المشتركُ الشّعريُّ بين أدونيس ومحمد بودويك!

إن هناك صِرَاعًا مُحْتَدِمًا بين المشارقة والمغاربة مفاده: «أن أدب الغرب الإسلامي ما هو إلا صدىً لأدب المشارقة»؛ ومن أشكال هذا الصّراع أنهم كانوا يجرِّدون الشعراء الأندلسيين من إبداعيتهم، فنعتوا الشاعر الأندلسي ابن زيدون بــ: «بحتري المغرب»؛ واعتبروه صدىً لصوت شعريّ متفرّد هو الشاعر المشرقي أبو عُبادة البحتري الذي كان على مذهب الطّبع، كما أنهم وصفوا ابن هانئ الأندلسي بــ: «متنبي المغرب»؛ لأن شعره كان شبيهًا بشعر أبي الطيّب المتنبي في فخامته، وجزالته، وجهارته؛ حتّى قيل: «شعر ابن هانئ كرحى تطحن قرونا».

 

لست بحاجة لأن أخوض في هذا الإشكال التاريخي، والأدبي فقد سال فيه مدادٌ كثيرٌ، وعالجه شيوخُ البحث في الأدب الأندلسي، وعلى رأسهم البحّاثة المغربي عبد السّلام الهرّاس ــ رحمه الله ــ فقد أثبت هذا العالم الفذ ــ على مدى خمسة عقود ــ أن الأدب الأندلسي له شخصيته المستقلة، وثوبه الذي يلبسه على مقاسه، وإن كان تأثّرُ أدب الغرب الإسلامي واضحًا بالطابع المشرقي في فجره، ومنذ بزوغه، وما إن استدّ، واشتدّ ساعده حتى أصبحت رايته مرفرفة في سماء قرطبة، وغرناطة، وبلنسية، وسرقسطة، وغيرها من مدن العدوة الأندلسية لا ينكرها إلا جاحدٌ متعصبٌ؛ ويكفيك يا أندلسُ فخرًا أن فن الموشح خرج من تحت معطفك، وتربّى في حضنك، وعزّك، وهو ابنك الشّرعي لا ينازعك فيه منازعٌ.
والحقيقة أنه لا يمكن الفصل بين الأدب الأندلسي، والأدبي المغربي؛ لأنهما سيّان، وكلاهما استمرار للآخر، وأدب المغرب الأقصى تعرّض ــ هو الآخر ــ لظلم كبير، وهجوم عنيف، حتى زعم بعض المشارقة أنه ليس هناك ما نسمّيه أدبًا مغربيًّا؛ وقد تصدّى الأديب اللبيب، والعالم النجيب عبد الله كَنون لهذه التّرهات الّنزقة، والمزاعم الفارغة بكتاب ماتع جمع بين دفتيه ما أنتجه أدباءُ المغرب، وشعراؤه سمّاه «النبوغ المغربي في الأدب العربي»، وانتبِهْ ــ حفظك الله ــ إلى كلمة «نبوغ» الواردة في عنوان الكتاب، فهي تدل على أن هناك أدبا مغربيا وصل إلى حد النبوغ؛ ليقطع بذلك كل الشكوك، ويُطلع من لا يعرف أدب المغاربة على ما أنتجوه!
فقد كان همّي ــ من هذا كلِّه ــ أن أعرّج على ثنائية «الصوت»، و»الصدى» في الأدبين المغربي، والمشرقي؛ فأقول: إن أوصافا وُصف بها بعضُ الشعراء، وهم لم يكونوا مقلدين، بل منجزهم كان استمرارا للمثاقفة الشعرية، فعندما نُعِتَ الشاعر المغربي محمد الحُلوي بأمير شعراء المغرب، فهو يعد استمرارا لحركة البعث، والإحياء التي تزعّمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم..
