سيرة ذاتية/ جمعية
3 ـــ 2: تصنيف الأجناس الأدبية» الصغرى» داخل السيرة.
والحالة هذه، فإذا كان متيسرا أن نضع كلا من القصائد والرسائل والوثائق جانبا، فإنه من الصعب وغير اليسير أن نفصل فصلا تاما وواضحا بين القصة والتقرير والشهادة، ذلك لأنها وقبل كل شيء، تتناول الموضوع نفسه والأحداث نفسها، ولا يخلو أي مقطع منها من اللمسة الشاعرية والتعليق الطريف والأسلوب السهل الشفيف الذي اعتاده الكاتب في كل نصوصه السير ذاتية، فكتابته مضاعفة ومكثفة رغم يسرها الظاهر وسلاسة عبارتها ووضوح فكرتها، إذ تجمع دائما وفي المقطع نفسه بين السياسة والأدب، فتعبر عن الفكرة السياسية بالأسلوب الأدبي، وإذا كنت أقترح فصلا بين هذه الأنواع، فقد اعتمدت لذلك معايير فارقة، إذ صنفت في باب القصة ما غلب عليه الطابع الفني، والوصف والتصوير البليغ، وصنفت في باب التقرير الإخباري ما غلب عليه طابع الموضوعية والمباشرة ووفرة المعلومة، إذ من ميزات هذا الكتاب التي لن يتجادل حولها فردان، كون كاتبه إلى جانب تعدد الأجناس الإبداعية التي وظفها في سرده، جعله جسرا لتقاسم ما استطاع إليه سبيلا من المعلومات عن المجموعة 36أو 42 ومحنتها ونضاليتها في فترة من أحرج وأضيق الفترات وأحلكها.
ثم صنفت في باب الشهادة، رأي الكاتب في أشخاص بعينهم ممن شاركوه التجربة وقاسموه المحنة، أو في من كان لهم فضل وأثر كبير عليه، أو في من أساؤوا إلى أنفسهم وإليه وإلى رفاقه، من قضاة وحرس أو عسس أو جلادين، وقد استثنيت منها تلك المقاطع التي يأتي فيها ذكر أشخاص ما عرضا، ولا يكونون مقصودين لذاتهم بالشهادة.
إن الشهادة شيء عظيم، إنها موقف يؤرخ لعلاقتنا بالناس ويخلدها، إن الشهادة تعبير عن البصمة التي تركها الآخرون في أنفسنا، وهي أيضا بصمتنا التي تشهد على وفائنا للرفقة وللتجربة واحتفاظنا بطِيب الذكرى وطَيِّب الأثر في النفس والعقل والوجدان.
ورغم أن كتاب أفول الليل يعتبر هو نفسه وثيقة/شاهدة على مرحلة وعلى تجربة، فإنه لا يخلو من وثائق مكتوبة صادرة عن بعض أطراف هذه التجربة، إن من جهة المجموعة أو من جهة القضاء. وقد صنفتها على حدة. كما فعلت مع الوحدات السابقة فربما يتاح لكل وحدة من يدرسها بشكل مستقل، وسيجد ولا شك ما يفي بالغرض. فعملي هذا الأولي يقتصر على التفكيك/ والقراءة، وقد تتاح لي الفرصة أنا نفسي لأعود لهذا المؤَلَّف، أو على الأقل لواحدة من مفرداته أًوَفِّيها حقها، والحق يقال، إن كل وحدة من الوحدات الست كتاب مستقل، أو فصل من كتاب كبير وحياة حافلة بالمرارة وطافحة بالجد والمسؤولية والحب.
أما الرسائل والقصائد، فلم أحتج معها جهدا يذكر، فالقصائد تعرف عن نفسها بلغتها الشعرية الخاصة، والرسائل أفرد لها الكاتب حيزا خاصا ومستقلا من الكتاب.
