ناقشت الأستاذة جميلة عناب، يوم الجمعة 28 أبريل 2017 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع “تلقي الفيلم الروائي الطويل في السينما المغربية”، حيث قدمت الباحثة، من خلال نظريات التلقي، أدوات جديدة بإمكانها أن تقوي المواكبة النظرية والتحليلية للمتن السينمائي المغربي، وأن تجعل الدارس أكثر قدرة على فهم آليات التلقي عند الجمهور المغربي، وأقرب إلى بناء متلق أكثر نضجا. ذلك أنها سمحت بتجاوز إشكالية النظرية ومطالبها، وأيضا إشكالية المنهج ومستلزماته المعرفية والعلمية وما يرتبط بينهما في سياق تاريخ المناهج النقدية. كما سمح بتجاوز النزعات التقويمية والانطباعية في قراءة للنص الفيلمي، وذلك بتجاوز المناهج البرانية التي تستمد مقوماتها من تلك النظريات العامة، سواء كانت فلسفية أو نفسانية أو تاريخية أو لسانية.
وقد حظي هذا الموضوع، الذي اعتبرته لجنة المناقشة مرجعا هاما وجيدا المختصين والمهتمين بالسينما المغربية، بتنويه خاص مانحة للباحثة درجة دكتوراه بميزة مشرف جدا.
وقد تكونت اللجنة المشرفة على مناقشة الرسالة من الأساتذة الدكاترة (نور الدين الدنياجي مشرفا ومقررا، نبيل الظاهر رئيسا ومقررا، يوشتى فرق زايد عضوا ومقررا، وحسن حبيبي عضوا ومقررا).
في ما يلي نص التقرير الذي تقدمت به الباحثة أمام لجنة المناقشة:
أصبح سؤال ‘’ما السينما؟’’، اليوم سؤالا متجاوزا، بخلاف ما كان عليه الأمر زمن المنظرين الأوائل أمثال أندري بازان وجون ميتري، حيث نجحت السينما، وعبر مخاض طويل، في الانزياح عن الانشغالات الأدبية التي وجدت نفسها رهينة لها، إلى أن استقلت بلغة خاصة بها وأصبح المحدد الأساس للحكاية السينمائية هو الوسيط السمعي البصري.
ورغم أن السينما في المغرب عرفت، منذ نشأتها إلى الآن، تطورا كميا وكيفيا وتظاهُراتيا، إلا أنها لا تستجيب لانتظارات المتدخلين في هذا القطاع من مخرجين ومنتجين وموزعين وأرباب قاعات…
في هذا السياق، إذن، يندرج هذا البحث، الذي يستهدف اختبار ثنائية (الفيلم/المتلقي)، بعيدا عن الانطباع والأحكام القيمية. فإذا كان موضوع بحثنا هذا يعالج تلقي الفيلم الروائي الطويل من طرف المتلقي المغربي باختلاف ثقافاته وشرائحه الاجتماعية، فإنه يفضي بنا إلى التساؤلات التالية: أي فيلم لأية فئة؟ أي متلقي لأي فيلم؟ كيف تتحقق عملية التلقي المركبة خاصة أنها تستند على إدراك، وذخيرة، وثقافة؟ ما درجات التلقي السينمائي وما أنواعه؟ كيف تتحقق تلك الرغبة في مشاهدة الأفلام واستمالة هذا المتلقي دون ذاك؟ ولِمَ يكون الإقبال مكثفا على هذا الفيلم مقارنة مع فيلم آخر؟ وما معايير إنجاح فيلم ما؟ كيف يمكن التأثير سينمائيا على المتلقي؟ وإذا كان المتلقي رهانا مركزيا تُنتج لأجله الأفلام، فهل يضعه المخرج أو كاتب السيناريو في صلب اهتمامه؟
بطرحنا لهذه الأسئلة، نكون أمام إشكالية تفضي بنا إلى ضرورة مقاربة التلقي والفيلم كنتاج نهائي يلي سلسلة من المراحل السينمائية التي تسبق العرض (كالفكرة، السيناريو، التقطيع التقني، اختيار الممثلين، التصوير، التوضيب…)، أي دراسة التلقي في المرحلة الفيلمية دون إغفال المرحلة السينمائية التي من شأنها التأثير على المتلقي (مرحلة التوزيع والدعاية مثلا)، طالما أن السينما فن لا يتحقق إلا بجمهوره.
