1 – سؤال الكتابة:
يظل سؤال الكتابة الإبداعية مرتبطا بالذات في علاقتها بالواقع والتاريخ.وتبرز القصة جنسا أدبيا قادرا على تسريد العالم واستنطاق ظواهره.تنصت للحياة فتتمثل الأزمات المصيرية التي تواجه الانسان في علاقته بالأنا والآخر والواقع والكون. وهذا مايشير إليه الكاتب المغربي عبد الله العروي في كون القصة شكلا تعبيريا مطابقا لمجتمعنا المشتت .
وبديهي أن يساهم سياق الكتابة القصصية المغربية في دينامية اشتغال خطابها وسيميائية تلقيه؛وفق اشتراطاته السوسيوثقافية والتاريخية ،بكل الأنساق الحاضنة والبانية لأفق انتظاره.
وإذا كان سؤال الدلالة، يمتح نسغه مع البدايات ، من قضايا المجتمع والتاريخ،فإن سؤال الدال/الشكل ،كان ولايزال مؤرقا لوعي القصة ،يغريها بارتياد الآفاق الرحبة المنفلتة والمحتملة، بفعل ديمومة التجريب منذ النشأة والتأسيس؛ من أجل تأكيد قدرة خطابها على تشييد واقعيته، وتأسيس تاريخيته في الفضاء الأدبي المغربي، مما جعل سيرورة ممارسته النصية، تسير نحو التحول والتجاوز،تختزله هذه الورقة في مسارين:
الأول:كتابة قصصية تغتني بصدارة المدلول وهيمنة الثيمات المرتبطة أشد الارتباط بالشأن الوطني والاجتماعي،تأسرها بنيتها السردية المغلقة بطبيعة تكوينها التقليدي ورؤيتها الانعكاسية.
الثاني :كتابة قصصية ذات نزوع واقعي اجتماعي وانتقادي ،أكثر أصالة ووعيا بجدل المثاقفة .تصر على الانفلات من ربقة السؤال التقليدي :ماذا تقول القصة؟ إلى سؤال أكثر نضجا وعمقا وفاعلية:كيف تقول القصة؟ تنتصر في ذلك للدال الذي لم يعد مجرد وعاء للدلالة ،بل تحول إلى دال سيميائي تزداد علاقته بالأنساق توترا كلما كانت فجوة التبئيرأعمق وأبعد.
2 – رهان التجاوز النصي :
لعل مقارنة النصوص القصصية في مجموعة «سلة عنب» للقاص المغربي أبي يوسف طه ،مع نصوص أخرى سابقة أو مجايلة لها ، يقود القارئ إلى أن وَكْدَ الكتابة السردية في المجموعة، لم يعد منشغلا بسؤال الحكاية،بل تجاوزه إلى الاهتمام بسؤال الكتابة أكثر؛ فالحكاية وحدها لاتنتج قصة. وبذلك لم يعد شغف الكتابة لديه يميل إلى الجاهزالتقليدي ذوالبنية السرديةالمغلقة، بقدر ما شرع يراهن على التحديث بالانفتاح على طرائق سردية مغايرة، الأمر الذي جعل سيرورة القصة وهي في تشكلها المستمر، يفضي بها نهمها إلى الوقوف عميقا أمام مرآة نفسها،واختيارها لتذويت خطابها وإسماع صوتها ،عوض سماع صوت الحكاية التي استبدت به المحاكاة.
ويرى أحد الباحثين1 أنه*بدءا من السبعينيات سيحتد الصراع السياسي والاجتماعي، وسيدرك ثلة من الكتاب المبدعين أهمية الإبداع الثقافي عموما والأدبي خصوصا .وإذا كان التركيز على القصة القصيرة ،فإن كتابا مثل محمد زفزاف واحمد بوزفور ومحمد عز الدين التازي وأبو يوسف طه وإدريس الخوري ، أدركوا ما لتأصيل القصة القصيرة في تربة الأدب العربي المغربي من أهمية بالغة.فماهي طبيعة التأصيل في الكتابة القصصية للمجموعة القصصية «سلة عنب»؟وكيف يشتغل المحكي في المجموعة وهو يقوم بتسريد الحياة ، طارحا سؤال الكتابة القلق؟.