قد يتفق وقد يختلف معي كثيرون حول عدد هذه الوحدات/ الأجناس التي تشكل السيرة في أفول الليل، أهي ستة كما أقترح أم أربعة كما قد يرون، وقد يتفق معي كثيرون أو يخالفونني الرأي، حول هذا المقطع أو ذاك، أو حتى حول عدد من المقاطع، أهي قصص حقا أم شهادات، أم تقارير زاخرة بالمعلومات والأخبار والمعطيات عن فترة السجن وما قبلها وما بعدها وعن قتالية أفراد المجموعة 36 وصمودهم وعن صدق ووفاء غيرهم، من المجموعات الأخرى، أو من أهل الكاتب وذويه، ولكن الذي سنتفق عليه جميعا بلا جدال، والذي لن نختلف حوله قطعا، هو أن أفول الليل سيرة ذاتية متعددة الأجناس والأساليب، فيها الكثير من الأدب، وفيها الكثير من السياسة والثقافة والفكر، وفيها أكثر من ذلك، الكثير من الوفاء للماضي وللمستقبل، وفيها الكثير من الإنسانية التي ولا شك صارت تنقص الكثير من الناس، بل وتنعدم عند الكثيرين ممن اغتنوا من وراء مزاعم النضال.
أ ــ 1 القصة: أفول الليل ليس كتاب قصة مخصوص، ولكنه يرتقي في وصفه للوقائع السوداء وللحقيقة المرة إلى مستوى القصة، فيتغلب فيه الواقع على التخييل القصصي، والحقيقة على الأوهام التي قد ينشئها المبدعون حول واقعهم، إنه واقع خالص صرف، من النبع، ومهما كان وحشيا وقاسيا، فدور الفن هو أن يجعل القبيح والبشع غاية في الجمال، لا لكي يبرره، ولكن ليجعل معرفته محتملة ومستساغة، كالدواء المر الذي لا بد له من سكر لكي يستساغ، وللكاتب خلطته العجيبة لكي يجعل بشاعة الواقع مقروءة وملموسة ومفهومة، للكاتب قبسة من سخرية سوداء، كلما اعترضته عقبة أو طفح به الكيل، سخرية من ظروف الاعتقال، سخرية من المحققين القساة الجهلة، والقضاة، سخرية من الأكل المخلوط بالحشرات، سخرية من الاستحمام الساخن/ البارد، وعين الرقيب. ومن الوشاة ومن العتاة ومن الطغاة، سخرية من قلع السن وحلق الذقن. وأيضا للكتاب خلطته العجيبة من الحنين والأنين والشوق إلى حضن القرية والأم وليالي الصيف وأيام الجذب والقحط والفاقة والحاجة، لقد عاش الفقر، ولكنه عاش السعادة الفطرية معه، رغم قسوة الطبيعة وقلة ذات اليد.
هي أكثر من سبعين قصة، تعطي لصاحبها ولا شك الحق في أن يتبوأ مكانته المعتبرة بين القصاصين، كما تعطيه قصب السبق في هذا الباب الذي طرقه، فلم يسكب أحد، في حدود علمي، همه ومعاناته مع الاعتقال في قالب قصصي قبله، ولم يسبقه أحد إلى الكتابة عن تجربة السجن قصصا. ولو شاء الكاتب لجعل منها على الأقل ثلاث مجموعات، أو سلسلة من روائع القصص في أدب السجون، ولكن هدفه لم يكن أن يصنع لنفسه مكانة اعتبارية على رأس لائحة الأدباء، ولو كان شاء ذلك لحصل، فهو قصاص من طراز الرواد، بأسلوبهم ذاك السهل الممتع والممتنع.لقد كان هدف الكاتب في البدء سياسيا، ولكن السياسة لا يمكنها إلا أن تخضع لسلطة الأدب خاصة إذا كان من يمارسها مثقفا مسكونا بأحلام الفجر،مفتونا بسحر اللغة وعشق الحياة . إن الأدب يخلد السياسة ويبقيها حية على الدوام في الوجدان، والسياسيون الصادقون ليست تخلو عندهم السياسة من الأدب. بل إن الزمن السياسي أحيانا ينقضي وتطوى صفحته ولا يبقى له من أثر إلا في الأدب.