إشكاليــة البحـث
توقفنا في هذا البحث عند إشكالية غالبا ما يغفلها الدارسون، إذ ترتبط بالعلاقة الممكنة بين النموذج النظري التحليلي وجهازه المفاهيمي المستمد في الغالب من حقول معرفية أكثر صلة بالأدب واللسانيات والعلوم الإنسانية على وجه العموم من جهة، وبين المعطى الفيلمي ذاته كنص مغاير من حيث الدال من جهة ثانية.
وتأسيسا على ذلك، حاولنا أن نجيب عن الأسئلة التالية: كيف نقارب التلقي في التحقق الفيلمي اعتمادا على مفاهيم ونماذج نظرية مستمدة من الممارسة التحليلية لظواهر شفهية أو مكتوبة؟ هل هذا الأمر مقبول، نظريا وتحليليا؟ إذا كنا نستند في وصف مكون التلقي في الإبداع المكتوب (قصة، رواية، شعر…) على عدد من المفاهيم المستمدة من الطبيعة الكتابية واللسانية، ومن حقول متعددة كالبلاغة أو السيميولوجيا أو علم النفس أو علم الاجتماع..؛ فهل يمكن أن نوظف نفس الجهاز المفاهيمي في دراستنا للتلقي على المستوى السينمائي (الصناعة، الإنتاج، التسويق، ..) وعلى المستوى الفيلمي باعتباره بعدا خطابيا، وبنية حكائية، ولغة فيلمية مركبة، وعلاقات قولية قائمة بين ناظم الفيلم (المخرج) والمتلقي، ما دام التلقي، هنا، ذو تمظهر سمعي بصري مختلف عن الظواهر الأدبية؟
ألا تقتضي الطبيعة الفيلمية المركبة، وقنواتها المتعددة، وآلياتها وتقنياتها واستراتيجياتها المخالفة، مقاربةً من نوع خاص؟
المنـــاهــج المـعتمــدة
ميزنا في هذا البحث بين التحليل الأدبي كآليات وأدوات ومفاهيم وبين نتائج هذا التحليل التي تخلينا عنها ما دامت هذه النتائج لا تهم عموما إلا الأدبَ ذاتَه. وهكذا اتخذنا من الجهاز المفاهيمي الذي تتيحه نظريات التلقي أداة، وتعاملنا مع هذه النظريات، ليس باعتبارها مجرد مواقف نظرية، بل فرضيات منهجية واستراتيجيات تحليلية صالحة لمقاربة موضوع الدراسة، خاصة أنها تتيح أدواتٍ إجرائيةً تتكيف مع المعطى الجديد (الفيلم السينمائي). وانطلاقا من هنا، فالدراسة التحليلية للتلقي الفيلمي تساهم في تطوير نظريات التلقي والتأويل والسرد وغيرها، وأيضا في إغناء الجهاز المفاهيمي المستورد، وفتح المجال لدراسة التلقي في ظواهر إبداعية أخرى (التشكيل، المسرح، التصوير…)، وهو ما يساهم، دون شك، في تطوير كفايات نظريات التلقي الفيلمي ذات الطبيعة المركبة.
ومع ذلك، لا بد أن ننبه إلى أن الطبيعة الخاصة للمعطى الفيلمي تشترك مع الإبداعات الحكائية الطبيعية في خاصيتين اثنتين:
أولاهما تتجلى في كون البنية اللغوية الفيلمية تتكون من نفس المكون اللغوي الطبيعي، السمعي والبصري (حوار، كتابة).
ثانيهما تتجلى في كون المكونات الحكائية والسردية المتواترة في الحكايات الطبيعية هي نفسها التي نجدها في الحكاية الفيلمية كالفضاء، والشخوص، والأحداث…
غير أن هذا التشابه لا يتيح لنا التعامل مع اللغة الفيلمية كلغة طبيعية، أي أنها ليست مجرد تراكيب لغوية وإسنادات لفظية تعاقبية أو خطية، لكون الفيلم لا يمكن أن يتحقق إلا داخل بنية لغوية بصرية محضة تحكمها زوايا نظر، وحركات ومحاور للكاميرا، وتوضيب، وسُلَّمية لقطات وغيرها. ومن ثمة، فلا يمكن للغة الطبيعية ولا الحكائية أن توجد خارج الصورة، أي أننا ندرك العالم الحكائي بكل مكوناته بصريا، فتأخذ اللغة الطبيعية والبنية الحكائية، تبعا لذلك، شكلا مغايرا لطبيعتهما الأصلية.
