زمن ابن رشد والزمن العربي
الدكتور عزيز الحدادي
نادرا ما تصاب الروح بنشوة اللقاء بالوجود المدهش والمبتهج، لكن حين يكون الخطر الأكبر هو قدر الأقدار يستيقظ سؤال الوجود والعدم في الفكر ليحرك الروح نحو الابتهاج بعيدا عن الأسئلة، هكذا يتم استحضار كل الفلاسفة الذين ينامون على حضن الزمن الحلو، ويكبر الشوق إلى مناداتهم من خلال نداء الحقيقة، فإلى أي مدى يمكن للفلسفة أن تتحول إلى حياة؟ وهل تستطيع الحياة أن تلبس لباس الفلاسفة ؟ وهل تدرك الفلسفة أنها بقدر ما أدخلت البهجة والفرح إلى قلوب الفلاسفة بقدر ما كانت السبب في مأساتهم؟ وماذا يمكن لكتاب الفلاسفة أن يقدمه عن امتزاج الفرح بالمأساة ؟ وكيف يستطيع أن يختار إقامته بين التراجيديا والكوميديا؟ وهل بإمكاننا أن نقدم فلسفة لا ماضي لها ؟ لا أريد سوى الاقتراب من فيلسوف المستقبل الذي يتوفر على ملكة النسيان، لأن روحه تنعم بنشوة الحلم والثمالة ولذلك يستطيع أن يشعل نار الأسئلة التي ستتمكن من حرق المحصول الرديء للعقل الأسطوري الذي اعتقل الروح في لحظة جامدة في الزمان، مما حرمها من الاستماع لأنشودة الوجود، هكذا سيهاجمها العدم إلى أن تخترقها العدمية.
وما من أمة سقطت في جحيم العدمية، إلا وكان العقل الأسطوري مرشدها، ذلك أن هذا العقل لا يتحرك بحرية إلا في العدمية، ومن ثم أصبح العدم هو غايته ونشر العدمية هدفه، لكن غالبا ما يصاب بصدمة حين تواجهه أسئلة الفلسفة، إذ تجده يتلعثم كالأطفال، لأن كلماته خرساء تفتقد لجدلية العقل والتاريخ: «فنحن لا نخدع إلا أنفسنا – طالما تركنا العقل الأسطوري يسيطر علينا – إذ سنقوم بصناعة أعظم الأشياء فراغا من المعنى».
فثمة لقب يطلق على الإنسان الذي حقق ذاته في الوعي التاريخي، ولعل هذا اللقب هو العقلاني، لأنه بواسطة العقل يحصل على الفكر الذي سيمكنه من تمزيق الحجاب على وجه الحقيقة المشرق، وسيصاب بالدهشة حين يجد أن الحقيقة ليست شيئا آخر غير حضور الوجود في الزمان .
فحضور الحاضر هو المعنى الذي منحته الفلسفة اليونانية للوجود، وقد تأثر الفلاسفة العرب بهذه الحقيقة، ولذلك نجد ابن رشد يتناول وجودية الوجود انطلاقا من الميتافيزيقا كما تركها أرسطو ، وقد استطاع أن يواجه غموضها بوضوحه، وعنف أسئلتها بنعومة تفسيره، بيد أن شراسة الزمان دمرته وبدأ يشكو من اليأس والشيخوخة إذ يقول: «وقد اللغة « ثم يغير لغته في مقالة اللام قائلا: «وقد كنت في شبابي أؤمل أن يتم لي هذا الفحص وأما في شيخوختي هذه، فقد يئست من ذلك، إذ أعاقتني العوائق عن ذلك، ولكن لعل هذا يكون منبها لفحص من يفحص بعد هذه الأشياء «. فبأي معنى يمكن أن نفهم هذا الانتقال من التعب الطويل إلى اليأس المطلق ؟ ألا تكون الميتافيزيقا قد أرغمت الفيلسوف على الرحيل باكرا قبل أن توجه إليه تهمة الزندقة؟ ألم يكن ابن رشد في شبابه متحمسا وفي شيخوخته يائسا ؟ وما قيمة هذه الحياة التي بدأت وانتهت في الميتافيزيقا؟
لم يكن الفيلسوف يبحث عن سعادته خارج دائرة الميتافيزيقا، لأن باعتبارها علما للموجود بما هو موجود ، بل لأنها شغف بالحياة الفاضلة، ولذلك فإن هذا العشق المأساوي يحمل في ماهيته نشوة الوجود التي تسمح للفيلسوف بالانتقال من مرتبة المعرفة إلى مقام الكشوفات الروحية، هكذا يتعاظم الشوق، وتكبر معه مشاكل الفيلسوف، وبخاصة وأنه يواجه آراء أهل المدينة الجاهلة بآراء أهل المدينة الفاضلة، إذ يعلن بصوت مرتفع: « وبلوغ السعادة إنما يكون بزوال الشرور عن المدن وعن الأمم « وعوض أن يصبح الجهل شرا أصبحت الحكمة هي الشر انطلاقا من معيار تهافت الفلاسفة، هكذا تم الإعلان عن الحرب ضد الفلاسفة، وبخاصة المشائيين أتباع أرسطو.