ب: التقرير الإخباري
عندما قلنا بالتقرير الإخباري، فقد قصدنا بذلك تلك الذكريات التي عمل الكاتب على استرجاع أحداثها ووقائعها بكل أمانة وموضوعية وبقدر كبير من الحرص على التفاصيل والجزئيات، لأنه يعلم بأن ما ينقله هو شهادة للتاريخ والمستقبل كما أنه شهادة على ماض وعلى تاريخ مشترك جمعه بثلة من الشباب المناضل على مبدأ واحد وهدف واحد، كان الوعي حادا والانخراط في النضال واجبا وكذلك كان القمع عنيفا وشرسا، والكاتب يسعى في هذه المقاطع/ المذكرات إلى أن يبعث إلى المستقبل برسالته الواضحة، تلك كانت حياتي تقول المذكرات، وأولئك كانوا رفاقي ولا يزالون، وهذه كانت مساهمتنا في تلك السنوات التي كانت لها مخالب حادة كأنها من نحاس ورصاص، هذا ما عشناه وهذا ما صنعناه، لقد قبضنا على الجمر الحارق، وأشعلنا الأمل، تلك كانت أحلامنا وتلك كانت أفكارنا التي اعتقلنا من أجلها، ولم نبح بها لأحد، لقد أخفيناها تحت جلدنا ونحن معلقون بالطيارة، وأخفيناها تحت رموشنا حين كانت العصابة فوق أعيننا، وأخفيناها في أسفل حناجرنا حين كانت أفواهنا مليئة بماء القذارة، والآن ها هي كلها صافية رقراقة، يكاد يقول الكاتب، فالآن أبصم عليها بالعشرة، الآن أبصم بالعشرة على أنها الحقيقة كل الحقيقة.
ثلاثة وثلاثون مقطعا ينقص قليلا أو يزيد قليلا، يتقاسم فيها الكاتب مع قرائه وبسخاء لا يضاهى، كل ما يجب أن يعرفه القارئ ويصل إلى علمه من أخبار ذلك الوقت، ومن أخبار رجاله ونسائه، ومن أخبار وقائعه وأحداثه.
ماذا حصل؟
ثلاثة وثلاثون مقطعا لكي نعرف ما حصل. كيف كان النضال ولماذا، وكيف كان الاعتقال وأين، وماذا كان قبل النضال، وماذا حصل بعد الاعتقال؟ كل ذلك بموضوعية وأمانة، كما تقتضي كل شهادة تاريخية ذلك، لكي تصير وثيقة.
ج: القصيدة
الطاهر المحفوظي بارع إذا نثر الكلمات، وشاعر إذا تدفقت عيون وجدانه بماء العشق الأصيل، ومجالد في الساحة بالموقف والكلمة، بارع في التقديم وبارع في العرض، بارع في الوصف والتصوير وبارع في التحكم في مفاصل نصوصه وضبط إيقاعها، وبارع في تبليغ الفكرة بأيسر العبارات وأبسطها، وبارع في اختيار الجملة السلسة والكلمة المؤثرة، بارع في الاختزال وفي اقتصاد اللغة، يعني ما يقول، ويقول ما يعرف، بدون حشو ولا لغو ولا استطرادات مجانية. لا أقول هذا من أجل ختم موضوعي ولكنني أقوله وأنا بصدد التعريف بقصائد السيرة، هي قليلة في المتن ولكنها تنم عن أن صاحبها له شأن مع أوجاع الشعر ولفحات ناره، فقصائده بلغة الذوق ذات وقع وأثر في النفس، قريبة من أنفاس السياب حين يحكي أحزانه وآلامه وأوجاعه،أو يشكو وجع القصيد، واستعصاء البوح، قريبة من روح الشعر الثوري العالمي،حين يشد على الأيادي ويعض على الصخر، تحضر فيها عواصم ورايات، يحضر فيها اليومي البسيط، يحضر فيها الفقر والفخر والكبرياء، تحضر فيها القضبان والسجون والليل والفجر، يحضر يوسف الصديق، ويحضر الرفيق، يحضر السجان والزنزانة والمزلاج، يحضر الأحرار التواقون إلى الحرية، تحضر الجباه العالية التي لا تنحني إلا لقامة الشهداء.