إذن غاية هذه الدراسة أن تُسهم في إثارة الانتباه إلى نظريات التلقي، وإلى قدرتها على تحليل وتأويل المعطى السينمائي والفيلمي من الداخل، أي ملامسة المتلقي الضمني الذي نستشفه من داخل اللغة السينمائية تأطيراً وتوضيبا وسردا… وهو ذاك المتلقي الذي خاطبه مبدع الفيلم من داخل الفيلم من جهة، وحتى من خلال الملصق والشريط الإعلاني وعنوان الفيلم من جهة أخرى، أي من خلال العتبات السينمائية.
وحتى نُلِمَّ بالتلقي من جميع جوانبه، ركزنا اهتمامنا أيضا، في هذه الدراسة، على المتلقي الفعلي الذي يرتاد قاعة العرض قصد مشاهدة الفيلم، وذلك حتى نعلل سبب إقباله على هذا الفيلم دون ذاك، وعن ما إذا كان هذا الفيلم يملأ أفق انتظاراته أو يخيبها. لننتهي في الأخير إلى «صورة مقربة» للفيلم النموذج الذي يريده الجمهور العريض.
ولنتمكن من الإحاطة بهذا المتلقي الفعلي، قمنا بتقسيم المتلقين إلى نوعين: متلقي عام يشمل الجمهور العريض، وآخر متخصص يشمل أهل الميدان، وخصصنا لهما دراسة ميدانية كمية وأخرى كيفية اعتمادا على فرضيات.
في مستوى أول: وضعنا استمارة وزعناها على عدد من المتلقين الوافدين على صالات العرض بالدار البيضاء (800 مرتاد ومرتادة)، وذلك لمعرفة سر إقبالهم على القاعات السينمائية، ورصد الآليات والمرجعيات الثقافية التي تتحكم في التلقي، أو تَوَلُّدِ الانطباعات المختلفة حول الفيلم، سواء أكانت إعجابا أم رفضا أم قبولا.
في مستوى ثانٍ: انصبت دراستنا الكيفية على فئة مهمة من المهتمين والنقاد وأهل الاختصاص، ومنهم نقاد ينتمون إلى الجمعية المغربية لنقاد السينما، علاوة على نقاد ينتمون إلى الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، وحتى نقاد بدون انتماء لأي من الإطارات «النقدية» الموجودة، وأعضاء سابقين في لجان التحكيم المانحة للجوائز خلال بعض المهرجانات السينمائية المحلية. وذلك حتى نتمكن من معرفة مدى وعي الفئة العارفة بالسينما والملمة بخطابها وأدواتها وبنياتها، ومدى تملكها لمعايير الحكم والتقويم. وبصفة أكثر دقة، لنقف على شبكات القراءة والأجهزة المفاهيمية المعتمدة في تحليلاتهم، وإلى أي حد يساهم هؤلاء في بناء الإبداع والتلقي المغربيين، وبالتالي النهوض بالإبداع السينمائي المغربي.
وقد انصب اهتمامنا، أيضا، على دراسة اللغة الواصفة المستعملة في وصف الظواهر الفيلمية من طرف الإعلاميين والنقاد، وذلك عبر مختلف الحوامل الإعلامية المسموعة والمرئية والمكتوبة، فقمنا بتفريغها لنصل إلى نتائج تضع اللغة الواصفة التي اعتمدها هؤلاء، حيث ميزنا، في هذا السياق، بين عدة أنواع من القراءة الواصفة المرتبطة بالسينما:
لغة واصفة تعتمد في معجمها اللغة التقنية المرتبطة باللغة السينمائية كالتأطير، وحجم ونوع اللقطات، وحركات الكاميرا، والربط المقطعي، والتركيب البصري، والتركيب السمعي…
لغة واصفة تستمد معجمها من الدراسات السردية واللسانية والسيمائية كزاوية النظر، والسرد الخطي، والتركيب التأطيري، والعلامة، والدال والمدلول…
لغة واصفة مقارِنة تنتقل من حقول وأشكال فنية مجاورة، كالتصوير والتشكيل والموسيقى وباقي الفنون البصرية كالحقل، وعمق الحقل، والظلال، والإيقاع…
لغة واصفة خارجية تنظر إلى الفيلم كرسالة وأداء وأبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وإيديولوجية، وتستعير معجمها من النقد ومجال التسويق وعلم السياسة و»البروباغاندا» …
ولئن كان موضوع بحثنا، كما هو واضح من عنوان الدراسة، هو «متلقي الأفلام الروائية الطويلة في السينما المغربية»، فإن مفاهيم التلقي التي اعتمدناها هي تلك التي أبانت عن قابليتها للأجرأة، مع كل من ياوس وإيزر وإيكو وغيرهم من منظري جمالية التلقي والتأويل، ونجاعتها التحليلية في القطع مع التصورات التقليدية التي ظلت تحصر مقارباتها للنص، سواء أكان مكتوبا أو مرئيا أو مسموعا، في المؤلِف، والمؤلَّف فقط، إذ أصبح المتلقي سيد الموقف كما يقال، ومنتج المعنى. وهذا ما سمح لنا، على نحو كبير، بإقامة علاقة تفاعلية تبادلية بين الفيلم والمتلقي، أي بناء علاقةِ ذاتٍ رائية بموضوع رؤيتها.
