحاد البرلماني الدولي، والمنظمات البرلمانية الجهوية والدولية، ومختصون ومهتمون بإشكالية الهجرة.
في الكلمة الافتتاحية ، قال الحبيب المالكي رئيس مجلس النواب، إن مناقشةَ إشكالية الهجرة، باتت انشغالا مركزِيا في السياق الدولي الراهن، وترهن العلاقات الدولية، وللبرلمانات دور حاسم في تدبيرِها ومتابعة ما تطرحه من إشكاليات ومعضلات، وفي معالجة أسبابها الحقيقية والبنيوِية.
ونوه المالكي بهذه المناسبة ” بجهود رئيسة الاتحاد البرلماني الدولي من أجل حقوق المهاجرين، وأثنى على نضالها من أجل قضية الهجرة، ومن أجل احترام حقوق الإنسان عامةً وحقوقِ ضحايا النزاعات المسلحة واللاجئين على وجه التحديد، وهي جهود دولية وكفاح امرأة، ساهمت منذ صغرِ سنّها في تحقيق الانتقال السياسي والديمقراطية التي تنعم بها بلادها المكسيك”.
واعتبر رئيس مجلس النواب، أن قضية الهجرة، أمام اختيارٍ حضاري في القرن الواحد والعشرين، أي أمام سؤال، بأبعادٍ إنسانية وثقافية وأخلاقية وسياسية واجتماعية واقتصادية، بل ووجودية، سؤالٍ يمكن تلخيصه في: أيّ حضارة ترِيد المجموعة الدولية بناءها؟ وأيّ حضارة تريد الدولة القُطرِية بناءها في العصر ما بعد الصناعي والتكنولوجي، وفي عصرِ ما بعد العولمة؟ وأيّ علاقات دولية نريد؟ وأي أفقٍ نسلك: أُفق الانفتاحِ والتفاعل وحرية التنقل، أم أفق الانطواء والانغلاق والقَوْميات الضيقة؟
وسجل المالكي أنه إذا كانت الخطابات والسياسات المناهضة للهجرة، تجتهد لإعادة تشكيل ثقافة التعايشِ والتحررِ والانفتاحِ، التي شكلت أساس الديمقراطيات المعاصرة بِحمولاتها القَيمية والحقوقية، فإن المجموعةَ الدوليةَ، والضمير العالمي ممتحنان في مدى الالتزامِ بمبادئ ومعاييرِ حقوق الإنسان، والقدرة على الادماج، وقَبول الآخر، والتضامن في زمن الأزمات، بل إن إنسانيتنا هي الـممتحنة اليوم في قضية الهجرة.
في السياق ذاته، أشار رئيس مجلس النواب إلى أن الاتجاه العام وميزان القٌوى في هذه المسألة بالذات، يميل نحو التحرر والانفتاح، ويعكس وعيا جماعيا بفوائد الهجرة. ودليلُ ذلك، هذا العزم والتصميم، الذي تبديه المجموعة الدولية للمصادقة على الميثاق العالمي من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية، ودليل ذلك ملتقَانا هذا، الذي يجسد إرادة شعبية، في ترسيخ حرية تنقل الأشخاص عبر العالم.
وذكّر المالكي بأن الهجرةَ ارتبطت -دائماً- بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهي بذلك ظاهرة تاريخية، ترتبط –اليوم- بالسياقات الجيوسياسية والجيوستراتيجية، تؤثّر فيها وتتأَثَّر بها، كما ترتبط، في جزء كبير منها، بالظروف الاقتصادية وبالاختلالات المناخية الحادّة.
لا يتعلق الأمرإذن، بحركات آنية أو ظرفية عابرة، ولكن بظاهرةٍ بنيوية تشكّل جزءاً من النظام العالمي المعاصر، ظاهرةٍ مرشحة للاستمرار، بل وللتوسع والاستفحال، بتفاقم أسبابها وجذورها.
وبالموازاة مع ذلك، أوضح المالكي، أنه إذا كانت العوامل والتحولات الديموغرافية تساهم-اليومَ- في تطورِ حركات الهجرة، وتؤثر في التوازنات الجيوسياسية، فإن العالم مرشح لأن يعيش، في غضونِ الثلاثين عاما المقبلة طفرة ديموغرافية بكل معاني الكلمة (حتى لا نقول صدمة)، بكل ما لهذه الطفرةِ من انعكاسات في مسارات الهجرة وحجمها ونتائجها،طفرةٍ من سماتها صعود إفريقيا كقوة ديموغرافية هائلة، إلى جانب آسيا.
واعتبر المالكي، أن اعتماد الميثاق العالمي من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية حدثا دوليا فاصلا، يدشّن لمرحلة مهمة في العلاقات الدولية، يكاد لا يضاهيه سوى اعتمادِ ميثاق الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 والعهود الدولية اللاحقة لهما.