هو بكل معنى الكلمة وثقلها: قصاص وشاعر وموثق وشاهد على مرحلة بكل صدق وأمانة وعشق.
د: الوثيقة.
«أفول الليل» كتاب زاخر بالمعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية لفترة حاسمة من تاريخ المغرب، وصاحبه يتقاسم المعلومة بسخاء منقطع النظير مع قرائه في زمن تعتبر فيه المعلومة أعز ما يطلب رغم وفرتها، بسبب سوء النية أو التزوير والتزييف أو التعتيم المغرض، خاصة بالنسبة للدارس والباحث في قضايا الحركات الاجتماعية الكبرى والصغرى على حد سواء، ورغم أن الكتاب بذاته وثيقة تضيء جانبا هاما من تلك الفترة وتعرف بمناضلي اليسار الجديد ومعتقليه إذاك، كما تعرف بآليات التحقيق والاستنطاق والمحاكمات والنظام السجني وقواعده الداخلية وأهم الفاعلين النقابيين والسياسيين وقتها، علاوة على جزء هام من الحياة في البادية بين الخمسينات والستينات وفي المدينة أواسط الستينات ومطلع السبعينات، وعلاوة كذلك على طبيعة العلاقات الاجتماعية والقيم الأخلاقية التي شدت حينها أطراف العباد والبلاد، فإن الكاتب يأبى إلا أن يؤيد الكتاب ويسنده بالوثائق الرسمية التي تثبت حقيقة ما كان، منها بلاغ التنظيم السياسي الذي كان ينتسب إليه عن اعتقال المجموعة، ومنها محضر الحكم،ومنها لائحة برفاقه في المحنة والألم، ورفاقه في التنظيم النقابي التلاميذي، وعلى رأسهم رفاقه في فرع البيضاء. ولعله فضل تغليب شهادته الشخصية ومعايشته للأحداث على الوثائق المكتوبة لذلك اقتصر على ما يفيد التعريف بالمجموعة، تاركا لقلبه ولسانه أن يحكيا للسامع ولقلمه أن يكتب للقارئ وقائع ما جرى تلك الأيام. ولعل هذه أيضا حسنة من حسنات هذا الكتاب الذي تعتبر شهادة صاحبه الوثيقة التاريخية والأدبية الأهم.
ه: الرسالة «رسائل اغبيلة»
تحت هذا العنوان جمع الكاتب ما أفلت من الضياع ونجا من التلف، من تلك الرسائل التي كان يبعثها من معتقله إلى الأهل والصحب والرفاق. أما ما كان يأتيه من خارج أسوار السجن فلم يقيض له البقاء ولا النجاة من أيد الحرس ورقابة العسس، وفي الحقيقة فليس يهمنا كثيرا ما كان يرد عليه بقدر ما يهمنا ما كانت تخط يداه وهو يتوجه بالكلام إلى من هم خارج أسوارالسجن، ما هي الاهتمامات التي كان يتقاسمها معهم، وما هي الهموم التي كان يشركهم فيها؟ خاصة وقد جرت العادة أن تكون الكتابة من داخل السجن مليئة بالشكوى والتذمر، طافحة بالمرارة والأسى، وإلا ، فهي في أحسن الحالات مضمخة بعطر الحنين والشوق إلى تلك الفضاءات التي صار بينها وبين المعتقل سور، وأولئك الأحبة الذين أصبح بينه وبينهم مسافات ومشاق أسفار، وحتى في قربهم، فبينه وبينهم مزار وأربعة أعين تراقب الزوار.