وفي هذا السياق جاء تقسيمنا لهذا البحث إلى بابين: أحدهما نظري والآخر تطبيقي.
الباب النظري: يضم ثلاثة فصول:
الفصل الأول: استعرضنا، في مبحثه الأول، المداخل العامة لنظريات «جمالية التلقي» مع كل ياوس وإيزر اللذين برهنا على أن المتلقي هو الركيزة الأساس لفهم وإدراك النص الأدبي أو العمل الفني بشكل عام، وأنه هو الذي يعيد تشكيل معنى النص من خلال استراتيجيات سياقية معينة. ذلك أن «ياوس» سعى إلى تأسيس مفهوم التأريخ الأدبي الذي يحقق كينونة النص، كما بسط أيضا ما أسماه ‹›أفق التوقع›› لدى المتلقي، و›المسافة الجمالية›› التي تنتجها ردود أفعال هذا المتلقي إثر محاولته فك شفرات النص. بينما ارتكزت نظرية «آيزر» على تفاعل القارئ مع النص من أجل فهم المعنى والمشاركة في بنائه، فهو الذي يملأ الفراغات التي يتركها النص، ويضفي التحديد الكامل على مواقع اللاتحديد.
وفي المبحث الثاني من هذا الفصل، توقفنا عند نظريات كل من موريس، بورس، أوستن وغيرهم، في مجال السيميائيات التداولية ونظرية أفعال الكلام، أي تلك النظريات التي تُبين كيفية إنشاء علاقة بين اللغة، بمعناها العام، كنظام من العلامات السيميائية وسياقها الذي يستوجب بدوره استيعاب الكيفية التي تعمل بها علامات اللغة كوحدات ذات معنى ودلالة، ويحكمها سياق وإطار أثناء العملية التداولية.
وما دامت اللغة نظام من العلامات، فقد اهتممنا في هذا الفصل بنظرية «سيميولوجيا التأويل» كما وضعها أمبيرتو إيكو اعتمادا على تصورات فلسفية ومعرفية ضاربة في القدم مثل الهرمسية-الغنوصية.
وهكذا توقفنا عند أهم المفاهيم التي عرضها إيكو مثل: «المؤولة» و»الموسوعة» و»القارئ النموذجي» و»العوالم الممكنة»، وهي المفاهيم التي سخرها إيكو من أجل دعم نظريته في التأويل، انطلاقا من مقولة «النص آلة كسولة»، إذ أن المتلقي يقوم بالتأويل تماشيا مع مبدع النص، فكلما تحرك الأول تأويليا، تحرك الثاني توليديا وفق ذخيرته وإلمامه بسنن النص واستراتيجياته وعوالمه الممكنة.
الفصل الثاني: يهم «تلقي الفيلم السينمائي»، حيث تتبعنا انتقال مفهوم التلقي من الأدب إلى السينما. كما عمدنا إلى اعتماد بعض التدقيقات النظرية والمنهجية المرتبطة بماهية «السينمائي»، وتمييزه عن «الفيلمي» وفصله عنه، في المبحث الأول.
علاوة على ذلك، استعرضنا مجموعة من القضايا الأساس، كالأنواع الفيلمية، والسرد الفيلمي والنظريات الجمالية للسينما، فضلا عن تصنيف الكتابات حول السينما والنظريات السينمائية.
وحتى نتمكن من رصد خصوصيات المراحل السينمائية، وقفنا عند مراحل إنتاج الفيلم السينمائي من الفكرة إلى العرض، مميزين بين مرحلة الإنتاج، وما يرتبط بها من مكونات وعمليات (كالسيناريو، والتقطيع التقني، واختيار الممثلين، والتصوير)؛ ثم مرحلة ما بعد الإنتاج (كالتوضيب، التوزيع والدعاية).
