بدعم من وزارة الثقافة، وضمن منشورات جمعية أصدقاء متحف الطنطان، صدر قبل أيام كتاب «الكاريكاتير في المغرب- السخرية على محك الممنوع» لمؤلفه ابراهيم الحَيْسن. قدَّم للكتاب الباحث والإعلامي بوشعيب الضبَّار، وهو من القطع المتوسط يقع في 170 صفحة معزَّزة بملزمة للصور الملوَّنة قام بتصميمها الفنان التشكيلي فيصل احميشان إلى جانب الغلاف الذي يتضمَّن رسما تعبيريّاً للمبدع العربي الصبَّان.
حسناً فعل الأستاذ ابراهيم الحَيْسن بتسخير كل جهده، كباحث وناقد وفنان تشكيلي ممارس، من أجل إصدار هذا الكتاب، الذي يشكل وثيقة سوف تعزِّز مكتبة الكاريكاتير، التي تشكو من قلة المصادر، وندرة المراجع التي يمكن الاعتماد عليها للتأريخ للبدايات الأولى لهذا الفن المشاغب، على يَدِ الرواد، وما أعقبها من امتدادات حتى الآن بفضل الأجيال الجديدة الباحثة عن مساحات أوسع لحرية التعبير، على أعمدة الصحافة، بعيداً عن الحدود والقيود..
إن الحَيْسن هنا، وبحكم سبره لأغوار الثقافة الفنون، وإبحاره في شتى أصناف المعرفة، كما تشهد على ذلك مؤلفاته وأبحاثه الغزيرة، يقوم بحث جاد، فهو يغوص بين تلافيف ذاكرة فن الكاريكاتير، ويتتبع مساراته ومسالكه، منذ نشأته حتى الآن، ويستحضر فرسانه وناسه في المغرب، ثمَّ يصوغ الخلاصات بأسلوبه الرصين الذي يتَّسم بالعمق والبساطة، ويجمع بين المعلومة والتحليل، وهذه خاصية إيجابية، قلَّما تتوفر للكثيرين من حملة الأقلام.
لقد جاء هذا الكتاب في توقيته تماماً، بعد أن أصبح من اللافت للانتباه، ما يسجله الرسم الصحافي الساخر، في السنين الأخيرة، من حضور متزايد في الصحافة المغربية، مكتوبة وإلكترونية، وفي مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي يعني، في ما يعنيه، أن هناك وعياً بأهمية هذا الفن الذي استطاع أن يفرض نفسه من خلال تفجيره لمجموعة من الملفات المسكوت عنها، عبر تنوُّع التجارب، وتعدُّد التعبيرات والأنماط والأساليب الفنية.
في الماضي البعيد، وفي إحدى الفترات الحسَّاسة من تاريخ المغرب، كان هناك نوع من الحذر من طرف بعض ناشري الصحف في التعامل مع الكاريكاتير، مخافة الزجِّ بهم في متاهات لا أحد يعرف سبل الخروج منها، فكان الاكتفاء غالباً بقص رسوم من جرائد ومجلات فرنسية ومصرية، ولصقها لأداء وظيفة واحدة، هي ملء الفراغات البيضاء في الصفحات.
اليوم، يكاد أن يكون تقريباً، لكل منبر إعلامي مكتوب أو موقع إلكتروني، رسام كاريكاتير خاص به، يمدُّه يوميّاً بما تجود به ريشته من لذعات حادَّة، تنتقد تقلُّبات الأوضاع السياسية، والتحوُّلات الاجتماعية، مع تفاوت ملحوظ، إن جاز التعبير، في مساحات حرية التعبير، حسب خطوط التحرير.
هذا الحضور المتزايد لفن الكاريكاتير في المغرب، لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة تراكم تضحيات كتيبة من الفنانين، خاصة منهم أولئك الرواد الذين وضعوا بصماتهم على أسس البدايات، وكانوا بمثابة علامات مضيئة على الطريق، بعد أن نال كل واحد منهم نصيبه من المعاناة والإقصاء والتهميش، في لحظات مفصلية من تاريخ المغرب السياسي، وخاصة خلال سنوات الرصاص.
