مرّت منذ أيّام الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الأديب المغربي العصاميّ محمد شكري ( يوليوز/ 1935 ــ نوفمبر/ 2003). محمد شكري إسم ارتبط بمدينة مُلتقىَ البحرين طنجة أكثر من أيّ مدينة أو قرية، أو مدشر آخر ، شدّ الرحالَ إليها منذ سنٍّ مبكرة قادماً من «بني شيكر» وهي قرية صغيرة فى ريف المغرب، كان يعيش فى كنف أسرة مُعوزة، وقد أرغمته معاملة أبيه العنيفة له على الابتعاد عن منزل والديْه المتواضع والهجرة إلى حيث لا يدري فى أرض الله الواسعة، حيث استقرّ به المقام فى حاضرة طنجة التي كانت وجهة مأثورة لدى أبناء جلدته فى ذلك الإبّان ، لم يكن عُمْر شكري يتجاوز الحادية عشرة ربيعاً، وقد وجد نفسَه وحيداً، شريداً ،بعيداً عن أهله وذويه فى هذه المدينة العملاقة الشهيرة إذا قيست بقريته الصغيرة المغمورة المحاذية لمدينة الناظور، وغير بعيدة عن مدينة مليلية المحتلّة فى أقاصي بلاد الريف. عاش شكري فى طنجة محاطاً بأجواء التشرّد ،والعنف، و عالم البغاء والمخدرات وفى العشرين من عمره انتقل للعيش في مدينة العرائش للدراسة التي لا تبعد كثيراً عن مدينة طنجة، وفى هذه المرحلة بالذات بدأت اهتماماته بالأدب، ثم ما لبث أن عاد إلى طنجة، حيث كان يرتاد الحانات الصاخبة، ويؤمّ مواخير الليل، ويتردّد على أوكار البغاء، وفى هذه الأثناء طفق يكتب ما عاشه من تجارب شخصية، فكانت أوّل قصّةٍ له نشرها في مجلة «الآداب» عام 1966 تحمل عنوان «عنف في الشاطئ» وبعد هذه المرحلة من حياته أفضت به اهتماماته الأدبية للتعرّف ومرافقة كتّاب أجانب من ذوي العيار الثقيل، الذين كانوا يحظون بشهرة واسعة على الصّعيد العالمي، والذين كانوا يقيمون في طنجة فى طليعتهم الرّوائيان الأمريكيان بول باولز، وتنيسي وليامز، وبعد ذلك الفرنسي جان جينيه وسواهم. كان شكري يدوّن لقاءاته بهؤلاء الكتّاب ثم نشرها فيما بعد في مذكراته التي تحمل عنوان :» بول باولز في عزلته بطنجة»، ثم في: «جان جنيه وتنيسي وليامز في طنجة»، وكان إلى جانب اهتمامته الأدبية الأخرى يترجم إلى اللغة العربية أشعاراً لشعراء إسبان مثل لوركا، وماتشادو، وأليكسندري، وآخرين، ثم سرعان ما جاءته الشهرة منقادةً إليه تجرجر أذيالها بعد نشره لروايته «الخبز الحافي» أو (العِيش الحاف) التي نشرها عام 1973 والتي ظلت محظورة في مجموع البلدان العربية، ولم تنشر في بلده المغرب سوى على مشارف عام 2000. من كتب شكري كذلك «زمن الأخطاء» 1992 و»وجوه»1996 وهاتان الروايتان تشكلان إلى جانب روايته الأولى، الثلاثية التي تحكي سيرة حياته الذاتية بدون خجل ولا وجل .
في مواجهة المذلّة والبؤس
الكاتب الإسباني كارليس خيلي يرى أن محمد شكري كان يأسف للسطحية التي عالج بها بعض الكتاب صورة مدينة طنجة، والأدهى من ذلك مدى الاحتقار، والكراهية، والعنصرية البغيضة التي كان ينظر بها هؤلاء الكتاب إلى السكان البسطاء في هذه المدينة، وقد علّق شكري على ذلك بقوله متمادياً في السخرية والتهكم : «أيا كان من هؤلاء الكتاب يقضي بضعة أسابيع في طنجة يمكنه أن يؤلف كتيباً عنها»!. ويضيف شكري «إنني أدافع عن الوسط الذي عشت فيه وأنتمي إليه، أدافع عن المهمشين، وأنتقم من هذا الزمن المُذل والبائس»، بهذه العبارات القاسية كان صاحب «الخبز الحافي» يبرّر موقفه ممّا عاشه وشاهده من خزيٍ وإسفافٍ، ورداءةٍ في عصره، في سيرته الذاتية المترعة بالمرارة ، والمفعمة بالصراحة المفرطة .