أما في المبحث الثاني من هذا الفصل، فقد اقتربنا أكثر من الظاهرة الفيلمية بالتركيز على التحليل الفيلمي وتحديد آلياته، من تقطيع تقني، ولغة سينمائية وأهم مكوناتها (الصورة الفيلمية، مفهوم اللقطة، مفهوم المشهد، حركات الكاميرا وزواياها).
الفصل الثالث: انطلقنا في هذا الفصل، الذي يهم «تلقي الفيلم الروائي المغربي الطويل» تحديداً، من حصر الظاهرة بالحديث عن الفيلموغرافيا من منظور التلقي. وقد عملنا، في المبحث الأول، على تصنيف أنواع المتلقين (المتلقي الناقد/ المتلقي العام/ المتلقي المخرج) لننتهي في المبحث الثاني إلى الحديث عن الفيلم المغربي وعلاقته بالجمهور السينمائي وعاداته. كما توقفنا، في آخر هذا الفصل، عند فضاءات التلقي ومحافله، انطلاقا من القاعات السينمائية، ثم التلفزيون، فضلا عن مختلف الحوامل الأخرى المرتبطة بالتكنولوجيات الجديدة.
وفي الباب التطبيقي، حددنا المتن الذي اشتغلنا عليه، من خلال مجموعة من الروائز التي تتحيز للتلقي النصي، وفق مبدأ الملاءمة. وهكذا قسمنا هذا الباب إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: فيلم «الطريق إلى كابول» للمخرج ابراهيم الشكيري
اخترنا هذا الفيلم لأنه الفيلم المغربي الوحيد الذي حقق إقبالا جماهيريا ملحوظا طيلة عرضه في القاعات السينمائية لمدة ثلاث سنوات متتالية: 2012 و2013 و2014، وهو الأمر الذي أكدته أرقام شباك التذاكر (البوكس أوفيس)؛ فقد شكل هذا الفيلم حدثا سنيمائيا استثنائيا لم يسبقه إليه أي فيلم مغربي آخر على امتداد تاريخ السينما المغربية. وقد انطلقنا في تحليلنا لهذا الفيلم، على المستوى النصي، تأسيسا على الأسئلة التالية:
ما هي الأسباب التي أدت إلى إقبال الجمهور العريض على مشاهدة «الطريق إلى كابول»؟ وما هي العوامل السوسيوثقافية والاقتصادية التي أدت إلى تربعه على رأس قائمة الأفلام الأكثر مشاهدة رغم ندرة القاعات السينمائية وتناقصها المطّرد واستفحال ظاهرة عزوف الجمهور عن ارتيادها؟
وقد اعتمدت مقاربتنا لتلقي هذا الفيلم الزوايا التالية:
أولا: الرجوع إلى جداول الأرقام التي سجلتها شباك التذاكر، حيث ظهر جليا أن الفيلم
احتل مراتب الصدارة خلال مدة عرضه.
ثانيا: تحليل ملصق الفيلم وشريطه الإعلاني لرصد المتلقي المحتمل الذي وُضع لأجله الفيلم.
ثالثا: تحليل البنية السردية للفيلم (من يحكي، وكيف يحكي، ولمن يحكي)، حتى نتمكن من رصد الأدوات التقنية والفنية والجمالية التي اعتمدها المخرج، ليستميل متلقي معين نستنتج طبيعته في خلاصات التحليل.
رابعا: العمل على ملاءمة المفاهيم المقتبسة من نظريات التلقي في الأدب، مع الفيلم كإبداع يوجهه مخرج الفيلم (المتلقي النموذجي) إلى متلقي ضمني ومفترض.
أما الفصل الثاني من هذا الباب، ففقد خصصناه لدراسة فيلم «جوق العميين» للمخرج محمد مفتكر. ذلك أنه صادف فترة إنجازنا لهذا البحث، كما أنه عُرِض في أغلب صالات الدار البيضاء، وجذَب عددا مهما من رواد السينما المغاربة كما أنه الفيلم المغربي الوحيد الذي حظي بمتابعة إعلامية ونقدية مهمة، وتُوِّج بعدد من الجوائز الوطنية والقارية سنة 2015.