ليس هناك فيلسوف واحد لم يكن ضحية عشقه لكتاب الميتافيزيقا لأرسطو، إلى درجة أن هيجل يعلن بصوت مرتفع أنه لو كانت الفلسفة تسعى أن تصبح جادة لاختصرت تاريخها في أرسطو، لأنه وحده استطاع أن يوجه العقل الإنساني من الظلام إلى الأنوار، ولذلك كان مرعبا لتلك الأمم التي تعودت على الإقامة الأبدية في الليل الروحاني، وهذه الأمة التي اضطهدت الحكمة ووقفت عند كتاب «تهافت الفلاسفة» وقدسته، ولعل تفسير الحكمة بوصفها زندقة ممكنة عند العقل الأسطوري الذي أبدع أمة منحطة تعيش على إيقاع نسيان الوجود والفكر، لكون ضجيج العواطف أضحى شرسا، وتحولت عين الروح نحو الابتهالات والأبخرة المقدسة . مما حكم عليها بتكرار نفسها في ثقافة بدائية تصارع العلم والموضة باسم التطرف الديني ، ولم يعد الفكر شيئا آخر سوى تكرار ذاته في الحقيقة الموروثة، بل إن السؤال المتعلق بإشكالية الفكر والوجود تم اختصاره في إشكالية التوفيق بين الحكمة والشريعة، ولذلك تم اعتقال العقل في سجن التأويل الشرعي للحلال والحرام، هكذا والشاهد على ذلك أن الدفاع عن وجوب الحكمة بالشرع، قد جعلت ابن رشد ينتحل صفة المحامي، من أجل دحض تهمة الزندقة والتكفير، كما روج لهما الغزالي، الذي كان سفسطائيا مضللا للعامة بآرائه السفسطائية، التي كانت تهدف إلى نسف الفلاسفة، من أجل هدم بيت الحكمة، يقول ابن رشد: «فقد يجب علينا أن ألقينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم».
وبما أن الغزالي قد عجز عن الخروج من المنظور العدمي للفلسفة العربية فإن نقده لم يفض إلى شيء آخر سوى نشر الكراهية للفلسفة والعلم ، وبخاصة عند العامة والخطباء، هكذا تحطمت إرادة المعرفة وتحولت إلى بخس لقيمةالحياة والوجود، ومنحها أبعادا عدمية». ولذلك لم يستطع الفكر العربي بعده أن يميط اللثام عن هذه النزعة العدمية، بل تحول هو نفسه إلى فكر عدمي لا يرى ذاته سوى في اجترار التراث، وتقديسه لميثولوجيا الخلافة مع غياب مطلق للوعي التاريخي.