الحكايات كثيرة، والأمثلة متعدِّدة ومتشعِّبة، يصعب حصرها في هذه الكلمة التقديمية، لكن يمكن اختزالها في بعض الحالات، كما أوردها الكتاب، من بينها اعتقال ابراهيم لمهادي (المحرِّر)، والبوهالي حميد (التقشاب)، ومضايقة محمد الفيلالي (لوبنيون)، ومنع السلطة للعربي الصبان (العلم) من النشر لدواع سياسية، وتعويض ركنه بـ”فصاحة البياض”، ومحاكمة خالد كدار (أخبار اليوم)، والتوقيف المفاجيء للحسن بختي من العمل في (الاتحاد الاشتراكي) دون مبرِّر قانوني.
ولعله من باب الإنصاف، الاعتراف بما وفرته الصحف الحزبية والوطنية، في زمن بعيد مضى، من مساحات رغم محدوديتها لنشر الكاريكاتير، وقد كان ذلك يدخل في إطار محاولة استغلال الرسم الساخر لمحاربة الاستعمار خلال فترة الاحتلال، أو استفزاز السلطة تحت لواء المعارضة بعد فجر الاستقلال، دون نسيان الأيادي البيضاء التي مدَّها قيدوم الصحافيين المغاربة مصطفى العلوي، في الستينيات والسبعينيات والثمانينات من القرن الماضي، من خلال صحفه “أخبار الدنيا”، و”الدنيا بخير”، و”الكواليس”، وغيرها، لاحتضان الإرهاصات الأولى لبعض الرسامين المشاغبين.
مع مرور السنين، برز جيل جديد من الإصدارات الصحفية المهتمة بالسخرية والكاريكاتير لاستكمال المشوار، بعضها توقف، إما لإكراهات مادية، أو لظروف سياسية مختلفة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، “الهدهد” لأحمد السنوسي (بزيز)، و”أخبار السوق” لمحمد الفيلالي”، و”التقشاب” لحميد البوهالي، و”المقلاع” للعربي الصبان، و”أبيض وأسود” لعبد اللطيف كلزيم، و”دومان”، و”دومان ماغازين” لعلي المرابط، الذي كان قد حكم عليه بالمنع من الكتابة لمدة عشر سنوات، و”بوبي” لخالد كدار التي تحوَّلت إلى موقع الكتروني.
مقابل ذلك، هناك إصدارات أخرى، ذات طبيعة صحافية عامة وإخبارية شاملة تواصل المسار، تضع الكاريكاتير ضمن مكوِّناتها، وأجناسها الصحافية، وأحيانا يتصدَّر صفحاتها الأولى، من بينها “الأسبوع الصحافي”، و”المشعل”، و”الوطن الآن”، إضافة إلى الصفحات الساخرة في أعداد نهاية الأسبوع ليوميات “الأحداث المغربية”، و”النهار المغربية”، و”المساء”، و”الأخبار”، و”رسالة الأمة”، و”آخر ساعة”.
ومما يطمئن الخاطر إلى أهمية التسجيل لتطوُّر هذا الفن الساخر، ومواكبته لكل الانعطافات التي شهدها المغرب، بروز مؤشرات تحفز على المضي بمشروع التوثيق نحو مداه الرحب، من بينها كتب لبعض الرواد، مثل ابراهيم لمهادي، والعربي الصبان، ومحمد ليتيم وغيرهم، وتتضمَّن مجموعة من الرسومات النابضة بالسخرية، ولمحات من المنجز الفني والسيرة الذاتية.
ورغم العراقيل التي قد تنتصب في وجهه من طرف بعض العقليات الرافضة لكل مظاهر التغيير، فإن الكاريكاتير، لم يعد مكتفيّاً بالصحافة المكتوبة والإلكترونية، كنافذة يطلُّ منها يوميّاً على المتلقي، فقد سعى لاقتحام أفاق أخرى مثل المسرح (تجربة عبد الحق الزروالي مع رسوم العربي الصبان في إحدى المسرحيات)، وكذا الشاشة الصغيرة من خلال مشاركة لحسن بختي في حلقات بعض برامج القناة الثانية، وخالد الشرادي في قناة “ميدي 1 تي في”.