وحتى ندرك سر إقبال المتلقين على هذا الفيلم، والسر الكامن وراء التتويجات المتنوعة التي انتزعها، والاهتمام الإعلامي الذي حظي به، قمنا من جهة بدراسة ميدانية كمية همت الجمهور العريض (المتلقي العام) الذي شاهد الفيلم بالفعل في القاعات، حيث وضعنا استمارة ووزعناها على عدد كبير من المرتادين، محاولة منا معرفة سر الإقبال على هذا الفيلم، وعلى الفيلم الروائي المغربي بصفة عامة، ثم وصف كيفيات تلقي المشاهد المغربي للأفلام في القاعة، فضلا عن الآليات التي تتحكم في التلقي، وتولد الانطباعات المختلفة حول الفيلم، إعجابا أو رفضا أو قبولا.. ورصد آثار الخلفيات الثقافية والمرجعية على عملية التلقي لدى الجمهور العريض.
وفي مستوى ثان، قمنا بدراسة كيفية شملت فئة تتمثل بالأساس في النقاد وأهل الاختصاص الذين واكبوا الفيلم أو كانوا أعضاء في لجان التحكيم التي تَوَّجَت الفيلم في مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة، وأيضا في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة. حيث كان الهدف من الدراسة معرفة مدى تملك الفئة العارفة بالسينما معايير الحكم والتقويم.
وقد اعتمادنا في هذه الدراسة الكمية الكيفية على ثلاثة فرضيات، حيث افترضنا في الأولى أن تتويج الفيلم واهتمام الصحافة والنقد به كانا وراء إقبال المتلقي (الجمهور العريض) على مشاهدته. أما الفرضية الثانية، فبنيناها على سياسة التوزيع، وهل لعبت دورا حاسما في استمالة المتلقي. بينما أقمنا الفرضية الثالثة على أساس أن الفيلم يتوفر على مواصفات فنية وجمالية تجعله قابلا للتتويج في سياقات ثقافية أخرى بغض النظر عن السياق المحلي للتلقي.
تحيلنا الدراسة، سواء منها الكمية (المتعلقة بالجمهور العريض) أو الكيفية (المتعلقة بأهل الاختصاص)، إلى تحديد المعايير التي تجعل الفيلم متوافقا مع انتظارات جمهوره، أي تجيب بشكل أوضح عن التالي: ما هي مواصفات الفيلم الذي يستجيب لأفق توقع المغاربة الذين يرتادون القاعات؟ هل هناك نموذج مشترك وعام للمتلقين، أم أنهم شتات واتجاهات مختلفة؟ ما الذي يتحكم في عادات المشاهدة؟ وهل يعني ذلك أن إقبال فئة على نوع من الأفلام لا يعني لزوما أن تقبل عليه فئة أخرى؟ وبعبارة أخرى، هل نحن أمام متلقي متجانس ومعروف، يستحضره المخرجون أثناء إنتاج أفلامهم، أم أن علمية الإبداع عملية ذاتية حميمية، تنطلق من الذات المبدعة وتسقط على متلقي مبهم؟
أما الفصل الثالث والأخير من هذا الباب، فقد خصصناه لـفيلم «الصوت الخفي» للمخرج كمال كمال الذي يندرج ضمن النوع الموسيقي. وقد اخترنا هذا فيلم لاستكمال تصورنا لإشكالية التلقي في السينما المغربية، ورصد تعددية وتنوع المتلقين من جهة، ثم الكشف عن مستوى آخر من التلقي الضمني المساهم في البناء الفيلمي، منذ الكتابة إلى الإنجاز النهائي، من جهة أخرى.
لم يحظ فيلم «الصوت الخفي» بإقبال جماهيري مهم، وهو الأمر الذي أبانت عنه معطيات المركز السينمائي المغربي، كما أنه لم يحظ باعتراف نقدي أو صحفي، باستثناء تلك المقالات الإخبارية التي تلت تتويج الفيلم بالجائزة الكبرى، فضلا عن جائزة أفضل صوت وجائزة أحسن موسيقى في الدورة 15 من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة؛ أما تتويجه بالجائزة الكبرى في الدورة 17 من مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة، ومشاركته ضمن أفلام المسابقة الرسمية لجائزة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة، فقد مرا في صمت شبه مطبق.
وحتى نقتفي أثر المتلقي الذي خاطبه مُخرج الفيلم، فقد اعتمدنا في دراسة هذا الفيلم، على فرضية أساس تتلخص في كون عملية الإنتاج اللغوي، كيفما كانت طبيعته هو عملية تداولية، تحكمها العلاقات القولية بين القائل (الناظم) وبين المتلقي، والسياق المشترك بما يشمله من تضمينات واقتضاءات.