يشير الكاتب الإسباني كارليس كذلك فى نفس السياق الى « أنّ كلاًّ من الكاتب الأمريكي بول باولز وزوجته جين كانا بؤرة وبوتقة اهتمام العالم الأدبي، الذي ينقله لنا شكري بصراحته المرّة، والذي كان يعرف جيداً بول لمدة تزيد على 25 سنة، حيث كان شكري يملي عليه باللغة الإسبانية ما كان يكتبه كلّ صباح من سيرته الذاتية، التي كانت في ذلك الوقت تحمل عنوان «من أجل كسرة عيش» أو «من أجل لقمة عيش»، والتي كان بول باولز يترجمها إلى الإنجليزية، بعد ذلك بدأ الخلاف والتباعد بينهما. ويدور كتاب شكري « بول باولز في عزلته بطنجة» حول هذا الأمريكي الرحّالة الذى عاش في هذه المدينة منذ وصوله إليها عام 1947 والذي ظل فيها إلى وفاته عام 1999.
يصف شكري في الكتاب باولز بتلقائية مطلقة، فيقول عنه: «إنه لكي يكتب كان يدمن على تعاطي الحشيش، إلاّ أنه خارج المنزل كان يشرب السجائر، كان إباحياً مثلياً ولم يخفِ شيئاً عن رفيقة عمره جِينْ، كما أنه كان نخبوياً وعنصرياً، كان يروقه المغرب وليس المغاربة». ويضيف الكاتب الإسباني قائلاً: «إنّ شكري عندما يحلل، ويشرح بذكاء الحياة الأدبية لبولز يقابل أعماله الإبداعية بحياته الحقيقية، كان ينتقد نقداً لاذعا أحد كتب باولز وهو «مذكرات رحالة» حيث كان يقول عنه: «إنه كتاب يقوم على رتابة متتالية، وفواصل مملة، كانت الغاية من وضعه أداء تكاليف التطبيب والعلاج لزوجته جين. وفي رأيه أن الجنس كان هو سبب جميع المصائب والمحن التي تلحق بأبطاله، والجنس لصيق بالجريمة والجنوح والمروق، وشخصيات هذا الكتاب مهدّدة بتدمير وتحطيم نفسها وهي دائماً تنتظرها نهاية قاسية ومؤلمة». ويقول شكري: «إن مراوغة خيال بول باولز كان يزعج جين، إلاّ أنها لم تكن تعتب على زوجها فالذي كان ينقصها لم تكن المهارات، بل المثابرة، كانت تشعر بالمرارة من عدم الاكتراث، وبنوع من الضغينة ممّا كان يجري، كانت تغرق في الكحول حتى الثمالة، كما كانت تغرق في طموحها الذي لم يحالفه النجاح، إذ بعد بلوغها الخمسين من عمرها هجرت الكتابة، الشيء الذي زاد في تفاقم عنصر التدمير الذاتي عندها، مضافاً إلى ذلك سلوكها الإباحي غير الحميد».
عندما قتل شكري أباه الأدبي
يضيف الكاتب الإسباني كارليس خيلي حسب ميغيل لاثارو، «أثار شكري حفيظة بول باولز لنشره أسراراً عنه ضمن هذا الكتاب، انطلاقاً من صداقته القديمة معه، كتب هذه الشهادات الحميمية التي تزيح الستار عن العديد من الحقائق والأسرار التي ظلت طي الكتمان، والتي لم يتم نشرها من قبل عن المعايشات، والمغامرات الطنجوية الحالكة لهذا الكاتب الأمريكي». في هذا الكتاب نكتشف علاقة باولز مع أبرز الكتاب المرموقين في عصره مثل وليام بورجيس، وألن جينسبيرغ، ترومان كابوتي، ومختلف الأسرار والخفايا التي أحاطت به وبزوجته جين، إنه كتاب ينبض بالعواطف، ويحفل بالعنف، والحقائق المثيرة حول باولز، وكل المحيطين به، الذين جلبوا كثيراً من المتاعب الخطيرة لشكري، ولقد بلغ الأمر بشكري إلى الإفصاح عن شعوره بالمرارة من وضعه لهذا الكتاب، حيث قال: « إنني بكتابي هذا حول باولز كأنني قتلت والدي الثاني»، الأمر نفسه يراه الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتيسولو، عند ترجمة الكتاب للإسبانية في يونيو/حزيران 2012 ــ صدر الكتاب بالعربية عن منشورات الجمل عام 1997 ــ حيث وصف غويتيسولو باولز بأنه «الأب الأدبي» لمحمد شكري، وقال: «إلاّ أن هناك نوعاً من التظلم في هذا الشأن، إذ يبدو لي أنه من الأهمية بمكان معرفة وجهة نظر مغربي معوز كان يعيش بين ثلة من الأمريكيين الذين كانوا يقيمون في طنجة، والذين كانوا يعتبرون هذه المدينة فردوساً أرضياً ولكنهم لم يكونوا على علم كيف كان يعيش المغاربة هنا».