اعترت استراتيجية الكتابة في «سلة عنب» شهوة تجديد آليات كتابتها ،بالاشتغال على الممكنات السردية والإبدالات المغايرة القادرة على التجاوز .فاخترقت القصة في المجموعة مادتها الخام وهي اللغة، وبلغت بها جوهر الذات وجوهرالكتابة .والجدير بالتأمل، أنه متى وصلت الكتابة إلى أوج أناها عبر رمزية دالها، لا مدلولها،فثمة هويتها المتحولة باستمرار.الأمر الذي ساهم في منح المحكي في المجموعة»سلة عنب»حرية ممارسة اختيارات سردية من منطلق ذاتي، رفع منسوب تدفق التخييل في نصوصها الأحدعشر إلى مستوى من التجدد والتحول والكشف.أصاب غموضُ الكتابة الفنيُّ فيها ، الذائقةَ التقليدية بالارتباك والحيرة.
على هذا الأساس تشكل بناء النص في «سلة عنب»، بفعل حركية داخلية مهيمنة، ساهمت في صنعة خصائصه وعناصره ومكوناته لحظة ولادته وتلقيه.تولدت لبعض عناصره سلطة أكثر، لتغدو محددات أساسية لديناميته الداخلية المولدة له، والتي ستكون متبوعة بعد ذلك بدينامية أخرى تداولية بين النص والتلقي.نذكر من تلك العناصر التي اعتمدتها الكتابة في «سلة عنب» للأديب أبي يوسف طه ،وهي تصوغ رؤيتها الإبداعية التي اخترقت عمود القصة القصيرة السردي وكشفت عن التحولات التي طالت عمارة الخطاب القصصي المغربي منذ البدايات :
*تكسير البنية السردية: فمالذي أصاب البنية السردية التقليدية من تحولات في هذه المجموعة؟
الواضح أن قصص مجموعة»سلة عنب «الإحدى عشر،تتوزع من حيث بنيتها السردية إلى نمطين من حيث صنعة الكتابة:
– نمط سردي تقليدي، وتمثله عناوين القصص التالية:(الزنابق السوداء- يطو- حضرة الحمار المحترم- المعطف)
-نمط تجديدي :(الصوت والصدى- كهرماء- الترادف- سلة عنب-اشتغال التوالد- ملهم بن حسبان)
وبطريقة إحصائية مقارِنة يبدو أن نسبة النصوص التي تتملكها جاذبية التجاوز النصي ،تتجاوز نسبة سبعين في المئة من نصوص المجموعة، فالقصة الأولى الموسومة ب»الصوت والصدى»يبدوخلالها تكسيرالبنية السردية جليا .
*بنية التقطيع :اعتمدت القصة على تكسير البنية السردية المعتادة ، بأسلوبية التقطيع كشكل بصري وثيمي ، فاستطاعت الانزياح عن التعاقب السردي والزمني حيث تتضمنت ثلاثة مقاطع ذات عناوين مستقلة (بوصلة-الصالة-أصوات)ويتميز اشتغال المحكي بضمير المتكلم الوجداني ذي التأمل الفكري واللغة الشاعرية. ومن يقتنص لحظة الكتابة الجمالية يدرك مفارقة المزاوجة على مستوى النص بين الواقعية الانتقادية ،وبين التداعي والاستبطان الذاتي الذي يومئ إلى اختلال القيم وهشاشة العلاقات الانسانية:
«قبل أن أغمس أصبعي في هذا الجرح ، كان يعوزني الاطمئنان الضروري إزاء بناء كهف رمزي للأسرار، مغامرة غير مأمونة بسبب الانبثاقات المفاجئة والظلال التي تطال الترميزات الممكنة» .
وفي حوار في نفس القصة المشهد الثالث (أصوات):
-إنه عانى كثيرا من اختلال القيم ونظام الترميز.