وهكذا، رصدنا حضور المتلقي ودوره في البناء النصي والخطابي في الفيلم، مركزين على ثلاثة مستويات: البنية المقطعية، البنية الحكائية، والبعد الخطابي.
بالنسبة للبنية المقطعية، فقد عملنا على تتبع المتلقي بالتركيز على الجانب الفيلمي، في تمظهراته السمعية البصرية، وتبنينه السطحي، وما يتحكم في بنائه من علاقات قولية، حيث ركزنا في دراستنا لهذه البنية على المقاطع كأصغر مستوى تحليلي يسمح بالكشف على خصوصية اللغة الفيلمية، ونظرا لكون المكونات السمعية تتجاوز في الغالب مستوى اللقطة. ومن هنا قمنا بتفكيك الفيلم إلى مقاطع أعدنا بناءها لنصل إلى الفيلم كبنية مقطعية، بالتركيز على أربعة مكونات: التقطيع، التأطير، الالتحام أو الربط، والعلاقات القولية.
أما بخصوص البنية الحكائية، فقد قمنا بتقسيم الحكاية الفيلمية إلى محطاتها الحكائية البارزة، وهي: حكاية أساس (المغامرة) وحكايتين مجاورتين (محطة الحكي)، و(حكاية الأوبرا)، وفككنا كل عناصرها، ثم أعدنا بناء الحكاية الفيلمية الكلية من خلال تفاعل بنياتها الحدثية والزمنية والفضائية والشخوصية.
وفي المستوى الثالث، انتقلنا إلى فحص البعد الخطابي، والتركيز بالأساس على تجليات متلقي الخطاب، من خلال مجموعة من المكونات الخطابية: قضية الفيلم، موقف ناظم الفيلم (المخرج) من القضية، الاستراتيجيات الحجاجية والتأثيرية.
وهكذا، وبعد عرضنا وتحليلنا وتتتبعنا لتحققات التلقي الفيلمي المغربي في الأفلام المدروسة الثلاثة («الطريق إلى كابول»- «جوق العميين»- «الصوت الخفي»)، استطعنا الوقوف عند تركيب عام لظاهرة التلقي، إذ أمكننا القول إن الأفلام الثلاثة المدروسة تستجيب إلى ثلاثة أصناف من الأفلام، تماثل نوعية المتلقي التي تستهدفه:
أولا. الأفلام الموجهة إلى الجمهور العريض، أي تلك التي تجعل من أهدافها الكبرى غزو السوق السينمائية وتحقيق إيرادات كبيرة. وتشتغل هذه الأفلام على إرضاء انتظارات الجمهور، عبر تحقيق الترفيه والتسلية، بالاعتماد على حكاية مستمدة من الحياة اليومية المباشرة لمتلقيها. وتتناص هذه الأفلام، في الغالب، مع المتخيل التلفزيوني المغربي الذي يحكم البناء الدرامي للفيلم.
ثانيا: الأفلام الموجهة إلى النخبة، أو إلى جمهور خاص عاشق للسينما ولتجارب إبداعية مخالفة، ولا تهتم بعائدات شباك التذاكر أو إرضاء الجمهور العريض. وهذا النوع يتجاوز المستوى الحكائي البسيط الهادف إلى الإثارة الانفعالية أو اللعب على السجل العاطفي، كما يشتغل على تجريب الأدوات السردية والإبداعية والبحث عن خلق سينما جديدة تتجاوز الجمهور العريض والتجارب المحلية، وتخاطب جمهور المهرجانات. ويمكن تسمية هذا النوع بالسينما التجريبية أو سينما المؤلف، ويمثلها بامتياز فيلم « الصوت الخفي»، وبعض الأفلام التجريبية كأفلام حكيم بلعباس وهشام العسري وفوزي بن السعيدي…
ثالثا: الأفلام التي تجنح إلى التوفيق بين النوعين السابقين. إذ تسعى إلى مخاطبة الجمهور العريض، وتعمل في نفس الوقت على الارتقاء بالكتابة والإبداع الفيلميين والارتقاء بالمتلقي إلى قضايا لا تماثل بالضرورة حياته اليومية. من أجل هذا يجد هذا الصنف نفسه بين الضرورات السردية والحكائية التي ترضي انتظارات الجمهور العريض من حكاية، وحبكة درامية، وشخوص مألوفة، وتسلسل حدثي منطقي، إلى غير ذلك من المكونات الحكائية والسردية المسكوكة؛ وبين الاشتغال على تيمات أو قضايا أو عوالم ذاتية أو تجارب شخصية خالصة. نمثل هذا النوع بفيلم «جوق العميين» وبالأفلام المرتبطة بالطابوهات الجنسية أو السياسية كأفلام سنوات الرصاص أو الأفلام المثيرة لقضايا جنسية أو النزوح اليهودي إلى إسرائيل.