ولعل من إيجابيات الميثاق العالمي حول الهجرة، أنه يستند في ديباجته إلى مجموع المواثيق الدولية ومقَاصدها، ويذكّر بها، ويدمجها في مقتضياته، بقدرِ إدماجه، واستحضارِه للأجيال الجديدة من انشغالات وقضايا المجموعة الدولية ومن حقوق الإنسان، لاسيما الحق في البيئة السليمة، والتصدي لأسباب وانعكاسات الاختلالات المناخية. وهو على هذا النّحو، آلية شاملة، ومتوجهة إلى المستقبل، ويمكن اعتباره من الإنجازات الأممية الحاسمة خلال الألفية الثالثة. إنه تتويج لمسار شاقٍ وطويل من التفكير والنقاش والتفاوض والدراسات والاستشارات، برعاية الأمم المتحدة، ما أنتج وثيقة، إن كانت غير مُلزِمة، إلا أن لها سلطة سياسية وثقافية وبيداغوجية ورمزية.
وينبغي في هذا الصدد -طبعا- التذكيربأهمية المساهمة البرلمانية، التي أَطّرها، وصاغها الاتحاد البرلماني الدولي، والتي ضمّنها في وثائق عدة، منها على الخصوص الإعلان المتعلق بتعزيز النظام العالمي للمهاجرين واللاجئين المعتمد في مارس 2018، والقرار المتعلق بتعزيز التعاون البرلماني في مجال الهجرة وإدارتها على ضوء اعتماد الاتفاق العالمي من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية المعتمد في أكتوبر 2018.
لقد أَسّس الميثاق على التراكم، وَتوّج عدةَ آليات دولية حول الهجرة واللجوء، ونص على إحداث آليات للتتبع، ووضعَ أهدافا واضحة. ولا يمكن لميثاق من هذا القبيل، إلا أن يكونَ موضوعَ دعم قوي، وتأييدٍ واضح، وتقدير كبير من جانبنا.
وأكد المالكي، أن مصادقة الحكومات على الميثاق، تجعل البرلمانات أمام مسؤولية وامتحانٍ كبيرين. فعلى البرلمانات الوطنية، كما على المنظمات البرلمانية المتعددة الأطراف، تقع مسؤولية كبرى في التّرافعِ بهدف التصدي لبواعث الهجرة، وفي مقدمتها تحقيقُ التنمية في البلدان الأصلية، ومواجهةُ انعكاسات الاختلالات المناخية، وترسيخُ البناء الديموقراطي المؤسساتي، وتيسيرُ التماسك الاجتماعي، وتخفيفُ الفوارق الترابية والاجتماعية.
وأضاف في هذا المضمار، أن مسؤولية كبرى تقع أيضا على البرلمانات، اليوم، وفي المستقبل، لإعمال مقتضيات الميثاق العالمي من أجل هجرةٍ آمنة ومنظمة ونظامية، ستصادق عليه الحكومات بمراكش، لبلوغِ مرامي الميثاق الثّلاثة والعشرين (23)، المشَكِّلة لجوهر الميثاق، ويتقَاطع فيها ما يتعلق بدوافعِ الهجرة، وحقوق المهاجرين، والسياساتِ الكفيلة بجعل الهجرة منتجةً ومفيدةً.
وشكل هذا اللقاء البرلماني، مناسبة سانحة، لتدارس سبل أجرأة الميثاق العالمي، ومواكبته على المستوى التشريعي. وسعى المشاركون في اللقاء نفسه، إلى إيصال أصوات الشعوب التي يمثلونها، من خلال تبني مقاربة واقعية ومتضامنة، ترتكز على التنمية المشتركة، واحترام حقوق الإنسان.
ولم يفت البرلمانيين لفت انتباه ممثلي الحكومات المشاركين في مؤتمر مراكش والرأي العام الدولي، إلى تزايد التعصب، والانطواء، وخطورة الربط بين الهجرة وانعدام الأمن، وتوجيه رسالة أمل إلى شعوب العالم، مفادها أن موجات الهجرة لم تتوقف منذ بداية الحضارة الإنسانية، وأنه يجب عدم الرضوخ لمنطق التصادم، الذي يفتح المجال للاستغلال السياسي لظاهرة الهجرة، وهو ما لا يخدم-البتة- السلم في العالم.
ويجدر التذكير بأن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها الثانية والسبعين، اختارت المملكة المغربية لاحتضان المؤتمر الدولي حول الهجرة لسنة 2018، الذي سيتم فيه اعتماد الميثاق العالمي للهجرة الآمنة والمنتظمة.