قد يحصل هذا لو لم يكن المعتقل هو الكاتب، وقد يحصل أيضا حتى لكاتب ما، ذلك، لولا أنه يحمل اسما هو له وحده، إن اسمه « الطاهر المحفوظي»
لن نجد أثرا لكل ما قرأناه في قصص هذه السيرة من أفول الليل عن معاناة السجن وظروفه، ولا عن الطيارة ولا عن الأغطية العفنة المتهرئة ولا عن الحشرات والأكل ولا عن الفسحة الشحيحة، ولا عن الزنزانة الانفرادية ولا عن التفتيش وتقليب المضاجع والمواجع. بل سنجد عكس ذلك، روح جديدة تماما، وقلبا ينبض بالحياة وبالحنان وبالعاطفة المتدفقة، سنجد روح الطفل، وتعاليم الحكماء والمعلمين وبعضا من تأملات الفلاسفة والمربين، إن الكاتب مستمر في نضاله داخل الجدران الأربعة لزنزانته، إنه مستمر في نضاله داخل الأسوار المربعة لسجنه، يسأل عن اليومي في جزئياته الصغيرة، يسأل عن دراسة أطفال العائلة واهتماماتهم، يحفز الأصدقاء والأهل ويرفع معنوياتهم، يشرح ويفسر سبب الاعتقال، يتحدث عن الحب والصداقة وعن العلم والتعلم، يسخو ببعض تأملاته عن السعادة والشقاء والتفاؤل والتشاؤم على مخاطبيه، ويسخو أيضا ببعض القصائد ذات النفس الثوري في مديح النصر المرتقب والفجر الآتي. وإن شئنا اختصار اهتمامات السجين، فهي اهتمامات سياسية وثقافية وتربوية وإنسانية تقدمية تماما وثورية تماما، فيها اهتمام بالطفل واهتمام بالمستقبل واهتمام بالعلم واهتمام بالكتاب ثم الكتاب إلى جانب اهتمامه الطبيعي بالعائلة والرفاق.
هي إذن رسائل على قصرها وقلتها دالة على شخصية الكاتب، معبرة عن قدرته العجيبة على السير في أثر الخطى نفسها التي كانت خطاه خارج الأسوار، ولكن هذه المرة بأسلوب مختلف، وذلك الاختلاف هو ما نلاحظه بين ما استرجعه من ذكريات لنفسه وللناس جميعا، وما سطره من رسائل مخصوصة لفئة من الناس كانت له بها صلة الرفقة أو القرابة.
و:الشهادة
ومن أروع ما كتب الأستاذ الطاهر المحفوظي، هذه المقاطع بالذات التي هي فيض من الأحاسيس والمشاعر الراقية النبيلة، وإذا كان في المتن نصوص ما تمثل الشخصية الحقيقية للمؤلف، فهي بالضبط هذه النصوص التي يبلغ فيها صدقه منتهاه، ووفاؤه كماله وتمامه، شهادات متنوعة في حق الأهل والرفاق والأصدقاء أو الأساتذة الذين صاروا أصدقاء، شهادات أيضا تظهر فيها جلية صلابة الموقف وقوة التمسك بالمبدأ،ونقاء الذمة وصفاء السريرة. شهادات يحفرها المؤلف وضاءة على جبين التاريخ بمداد من نور:عن الطفل الكبير من آل الوديع الأسفي المثابر الجلد، عن عائشة مفتوح وإنسانيتها التي بلا حدود، عن الخدمات الجليلة التي قدمها عبد الحميد الحجامي لعائلات المعتقلين، عن محمد تريدا المنفتح على الثقافات القديمة والحديثة، المتعفف، الصريح، ثم عن محمد تريدا الشهم الصامد الكتوم المعتز بالانتماء لأفراح الوطن وأعراسه، ثم عن محمد تريدا الذي لا يني ينوه بذكره وباسمه وبالأثر الكبير الذي خلفه وجوده كما خلفته موته، شهادة عن الوالد المعلم الفلاح قوام الليل، السالك المتعبد، العامل للدارين على مدار العام. عن الأخ الذي لم يجرؤ أبدا على البوح له في حياته بأنه الأغلى والأعز، وأنه المربي وأنه المعلم وأنه الخل والخليل. شهادة عن الأستاذ كي مارتيني الذي ظل سخيا بالمعرفة سخيا بالمال سخيا بالوقت ووفيا بالعهد. وشهادة في حق الأم، لو سمعتها الأم هناك حيث ترقد فوق تلك الربوة من سقط الرأس لفاضت أعينها بدموع الفرح الجديد ولأزهر ربيع جديد فوق الربوة، ولعلها قد سمعتها حقا لأنها شهادة روحية بامتياز، شهادة كتبها الأستاذ الطاهر بدم القلب لا بحبر القلم.