ولم يكتف الكاريكاتير بذلك، بل امتد ليشمل الملتقيات والمعارض الفنية، حتى أصبح له موعد سنوي يتمُّ الاحتفاء فيه برموزه وفنانيه، في ملتقى شفشاون للكاريكاتير والإعلام، الذي تقف وراءه جمعية “فضاءات تشكيلية” برئاسة الفنانة نزيهة بشير العلمي، ومساندة محمد أحمد عدة، مدير الملتقى، ودعم الفنانين محمد الخزوم، وعبد الغني الدهدوه، وخالد الشرادي، وغيرهم من ممارسي هذا الفن الجميل..
غير أن هذا كله لا يمكن أن يحجب الحقيقة الـمُرَّة، وهي أن فن الكاريكاتير لم يأخذ بعد حقَّه من الاعتبار، لدى صانعي القرار ومسؤولي المنابر الإعلامية، فما زال يشكل بالنسبة لهم هاجساً يتوجَّب أخذ مسافة معينة منه، وما زال العديد من مبدعيه وممارسيه محرومين من حقوقهم، في غياب إطار جمعوي أو نقابي قوي كفيل بالدفاع عنهم وعن فنِّهم.
لا تزال الحاجة ماسَّة إلى إنشاء جائزة للكاريكاتير ضمن الجائزة الوطنية الكبرى للصحافة، مثلما هو جار به العمل في جميع أقطار الدنيا، التي تحتفي بالكاريكاتير بما في ذلك مصر وبلدان الخليج العربي، ولقد كانت هناك وعود رسمية من طرف المسؤولين المغاربة، ولكنها ظلت مثل كلام الليل الذي يمحوه ضوء النهار.
لا تزال الحاجة أيضا، ماسَّة إلى تأسيس متحف للكاريكاتير للحفاظ على لمسات ريشات مبدعيه على الورق من الضياع، أولئك الذين اختاروا الرسم الصحافي الساخر عن وعي واقتناع بدوره في رصد الاختلالات، والتفاعل مع هموم الناس، حتى غَدَا كأنه لسان الحال والناطق الرسمي باسم الفئات المستضعفة في المجتمع.
فمن يتصفح هذا الكتاب، سوف يلمس -ولا شك- أن مؤلفه أنفق وقتاً طويلاً، في التنقيب والنبش بين العديد من المطبوعات والمراجع، على قلتها، في سبيل إخراجه إلى حيِّز الوجود.
والواقع أن هذا الإصدار هو الأول من نوعه، في المغرب، في شكله ومضمونه، وفي طريقة تناوله للفن الساخر، محاولاً الإحاطة بالموضوع من جميع الجوانب، تاريخاً ومصطلحاً ومفهوماً، حتى يكون أرضية قابلة لمزيد من المبادرات، وقد حرص مؤلفه، كباحث في الشأن الثقافي والفني، على ألا يغفل أية شاذة أو فاذة.
إنه بهذا الجُهد يستحضر التجارب الفنية بأسماء أصحابها من فناني الكاريكاتير، مستعيناً بأعمالهم وبمنجزهم الفني، متوقفاً عند بعض المواقف التي أبانوا عنها، من خلال رسوماتهم وإبداعاتهم، التي جعلتهم موضع متابعة أو مساءلة، لكن ذلك كله لم يحد أبداً من عزمهم وإصرارهم على السير في طريق هذا النسق الفني، حتى آخر طلقة حبر من ريشاتهم في وجه الفساد.
كاتب، باحث وإعلامي
(*) تحقَّق هذا المطلب مؤخراً بمصادقة مجلس الحكومة (المغرب)، خلال اجتماعه اليوم الخميس 29 نونبر 2018، على مشروع مرسوم رقم 2.18.779 بتغيير وتتميم المرسوم رقم 2.03.729 الصادر في 7 يونيو 2004 بإحداث «الجائزة الوطنية للصحافة»، تقدم به الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، الناطق الرسمي باسم الحكومة.