1/ تنهدت الشاردة عن القطيع وحكت:
في تلك اللحظة بالذات، بدا لي الشارع الطويل مثل أفعوان ضخم ترشح من جلده أجساد نمـل غفيرة وساعة تغيب الشمس تزداد حركته ضجيجا وزعيقا .وتتلألأ أضواء المدينة بـألوان قزحية لم تألفها بعد عيني، كنت أجد في ٱزدحام الشارع الغاص سببا مريحا كي أضيع وسط الأجساد المتراكضة في سائر اﻹتجاهات مسرعة . عدت وطمأنت نفسي مجددا أنه لا أحد سيكترث لوجودي وسـط مدينة عملاقة تطأها قدماي لأول مرة .هززت رأسي بقوة ثم خبطت يداي في الهواء كما لو كنت أحاول طرد طنين ذباب مزعج لم يتوقف عن ملاحقتي بعيون ربما قد لا أراها لكني أحسـها فحسب .هل كنت أتوهم ؟؟
ٱنتفضت فجأة :
– لنعد للبيت !!
غمرني بنظرة هادئة :
– ليس قبل أن تشاهدي نافورة الساحة ، ستعجبك كثيرا !!
تنفست بصعوبة . ٱلتصقت بذراعه هامسة بصوت راجف :
– طنين الذباب .. لايكاد يفارقني !!
كان ٱضطرابي الواضح يحرمني متعة النزهة . أما ٱبتسامته هو فظلت واثقة ، لا مبالية :
– لا تخافي .. أنت الآن معي !!
تظاهرت بالقوة ،ضممت أصابعي الرقيقة بين يده ألتمس من وجوده الأمان ، محتمية به من قلقي ومن حذري، ضغط على أناملي بقوة أشعرتني في العمق أنني لست وحدي ..لم أعد وحدي.. صار ليدي، حضن وبيت..ومرفأ ..برغم كل هذا لم أستطع إلا أن أهمس وبنفس النبرة الخائفة :
– أتعتقد أنه لن يلحق بنا ؟؟
كانت نظراته لصيقة بواجهة متجر لبيع أحذية رياضية فاخرة ، ٱلتفت نحوي قائلا بضجر لا يخلو من تحد:
– سيكون ذلك كما لو كان يبحث عن إبرة وسط كومة قش ! « كازابلانكا « غول يطحن كل شيء حتى وجهه القميء !!
– ستطالنا يده يوما ، أنا أعرفه جيدا .. سليل الصخور الصلدة !!
– قد ينحدر الماء من الصخر يوما .. لم يكن أمامنا خيار آخر!
أغمـضت عيني للحظات غبطته فيها كـثيرا على تماسك أعصابه وثقة إيمانه . كنت أتساءل في سري ، لم أنا خائفة هكذا مادمت أحس خالصة أني لم أخطئ ؟؟ هل الخطأ أن نكون كما نريد أم نخطئ كما يريد الآخرون فنفقد إنسانيتنا ، مرة من الخوف ومرة من الطريق المسدود ؟
كانت الأصوات قد بدأت تتداخل بجوارحي، ووحده صوتي المتمرد والوحـيد كما الموت ظل يركض ويتردد خلف أسوار قريتي الغارقة في سباتها .. حيث سينتشر دون شك خبر هروبي كالنار في الهشيم . هناك ، حيث حبسوا عن عيوني تدفق أشعة الشمس الضاحكة وأهرقوا خمرة قمر يتلألأ في أحشاء خيالاتي المحملة بطيف من أحببت والذي لا يفوح أريجي إلا له .. حينما فطنت القبيلة أن عطري قد تسلل ، حاصروا الأفق بالدخان . ٱقتصوا من الشجر الوارف، ركلوا الحب وأشهروا السكين بعدما نشروا عث الصمت ورعدة الخوف في الأوصال .. أنا لا أريد أن أتحسر على خطوة تنشدها قدماي ولا أمشيها ،أو قلب أخضر ينادي تربتي فلا أستجيب له .. أو سعادة تبهجني عن آخري ولا تسعد غيري ، ليس ذنبي إن كانت قلوب القبيلة معتمة ولا تدق !!
كل ما فعلته أنني ٱخترت طريقي .. طريق قلبي .. فهل أذنبت ؟؟
2/ صرخت القبيلة في وجه الشاردة عن القطيع :
كيف تسلل إليها الرفض ،هي التي لم تعرفه من قبل ؟؟ من سحبها من يدها بعيدا عن سائر النعاج وفتح لها بابا أوصدناه ؟؟ بل من علم فمها نبرة اﻹحتجاج والعصيان ؟؟ فمها الريان خلق للتقبيل وٱمتصاص الرحيق فقط .. لا للاحتجاج وركل المتوارث بأطيط التمرد !!
صاح أخوها أو شرطي الدار كما تحب هي أن تسميه، كأنه يحسم أمرا لا يحق لها الجدال فيه:
– لا معنى لٱعتراضك على من سيرفع مقصلة الفقر عنا. ليس من حقك رفس النعمة !
– لكنه عجوز متصابي ، له في كل سنة زيجة .. للمتعة فحسب !
– لا شأن لك بزيجاته ، جيوبه الممتلئة تغفر له . من يرفض اﻹنحناء لٱلتقاط ما يجود به ؟؟
– أنا لن أنحني ..
– كل هذا من أجل شاب تافه رأسه محشو فقط بترهات الكتب ؟؟
– أليس من حقي أن أختار؟ و…
قبل أن تتم جملتها كانت الصفعة القوية قد هوت على خدها ، أحست معها بدوار فادح لم يمنعها من التساؤل بنفس الوجع : « حتى متى ستظل مصائرنا تحت سفح أقدامهم ؟؟ «
3/ قصاصة جريدة :
أتفرس في جسـدها وقد صار الآن مجرد حادث منشور بلون قرمزي في الصفحة الأولى ، ومجرد صورة لنهاية رسمها برد الخنجر، هاهي الآن تتذوق طعم دمها مسفوحا باليد الآثمة التي تركت صخورها تنحدر بمهاوي الخطيئة ، معفرة بجرمها والكلمات ترشح برعافها ، وهاهم ينشرونها الآن بقليل من الحب .. بكثير من المغالطة :
« مقتل شابة في مقتبل العمر بسكين أخ الضحية .. دفاعا عن ( الشرف ) !! «