من هنا، نستنتج أن كل صنف يكتسي أهمية بالغة داخل منظومة نسقية، تتعامل مع الإنتاج السينمائي والإبداع الفيلمي المغربي من منظور تنموي يحافظ على الوتيرة الصناعية الإنتاجية، والارتقاء بمستوى العاملين والمبدعين في المجال، ويمنح العناصر الضرورية لبناء سياسة ثقافية عمومية.
ونزعم أن الدراسة التحليلية للتلقي الفيلمي، التي قمنا بها، ساهمت في تطوير نظرية التلقي، وإغناء القدرات التحليلية للجهاز المفاهيمي المستورد، كما ساهمت بالتالي في تطوير كفايات نظريات التلقي.
إن غاية هذه المقاربة هي أن تساهم في إثارة الانتباه إلى نظريات التلقي العامة المجردة من جهة، وإلى قدرة هذه النظريات على تحليل وتأويل المعطى السينمائي والفيلمي كمسوغ لتبني المفاهيم الواردة من حقول غير السينما من جهة، وإلى إبراز قدرة هذه النظريات على تحليل وتأويل المعطى السينمائي والفيلمي، من جهة ثانية.
إلى جانب هذا البعد العملي، نقف على التفاعل بين نظرية التلقي وبين الإبداع الفيلمي، حيث يتبين – بعد ترك نتائج الدراسات المنبثقة من الدراسات الأدبية والحقول المجاورة جانبا، والتركيز بالدرجة الأولى على اللغة الفيلمية وباقي المكونات ومراحل الإنتاج السينمائي، ورصد حضور المتلقي بمختلف تجلياته، وتأثيره في البناء الفيلمي وقراءته وتأويله – أن الإبداع الفيلمي يشكل إضافة جديدة لنظرية التلقي، وتعميقا وتوسيعا للمفهوم ليشمل مجالات وميادين أوسع وأرحب وأكثر تعقيدا من جهة.. وأن نظرية التلقي تقدم أدوات جديدة كفيلة بتطوير الإبداع الفيلمي والإنتاج السينمائي. ومن هذا التفاعل بين النظرية والإبداع، والجدلية القائمة بين الدارسين والمبدعين المغاربة، تنفتح آفاق جديدة واسعة أمام تطور الآليات الإنتاجية والإبداعية، كما تقوي المواكبة النظرية والتحليلية لهذا المسار التصاعدي، وتجعلنا أكثر قدرة على فهم آليات التلقي عند الجمهور المغربي وأقرب إلى بناء متلقي أكثر نضجا، وسينما أكثر فعالية وتنافسية.
لقد كان همنا أيضا في هذا البحث، أن ننحت اصطلاحية سينمائية خالصة لهذا الفن التعبيري المركب، أي اصطلاحية تعتمد تركيب وترجمة اللغة السينمائية، وما تتضمنه من شفرات تقنية وفنية، لنساهم في النهاية في بناء لغة واصفة لها كفاية وصفية تفكيكية وأخرى تحليلية بنائية، ثم لننتهي إلى بناء جهاز كفيل بتأكيد اختيارانا وتدعيم نتائجنا وتأويلاتنا.
وبطبيعة الحال، لقد اعترضتنا، أثناء بحثنا هذا، مجموعة من الصعوبات نجملها في ما يلي:
– صعوبة ترجمة بعض المفاهيم والمصطلحات القادمة من الأدب، وإيجاد مقابلات لها في الحقل السينمائي.
– ندرة المصادر والمراجع المتعلقة بالتلقي الفيلمي.
– غياب شبه تام للدراسات التي تعنى بالمتلقي المغربي.
وهكذا نكون قد حاولنا تقديم مساهمة متواضعة في إثارة قضية من أهم القضايا النظرية والتحليلية والمنهجية في السينما، كخطوة من أجل تعميق النظرية السينمائية، وتطوير الصناعة والممارسة الإبداعية بالمغرب، ونتمنى أن نكون قد وفقنا في هذا المسعى.