هي نصوص من أصدق ما قرأت في باب الوفاء و الاعتراف بالجميل، وفي باب التنويه بأعمال الصالحين الذين تركوا أثرا حسنا في النفس يخلد ذكرهم ويؤجرون عليه.
وكما أن للكاتب رقته الجميلة التي لا يضاهي عباراتها عطر ورد ولا أريج ياسمين، فله أيضا صرامته وحدته وشدته وسخريته السوداء الحادة كالسكين. وقسوته ضد ظلمته وجلاديه، يعريهم، يكشف سوءتهم وسيئاتهم، يكشف ضعفهم وسخفهم ويسطر وصيته في شكل إدانة صريحة لا تقبل التأويل أو سوء الفهم: حين يغفر لكم الشهداء سأغفر وأعفو وأصالح وأصافح.
4 ــ ليل الصمت وشمس الكتابة:
أــــ أفول الليل.
حين تشرق شمس الكتابه، فإن ذلك يعني أن ليل الصمت قد ولَّى وأفل.
لقد خرجت لتوي من بين ثنيات الليل، وأنا أنهي قراءة كتاب الأفول، حاولت أن أضعه في سياقه التاريخي، وأن أُوَصِّف محتواه، وأن أجعل من تعدد أجناسه محورا للتحليل، وليس على بالي سوى أمر واحد، أن أواصل سفري معه في محور جديد يتخذ كعنوان له:
أفول الليل وتعدد أزمنة الحكي .
وإلى ذلك الحين:
فتلك مائة وستة وثلاثون مقطعا في ستة مكونات تضيء واحدةً من عتمات الماضي وتدفع الليل دفعا إلى أن ينجلي، تدفع الليل دفعا نحو الأفول.
مائة وستة وثلاثون مقطعا في ستة مكونات تهيئ السماء لزرقة جديدة تطلع منها شمس الكتابة التي تضيء ليل الإنسان.
فالكتابة العارية والواضحة والجارحة، وحدها تقول الحقيقة.
ب ـــ شمس الكتابة.
لقد تساءلت باستمرار وعلى طول هذا المتن السير/ذاتي، هل توقف الكاتب بعد أفول الليل عن الكتابة أم واصل سفره في تضاريسها الوعرة كما واصله في تضاريس الزمن الصعب للنضال؟ واعتبرت كلما أنهيت فصلا من الكتاب بأن توقفه « إذا كان قد حصل» فهو خسارة مضاعفة. خسارة أولا لنوع متميز من الأدب الملتزم الحامل لقيم الحرية والتقدم بامتياز، وهذا الأدب هو اليوم ضرورة اجتماعية وثقافية أكثر من أي وقت مضى. وهو خسارة ثانيا للأدب وللثقافة في كاتب متمكن من لغته وغرضه وأسلوبه، متعدد متفرد ومنفتح على التنوع وقادر على إثراء وإغناء الثقافة والأدب بألوان مختلفة ومغايرة، بل ومغامرة من الكتابة.