ولعل هذا العود الأبدي للتراث قد حطم كل الجسور المؤدية إلى فلسفة المستقبل، بمعنى الهدم المطلق لكل أمل يقود إلى بناء النهضة العقلانية والثورات العلمية، ما دام أن التراكم التاريخي ظل ثابتا في لحظة مقدسة للزمان، تحاكمه بمعيار أخلاقي وتيولوجي، مما أرغم الصيرورة على التوقف نهائيا عن الحركة، لأنها لا تؤمن إلا بالاختلاف والتعدد كما يحددهما الوجود، فالصيرورة والوجود هما الشيء ذاته. ولعل هذه الوحدة بين الوجود والصيرورة، بين العقل والتاريخ قد أزعجت الغزالي، وحركته إلى الدفاع عن النزعة العدمية التي تسعى إلى الهدم من أجل الهدم. فبأي مفهوم يمكن أن نواجه هذه النزعة العدمية؟ هل بمفهوم الصيرورة؟ أم بمفهوم الوجود؟ أم لا بد من استنبات فيلسوف المستقبل إلى أن يصير له ظل على هذه الأرض؟
مهما يكن من أمر هذا الزمان العبثي، فإن وعي الأمة لا يحقق ذاته إلا في الحرية والفكر، ونظرا لكونهما لا يتحققان سوى في فلسفة الصيرورة، فينبغي لفيلسوف
المستقبل، باعتباره طبيبا للحضارة، أن يصالح روح هذه الأمة مع التاريخ في أسمى صوره أي حين يصبح جدلا بين الصيرورة والوجود. والفلسفة صيرورة للفكر، بمعنى أنها إبداع مستمر لأسئلة العصر وإيقاظ العقل الدوغمائي من سباته، ولكن متى سيستيقظ هذا العقل، وهل يستطيع أن يتحرر من أوهامه وأساطيره؟ ومن يشبعه كل هذه الإقامة الشاعرية خارج الوجود؟
والحال أن الصيرورة قد تتساقط في التاريخ كقطرات المطر على الأرض، بيد أنها لا تريد أن تصبح هي التاريخ ، لأنها لا تملك في ذاتها بداية ونهاية، ومن طبيعة التغيير أن يؤثر في الزمن ، دون أن يتأثر به، والفلسفة بدون رغبة في التغيير لا جدوى منها، ذلك أن الفلاسفة الذين يفسرون العالم قد ماتوا من أجل ولادة الفلاسفة الذين سيغيرون العالم ويحررون الإنسانية من العبودية، هكذا ستعانق الفلسفة السياسية مأساة الإنسان كما أراد لها ماركس، وكل الفلاسفة الذين نسجوا على منواله.
ولعل هذا ما يسميه الان باديوب «الفلسفة في الحاضر»، ومعنى ذلك أن السياسة لا تحقق كمالها إلا حين تنصهر في فلسفة الحاضر، أو بالأحرى التدبير الحكيم والفضيل لهذا الحاضر، ولذلك ينبغي على السياسي المحترف أن يكون فيلسوفا محترفا أوهاويا حتى لا يسعى إلى جعل من المثقفين مجرد هواة في العمل السياسي .
ومن الحكمة أن تساهم الفلسفة في تدبير الدولة المدنية: «ثمة التزامات سياسة تنيرها الفلسفة، أو حتى قد تكون الفلسفة سببا في ضرورتها، ولكن الفلسفة والسياسة متمايزتان، فالسياسة تهدف إلى تحويل الأوضاع الجمعية، فيما تسعى الفلسفة إلى طرح مشكلات جديدة للجميع… تتعلق بالنضال السياسي المباشر. وبإمكان خصوم العقل أن يتهموا الفلسفة بالغموض والتجريد، بيد أن مهمة الفكر تتجاوز حدود الواقع الملتبس، من أجل خلق المسافات بين المشاكل والحلول، وبعبارة أخرى، فإن اليوتوبيا السياسية ضرورية في بناء السياسة العملية، فمن خلالها تشرع الإرادة الطيبة للحرية والمساواة والسعادة.
أما أن يقال للفيلسوف: «لن توجد جمهوريتك في أي مكان» فسيجيب قائلا على لسان سقراط: «ففي كل الأحوال لعلها ستوجد في مكان ما غير بلادنا».
الكاتب : الدكتور عزيز الحدادي - بتاريخ : 24/01/2019