أشجـانٌ موريسكيـة

 

1 – تحت قرع الأجـراس
(يناير، 1492م)

“غرناطةُ” في السَّبـيِ
و”مالقةُ” الحسناءُ تصُكُّ الوجـهَ
وأقفرَ من صلواتـهِ “وادي آشْ”
فخيالاتُ فِراخِ الطّير الأيتـامِ
على نخلٍ ما عاد غريبًا في أرض الغـربِ
مِن البُـومِ
رُهابٌ في الصُّبـحِ
وفي الليلِ كوابيسٌ ورُعـاشْ.

2 – مناجاةٌ في كهـفِ وادي رِقوطـي
(غشت، 1512م)

يا ربِّ، وأنتَ القائل “إلا مَن أُكـرِهَ”
تَعلمُ راشِدَ سِـرِّي
خَلفَ غَوايةِ جَهـرِي
وترى اطمئنانَ سَفيني الرَّاسي في مِيناءِ الوحدانيةِ المُطلـقِ
خَلفَ الصَّلوات اللاتي تتلوها شفتايَ مع القِسِّيـسِ
وكلُّ عيونِ القِسِّيسينَ النَّاريَّاتِ تُتابعُ همهمةَ الشفتيْـنْ
فاقبَلْني عِندكَ صِدِّيقًـا
وأجِرْني من سُوءِ عذابِ الماردِ “ثِيسْنيـروسَ”
وأَعمِ نوافذَ عيْنيْهِ المُظلمتَيْـنْ
عنْ وهَجِ الفَلقِ الساطعِ من صَدري الرَّاضي المَرضِـيِّ
كما نجَّيتَ بِشارةَ “عِيسَى” مِن مَكر الفِرِّيسيِّيـنَ
وأعميْتَ قُريْشًا عن “أحمدَ” في الغـارْ
آميـنْ!

3 – زفرة في ميناء بلنسيـة
(شتنبر، 1609م)

“بيري أوروميغ” يكذِبُ، باعَ الريشةَ والألوانَ لـ”فيليبِّي” الغـادرْ.
بَيْن شوارعِ أُنسِ “بَلنسيَةَ” المرصوفةِ بالثقةِ الفِطريَّةِ منذُ قرونٍ مَرَّ غُرابُ المَلك المشؤوم يُنادي بنعيق البَيْن المُتشفِّي: “وأخيرًا حاقَ بِكُمْ سَخَطُ الربِّ تقدَّس في المَلكوت وسَخَطي يا شِرذمةَ “المُوريسكوسِ”، فليسَ أمامَكمُ غيرُ ثلاثةِ أيامٍ كيْ تغدُوا من أرضِ الربِّ غُدوًّا أبديًّا، لَيس رواحٌ بَعدَهْ… أبدًا أبـدًا”.
آهٍ مِن حملقةِ عُيون الأطفالِ المَشدوهينَ، فراغِ رُؤى الفلاحينَ المَنكوبينَ، عويلِ النِّسوة أَلقيْن مَناسجهُنَّ، اقشِعرارِ الأرضِ، ثُغاءِ الماعزِ، بعدَ قليلٍ يُقطَعهُ النُّبَلاءُ رَخيصينَ مقابلَ صَمتٍ تاريخيٍّ غالٍ، فيَصيرُ يتيمًا مِن صُحبةِ راعٍ كانَ يُؤذّنُ حين تزولُ الشمسُ بِتمتمةٍ، ويُصلِّي مُختفيا في كهفٍ أسفلَ “لا امْوِيلا دِي كُورتيسَ”؛ فيَرحُبُ غارُ الإيمانِ، ويخضرُّ المَرْعى للماعز، والآبارُ تفيضُ من التُّرَع الرَّيَّا لِبساتينِ الكَرْم الغافي والزيتُـونْ
كالأغنامِ حُشِرنا فجرًا في أُسطول الرَّهبة ذي الأشرعةِ السوداءِ إلى المجهول النَّائي، ويُحيطُ بنا من كل جهاتِ السُّفن الهشَّةِ غدرُ جنودِ الكاثوليكِ الثَّمِلونَ، قراصنةُ الصُّلبانِ المعقوفةِ، والنوتِيَةُ الجَشِعُـونْ
وقليلٌ من جيرانِ الأمسِ الوَرِعـونْ!
“بيري أوروميغ” يكذِبُ، باعَ الريشةَ والألوانَ لـ”فيليبِّي” الغـادرْ.