قال الشخص الذي ظل شاردا ومبهوتا:
-إن المأساة في التواطؤ الثقافي …يتكلم الواحد فيصادق الآخرون بهز رؤوسهم. 3
*المحكي الشعري وتمثلاته
(الميتاسرد- الحس الكافكاوي- التداعي الحلمي- الانشطار المرآوي- العجائبية)
يعمد المحكي الشعري في المجموعة إلى اختراق لغة السرد النثرية ،بتوليد الأخيلة الغنية بالعوالم الرؤياوية والدلالات الرامزة التي يصعب على اللغة النثرية السردية بلوغها.ورغم أن تمادي شعرنة السرد في الكتابة، يعد اهتماما مبالغا فيه باللغة على حساب مرجعية السرد الواقعية ،الأمر الذي أحال الخطاب السردي القصصي إلى خطاب أحادي الصوت ،باعتماده على ضمير المتكلم»أنا»/ الذات المتكلمة بكل صرخة وجدانيتها الخالصة. فإنه بالمقابل أي تشعير السرد ، منح اللغة القصصية أقصى حدود طاقاتها التعبيرية ، مما جعل خطاب «سلة عنب» القصصي ، بتشكيلاته اللغوية التكثيفية والترميزية ،يمنح المرجع الواقعي عمقا في بالإشارة والتأويل.
ورد على لسان السارد برؤية العالم بكل شيء ،في قصة «اشتغال التوالد»:
(الصمت يوشوش للصمت، الليل وحده على العتبة، يحمل كناسة نهار ذابل والقمر في انزلاقه الواهن ونجوم شوارد تنز الضوء، كان صوت الفراغ يتصادى وعلى مبعدة شجرة جذباء توغل فروعها في جسد الضوء الزئبقي.المدينة يباب …وأنا والليل والخراب …» )4
وفي قصة «سلة عنب» ص23:
اشتعل الشيخ البهي كعمود نور وخاطبني: أيها الطهري، نم وادع أصفياءك ليتطهروا بالاغتسال في نهر الخطايا…وتصفو الذين أفسدوا ملكوت الله بخستهم ونذالتهم.
هكذا يرتاح السرد للغة الشعرية في المحكي الشعري، ويطيب له السكن إليها، ليفرز أشكالا من أساليب التداعي الحلمي والانشطار المرآوي والتأمل الفكري والفلسفي والصوفي والرمزي الغرائبي.كما يشيرإلى ذلك ،الباحث والناقد الفرنسي «جان أيفي تاديي»في مناقشته لظاهرة اشتغال المحكي الشعري في السرد الروائي*.
-الغرائبي:
يبرز الغرائبي بالتناص مع الحكايات الشعبية العربية القديمة: في قصة* سلة عنب * 5
«قطف عناقيد جيدة،وقضى الليل ساهرا،وفي الصباح توجه بسلة العنب نحو القصر،وبعدما مماحكة الحراس،أذن له بالدخول،ولما مثل أمم السلطان انحنى مبجلا،وقال له:
ماقصدك؟
قال الرجل:
آثرت ياصاحب الجاه أن أخصك بفاكهة في غير موسمها.
وفجأة بادر بإفراغ محتوى السلة في آنية فضية،لم تسقط عناقيد كما توقع ،بل سقط رأس مضرج بدم طري.»6
-الحس الكافكاوي:
بغموض فني، ولغة شفيفة تستغور شعرنة السرد الدواخل، وتنبش في المضمر والشعور واللاشعور، يملأ المحكي الشعري فراغات السرد بالتخييل.فيستعير السرد من الشعر طرائق كتابته،ليتمكن من تمثيل راهن الواقع واستغوار عبثية الحياة واغترابها الفكري والثقافي وقد ينقلنا إلى الحس الكافكاوي :
(أتمدد أرمق من النافذة الخواء البراني…قبالتي وجه صخري جامد..تلهو يد معروقة ضخمة كقفاز من طين بشاربه الرمادي…اقرأ جريدة …أدخن علبة…أحرك أصابع يدي مشرعة أمام عيني ثم أتامل السحاب الهارب…الطيور البيوت اللاشيء…أحمل نفسي …أتأمل المرآة الكبيرة المهشمة ..لي عيون وشفاه..رأس فوق رأس..أيد يتعلق بها أصابع كالديدان )7
-التداعي الحلمي:
إلى جانب الرؤية الكافكاوية العبثية، تطفح عوالم المحكي الشعري في «سلة عنب « بالتداعي الحلمي .. ولاشك أن أشكال الحلمي الرمزي في المجموعة وهي تتعالق مع أدباء عالميين ،تطرح سؤال الكتابة (الميتاسرد/الذات مركز السرد ) كتقنية حداثية تكسر النمطي ،وتكشف وعي الكتابة بذاتها عند أبي يوسف طه خاصة في «قصة المعطف»:
«..لم يعد لي طموح في أن أصبح كاتبا.مكتبتي بعتها كلها في لحظة غضب»8
فهل يكشف هذا المونولوج ،عن أزمة صراع الذات مع الكتابة برفضها لواقعها الأدبي وحلمها بالتجاوز الأدبي للحدود ،مثل «فيودور دستويفسكي.