عندما يأتي المساء
يخبرنا باولز أنّ حياته كانت تنساب في طنجة في هدوء، وأنه أصبح لا يطيق العيش في المدن الغربية.ولم يكن لديه ما يفعله في أخريات حياته سوى الكتابة التي كانت قد أصبحت متنفّسه الوحيد،وتحوّل بيته إلى صالون أدبي يؤمّه مختلف الادباء والكتّاب ، فضلاً عن المشتغلين بالفنّ السّابع الذين كانت لهم رغبة في نقل بعض أعماله الى الشاشة الكبيرة ،وكان يقول ربما كان خير قرار إتّخذه في حياته هو عدم الاقامة في إحدى المدن الغربية . بل إنّ قراره باختيار العيش في طنجة كان من أهمّ الاحداث الهامة في حياته، وهو لم يشعر قط أنه كان وحيداً بل كانت له علاقات اجتماعية متنوّعة ، وأصبح معظم الناس يعرفونه. وكان يقول إنّ الحياة فى الغرب تحوّلت الى كابوس والكوابيس لديه منها الكثير. إنّ وجهه المستطيل، وعينيه اللاّمعتين والصّافيتين، وقامته كل ذلك لم يكن ينسجم مع صوته الخفيض الذي يبدو وكأنه ينبعث من أعماق محيط بعيد. كان باولز يصحو باكراً ليكتب بضع وريقات ، وعندما يأتي المساء كان يشعر بسعادة غامرة ، فالمساء جميل وليس له نظير في هذه المدينة السّاحرة التي تطلّ على أوربا والتي أقام ونام فيها «هرقل» بعد أن أنجز عمله في مغارته الأسطورية التي أصبحت معلمة شهيرة فى المدينة التي علق بها وعشقها العديد من الادباء، والشعراء، والشخصيات التاريخية ، والسياسية والادبية والفنية ، والسينمائية المعروفة .كما تم تصوير العديد من الافلام العالمية بها.
كاتب حطّم كل الطابوهات
ما فتئ هذا الكاتب العصامي يحظى باهتمام الدارسين والنقاد والقراء على سواء حتى اليوم، نظراً لما أبدعه وأثار به زوبعة ما زال هدير صداها يُسمع بين الأوساط الأدبية والنقدية داخل المغرب، وفي العالم العربي وخارجهما، ذلك لاقتحامه وغوصه، ومعالجته لموضوعات كانت تعتبر قبله وحتى الأمس القريب من الطابوهات أو المحظورات التي ينبغي عدم الحديث عنها ولا التطرق إليها . ويشير أحد النقاد إلى أنه لو قدِّر لعالم الإجتماع الفرنسي الشهير» إميل دوركايم «أن قرأ أعمال شكري الإبداعية لصفّق له بدون انقطاع نظراً لما خلفه لنا من كتابات صريحة وجريئة عن مجتمعٍ ما زال يحافظ على التقاليد، ويصُون الموروثات والأعراف. ولقد استحسن البعض هذه الكتابات، وعابها كثيرون .
يقول الكاتب المغربي الصديق مصطفى بودغية عن تجربة شكري الإبداعية الفريدة : «استطاع محمد شكري أن يتعلم وهو ابن العشرين، بعد أن تشرب دروساً قاسية في الحياة من قاع المدينة، لكنه لم يتعلم وحسب، وإنما اتخذ من تعلمه سلاحاً للكشف عن ذلك الواقع المنسي في المجتمع، ذلك الواقع البائس القاسي الذي يعرفه الجميع، ويتنكر له الجميع أيضاً، ذلك الواقع (المسكوت عنه) المدفون تحت طبقات ضبابية من (الأخلاقيات الزائفة)، استطاع شكري أن ينتشل حياة المُهمشين من القاع المنسي، ومن ظلمة التهميش إلى أنوار (شمس الحقيقة)، فـ» الخبز الحافي» كونه عملاً إبداعياً في المقام الأول، لكنه أيضا وثيقة مهمّة اجتماعياً وتاريخياً، إنه صرخة في وجه النفاق الاجتماعي، وصرخة في وجه مجتمع يتنكر لأبنائه المُهمشين، لقد كتب شكري «الخبز الحافي» بلغة بسيطة وسهلة نعتها أحد النقاد بـ (اللغة العارية)، أي خالية من البلاغيات، والمُحسنات اللفظية، كُتب بلغة عارية تماثل عراء الواقع الذي يكتب عنه، لغة مباشرة مثل حياة المُشردين والصعاليك الذين لا أقنعة لديهم يلبسونها، إنه عمل أدبي حافٍ من كل المُحسنات، لكنه حادّ وجارح كالسّيف، جعل الكثيرين يتساءلون عن أسباب الفقر، والتشرّد، والجريمة، وتعاطي المخدرات، والاغتصاب، والدعارة، والعنف، والجريمة،والإنفصام حيث يترّبص بهم الموت البطيء، والإحباط الشامل دون أحلام ولا آمال ولا طموحات».
وكتب الرّوائي الإسباني خَابيِيرْ بَالِينسْوِيلاَ يقول عنه : «كان شكري كاتباً كبيراً، وشخصاً رائعاً ، حتى سنّ العشرين ربيعاً من عمره لم يكن يكتب ولا يقرأ ، إنسابت طفولته، وإنصرم شبابه فى بؤسٍ مذقع، وعنفٍ فظيع، كان ينتسب إلى طينة هؤلاء الكتّاب الملعونين ، خلّف لنا أعمالاً إبداعية قصيرة ، ولكنّها مؤثّرة وجريئة تنبض بحبّ الحياة ونبذ المظالم «.
*كاتب وباحث من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الامريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.