4 – رسالةٌ من وادي الأغـوار
(أكتوبر، 1609م)

باسمِ الله الرَّافعِ ترتفعُ الأسماءُ، وباسمِ الله الخافضِ تنخفض الأسمـاءْ.
أعلمُ أنكَ لن تَقرأ ما أكتبُ مُضطرًّا بِيَدي العجمـاءْ
لكنِّي أكتبُ للتاريخِ، وللمَعنى، ولأنفثَ مصدورًا آهِـي.
آهٍ لوْ تعلمُ يا “فِرنَندو بنَ أُميَّةَ” ما كتبَ “الحجَريُّ” بِقرْحِ الأكبادِ نزيفًا بَعْدكَ، لمَّا في جُنحِ الليلِ الْتبسَ بِجِلباب الرُّهبانِ الغِرْبيبِ وزُنَّارهِمُ، كيْ لا تكشِفهُ أَرصادُ أُلوفِ شياطين التحقيقِ، فأَبحرَ في حِرز صَلاةِ الخَوفِ منَ الخَوف بِـ”شَنْتَمريَّةَ” أدنى الغَرْبِ، إلى أَقصى أمْن الرُّوحِ بـ”آزمُّورَ”، فأخبرَ من سبقُوا خَبرَ القومِ هُنا في الفِردوسِ الذهبيِّ وقدْ أصبحَ مَحْلا وحديـدَا
فكأنَّا لم نلبسْ مِن قبلُ لدى أفراحِ الأعيادِ جديـدَا!
آهٍ يا “فِرنندو بنَ أُميَّةَ” لو تسمعُ فتوى “المَغراويِّ”، وقد حزَّ السِّكِّينُ اللحمَ البضَّ، وفتَّتْ أسنانُ المِنشار لِحاءَ العَظمِ، فبَدَّلنا المِلَّةَ مَطحونينَ خلالَ رَحى المُطرانِ، مَسَخْنا الأسماءَ، طمسْنا الأحرُفَ، هدَّمْنا الحمَّاماتِ بأيْدينا – شُلَّتْ أيْدينا!- كيْ نَحْيا، ورضِينا بجميعِ الدُّون، ولمْ يَرضَ الدُّونُ بنا، حتَّى صبَّحَنا الطَّاغيةُ الفاجـرْ
بِسكاكينِ الغَدر تجُزُّ مِن الأرضِ جُذورَ أُلوفِ البُرآءِ المَذهولينَ بِلا ذنْبٍ، وتؤُزُّهمُ أزًّا للمجهولِ على المَوج الهَـادرْ
آهٍ يا”بنَ أُميَّةَ”، لو تعلمُ لاشتقْتَ حياةً أخرَى، كيْ تدَّفَّقَ نَوًّا في “وادي الأغـوارْ”
إلَّمْ يَكُ نَوًّا بالبَارودِ، فنوٌّ بالأحجـارْ
كيْ تمحُوَ عنْ بُؤسِ نَواصي قَوْمي قوْمِكَ هذا العـارْ.
التوقيع:
أحمد خيرونيمو سِكِين المِلِّينـي

5 – مسافة الأحزان الساحليـة
(شوال، 1330هـ)

نشيجُ رَبابِ الجُوقِ الأندلسيِّ يُجيبُ نُواحَ كَمنجة جُوق المالوفِ على طول مسافةِ ما بين “طرابُلْسَ” و”تَستورَ” و”وَهرانَ” و”تِطوانَ” من الأحزانِ، فَيمتدُّ بَسيطُ المَايةِ أشجانَ جَوًى مِلحاحٍ يَحفِرُ في الصَّدر على نفْسِ النَّفَـسِ
ذِكـراهْ:
“… حُلُمًا، أوْ خِلسةَ مُختلـسِ”.

6 – آهات أندلسيـة
(دجنبر، 1973م)

راقصةُ افْلامِنكُو، وكثيرٌ من طَرْطقة الأحذيةِ المَوزونة رُغمَ الرَّقص بمِيزان الحُزن، وصوتُ عَجوزٍ مَبحوح، يَروي أشجانًا جَمعتْها في ذاكِرتي لَوحةُ نقشٍ جِصِّيٍّ ما؟ “يا لكِ من ذاكرةٍ خَرسَاءَ!” أقولُ لها. ويُتابِعُ صوتُ الحُزن المبحوح غِناءَهُ كالنَّعْي، إلى أنْ يبلُغَ: « … No hay victoriosos excepto… Ahayyyy »، مُندهِشًا حدَّقتُ بِعينيْ ذاكرتِي في النقشِ الجِصيِّ وقدْ أضحى كالشمسِ جَهيرًا حدَّ الإبهارِ، فأوْقفَ راوي الذِّكرَى المنكوبَةِ ما يَرويهِ هُنيْهةَ صمتٍ خاشعةً كالسرِّ الأبدِيِّ، وقالَ: “أَلَمْ…؟” قلتُ: “بَلَى… لا غالـبَ إلا اللهْ”
فانبجستْ عَيْنا الراقصةِ الهيْفاءِ عُيونًـا مِن آهْ.
قصَّتْ فيما بعدُ عليَّ حِكايتَها المَنسيَّـهْ
قالتْ وأنا أسمعُ نبضَ الصِّدق بِصدرِ فُؤادٍ يُفصحُ عن سرٍّ لِحَميمٍ، وأرى رجَفانَ الشفتيْنِ الباكيتيْنِ: لقدْ كانتْ “حنَّا” في جَوفِ الليلِ تَقومُ، فتغسِلُ وجهَ البِلَّورِ الفضِّيّ، وتَمسحُ بالرَّأس المَخضوبِ بِحِنَّاءٍ – عجبًا! من أين أتتْ بالحِناء ولم ترَها أشباحُ “افْرَنكُو” المجنونةُ؟ – تُهرق ماءً للقَدميْن كذلكَ شفَّافًا، وعلى ضوء القِنديلِ أتابعُها ببراءةِ دهشتيَ الرَّائعةِ الأولَى، وهيَ تقومُ وتقعُدُ فوقَ قُماشٍ تَفرِشُهُ في أرضٍ طاهرةٍ، وَأراها حين تَخِرُّ على ضَوءِ القِنديل بِجبهتها للأرضِ، وتَرفعُ سبابتَها اليُمنى… أفكانتْ تِلكَ صَـلاهْ؟
قلتُ: أجلْ… لا غالـبَ إلا اللهْ
قال الـراوي:
وأنا كم همستْ لي أُمّي الغَجريَّـهْ
جدُّ أبيكَ الأوَّلُ يابْني فلاحٌ منكوبٌ، لم يشربْ خمرًا قطُّ، ولا ادَّهنتْ شفتاهُ بِشحمِ الخِنزيرِ، وطودوسْ لوسْ افْيِيرنيسْ يُشعل حطبَ الحمَّـامْ
… أفَلـمْ؟
قلتُ: بَلى… لا غالـبَ إلا اللهْ”
فانفجرتْ عينايَ وعينَا الرَّاوي المبحوح وعينَا الراقصةِ الصَّهبـاوانِ
حواشِي دَمعِهما عَسَليَّـهْ
آهاتٍ أندَلُسيَّـهْ!