«يهبط القمر قليلا،كان يئن في تعب،وكأن الذي يمتطيه تتدلى رجلاه متأرجحتين،….انخفض القمر بتؤدة فنزل الرجل،كان عملاقا حقيقيا يرتدي معطفا أسود بأصداف ضخمة،أقر دون أن أسأله أن الصدفة وحدها قادته إلى هذا المكان وأنه يجهل معابر المدينة لولا الضوء المنبعث من غرفتي ، قلت في نفسي إنه دستويفسكي روى شفتيه في ابتسامة صغيرة وقال: أنا.9
-الانشطار المرآوي:
ألا يمكن أن نسمي هذه الإشارة إلى دستويفسكي في القصة انشطارا مرآويا كما يشير إلى ذلك الناقد المغربي عزيز ضويو:
(إن الناقد ريكاردو يميز بين التناص الخارجي الذي يربط نصا بنص آخر، وبين التناص الداخلي الذي يتناول علاقة النص بذاته،،مقترحا تسمية هذه العلاقة الداخلية ،تناصا انطوائيا. وهي صفة نصية لما يسمى بالانشطار المرآوي؛ وقد يعني ذلك من بين مايعنيه قيام قصة شذرية بحفر ممرها الخاص إلى التحقق انعكاسا للقصة الأولى الإطار.مما يجعل التماثل الذي يجمعهما مبنيا على لعبة التكثيف الحلمي.)10
إن ظاهرة الانشطار المرآوي كحلم استشرافي ،تكثر في مقاطع سردية عديدة بشكل مهيمن في «سلة عنب» بقوة استدعائها لأعلام الثرات العربي والانساني العالمي،حيث تتضمن القصة الإطار بذرة الإشارة والتناص مع ثيمة أخرى وقصة أخرى وحياة أديب آخر، في تعالق وتكامل.
على سبيل الختم:
إن المجموعة القصصية «سلة عنب» وهي تصور برؤيتها ماتراه وتحس به ،وبأساليب سردية مغايرة ،تكون قد أكسبت القصة المغربية في زمن التأسيس والانطلاق سمات التحول والتجاوز والانتقال من بلاغة الحكاية إلى بلاغة الذات وبلاغة النص.
الإحالات:
1-القصة القصيرة المغربية:من التعبير عن الهوية الى التعبير عن هوية الادب/علي القرشي/تحولات القصة الحديثة بالمغرب/مختبر الدراسات/ص55
2 – مجموعة سلة عنب»قصة الصوت والصدى» /ص8
3- مجموعة سلة عنب «الصوت والصدى» /ص/12/13
4- مجموعة سلة عنب قصة اشتغال الموالد ص27
Jean-Yves Tadié :Le récit Poétique,puf,Paris,1978
5-مجموعة سلة عنب قصة*اشتغال التوالد*45
6مجموعة سلة عنب»قصة سلة عنب» ص26
7-مجموعة سلة عنب/قصة اشتغال التوالد ص27
8-مجموعة سلة عنب»قصة المعطف» ص49
9- مجموعة سلة عنب *اشتغال التوالد*ص30
10- الدكتور عزيز ضويو/»التجريب في الرواية العربية المعاصرة»/ص30-
Jean-Yves Tadié :Le récit Poétique,puf,Paris,1978