7 – واحمرَّ النارنجُ من “دار الفـرح”
(28 فبراير، 1980م)

لا خوفَ اليـومْ
اليومَ افْتكَّتْ “إشبيلية” رُسْغيْها من قيْدِ قُرون الهُـونِ
وألْقتْ صكَّ القَشتاليِّ المَغـرورِ
لجُوع النَّـارْ
فاحترقتْ من حَرٍّ أحلامُ المُطـرانِ
على طاولةِ الشطرنج بمَجلس “رُومـا”
لكنْ، مَهـلًا
حينَ سيُرسلُ جامِعُ قُرطبةَ اسمَ الله شَذًا في الآفـاقِ
كما كانَ، ولا يومَ الطِّيـنِ
ويخضرُّ هِلالُ الجَامُـورِ
فَليْسَ يَضيقُ بجِيرةِ قُدَّاسِ المُطـرانِ
وليسَ يَضيق بيَوم الغُفرانِ لدَى سَبت الأسبـاتِ
وكيفَ يضيـقُ
ألمْ يكُ صَدرُ الأندلُس الزَّهـراءِ
مَسيرةَ بِضعِ قُـرونٍ
فالكُلُّ عِيالُ الله
ولِكلِّ عيالٍ تَرتيـلْ
لمْ يُخرسْهُ سِوى شَبحَيْ “فِرنَندو” و”إيزابيـلْ”؟
لا خوفَ اليـومْ
اليومَ اشتعلتْ مملكةُ حَنينِ الرُّمَّانِ السَّفريِّ بـ”غرناطـةَ”
واحمرَّ – وكمْ طالَ عليهِ الأمدُ! – النَّارنـجْ.
7 – ريح جنة العريـف
(ربيع الأول، 1413هـ/ الموافق شتنبر، 1992م)

“شَفْشاونُ” “غَرناطةُ” أُخْـرَى
آهٍ، إنِّي أتنسَّمُ رِيحكَ يا رَيْحانَ “عَريفِ” “الحَمـراءِ”
هُنا بينَ أزقَّةِ فاجعةِ الذِّكْـرَى
حَملتْهُ – وما أبْلاهُ الدَّهرُ المُمتدُّ- جَداولُ دمعٍ حـرَّى
تَتدفَّقُ مذْ خَمسِ مِئيـنَ
ولمْ تُزهِرْ بعدُ البُشـرَى
إلا مِن نَظرةِ مِفتاحٍ صَـدِئٍ
عبَرَ ليَاليَ بَحْرٍ أهْـوجَ
بينَ جناحيْ مِعطفِ جدِّي الثانِي عَشـرَ
انتصبتْ خُرْصتُه مَصلوبا وجِدارَ القِبلـةِ
حتَّى نذَّكَّرَ مدَّ الدَّهـرِ
بأنْ للهِ المَشرِقُ والمَغـربْ
وقضيَّةَ بَيـتٍ
بِفِناءٍ فِردوسـيٍّ
في عرصات “المُنكَّـبْ”
مفتاحُه إن يَصـدَأْ
فجِراحُ التاريخ المفتوحةُ لا تَبْـرَأْ.

هوامش:
رسام من بلنسية، أنجز سنتيْ 1612 و1613م، مع ثلاثة رسامين آخرين، سبعَ لوحات تؤرخ لطرد الموريسكيين من بلنسية، بتكليف من الملك فيليبي الثالث.
Todos los viernes: عبارة إسبانية تعني كلَّ جُمعة.


الكاتب : سعيـد عبيـد

  

بتاريخ : 01/02/2019