وعطفًا على هذا التوصيف الأخير؛ ألا يحق لي أن أصف الشاعر المغربي محمد بودويك بــ: «أدونيس المغرب»؟ دون أن أُجرِّد أستاذي الناقد، والشاعر محمد بودويك من إبداعيته، فهذا مما لا يحتمله كلامي لا تصريحًا، ولا تلميحًا، وأعتبره ــ بحكم تتلمذي على يده ــ من المعجبين بأدونيس، ولطالما حدثنا عنه في حلقات الدّرس، واستشهد بكتبه، وأشعاره؛ فالرجل استمر على الفكر الحداثي الأدونيسي، فقد تشبع بأفكاره، وآمن بها، ودافع عنه باستماتة، وجرأة نادرة سببت له مضايقات ممن يعارض الفكر الحداثي، وقد كتب عنه مقالا غنيّا ينم على أن الأستاذ محمد بودويك يعرف أدونيس معرفة عميقة دقيقة عنوانه «في إنصاف الشاعر أدونيس»، وكلُّ من اطلع على ما كتبه في حق أدونيس؛ سيجد أنه رد بشكل قويّ، وعنيف على خصومه الطامعين في النيل منه؛ فيقول: «سيظل الشاعر أدونيس شاعرا كبيرا، ومفكرا عظيما، إذ بقدر ما يطير الإنسان عاليا، يبدو صغيرا للذين لا يستطيعون اللحاق به كما يقول مثل صيني.
وبقدر ما ننأى، ويتعب البعض في الركض وراءنا طويلا، نكون عرضة للسهام، والنبال، والحجارة الكثيرة. وكذلك عانى المتنبي من الصغار في عصره، وأبو العلاء، وأبو تمام، وأبو نواس، وبشار بن برد، وابن الرومي، وغيرهم من الأفذاذ التاريخيين حتى في عصرنا وراهننا. لكنهم بقوا وصمدوا، واستمروا مضيئين ليلنا العربي القاتم، فيما خبا مرضى القلوب، الحاقدون، الموتورون، الكارهون كل جديد، وقشيب، ومختلف وحر».
ويعتبر الأستاذ محمد بودويك أن ذيوع صيت شاعر كبير مثل أدونيس قد حجب الضوء عن كثير من شعراء عصره؛ قائلا: « قد تحجب ظلال شاعر كبير، غيره من الشعراء، كما كانت عليه حال المتنبي، والمعري، وأبي نواس، وأبي تمام، وغيرهم. غير أن هذا الحجب ليس مدعاة، ولا مسوّغًا، ولا ذريعة لطمس أسماء وأصوات، ومغامرات أندادهم الآخرين من الشعراء».
وقد ذكّرني قول أستاذي هذا بما قاله ابن حزم الأندلسي:
أَنَا الشَّمْسُ فِي جَوِّ العُلُومِ مُنِيرَةٌ
وَلَكِنَّ عَيْبِيَ أَنَّ مَطْلَعِيَ الغَرْبُ
وقد فُهِمَ هذا البيتُ الشعريُّ على غير قصده؛ فابن حزم لا يفضّل المشرق على المغرب ـــ كما توهّم كثيرٌ من الناس ــــ لكنّي أفهم قوله: «ولكن عيبي أن مطلعي الغرب» فهمًا آخر؛ فكونه في بيئة عالمة كان هذا من معايبه، من باب الذم على سبيل المدح.
والشاعر المغربي الكبير محمد بودويك له أسلوبه الخاص في بناء النص الشعري الحداثي، وتتميّز لغته بشعرية عميقة، فقد عُرف بتطويعه للغة الشعر، فحين يحدثك الرجل عن جوهر الشعر؛ فهو الخبير بأسراره، ومكنوناته، ومسنوناته، وإن حدثك عن خارطته؛ فهو الجغرافي، والرحالة العارف بأدغاله، والتواءاته، وشعابه، فما أروع لغته الرقراقة الشفافة! إنه شاعر يصول، ويجول في لغة العرب العذبة، فلغة قصيدته نهر جارف لا ينضب، ولا يجف، وحتى وهو يكتب النثر يبقى الشاعر الطفل مستيقظا في ضميره لا ينام، ولا يمكن للمتلقي إلا أن يتلقف نصوصه بشغف؛ لأنها كقطع الحلوى تسيل لعاب المتحلقين حولها.
فالدكتورُ محمد بودويك رجلٌ لا يُحصى؛ فهو الشّاعرُ المُفْلِقُ، والنّاقدُ المتريّثُ، والمثقفُ المستنيرُ، والمناضلُ الوفيُّ، والمربّي المعلِّمُ بحيث يصعب الحديثُ عنه؛ وهو حديثٌ لا يسلم من مزالق، وكل ما أدوّنه ـــــ هنا ــــــ مجرّد أفكار التقطتها ممّا عاينته، وليس حديثًا أكاديميًّا عالمًا.
إن الشاعر محمد بودويك يلتقي مع أدونيس (علي أحمد سعيد) في كثير من الأفكار، والتصورات، كما أنهما يفترقان في مواقف أخرى، وفي واقع الأمر أن لكل شاعر تجربته، ومواقفه الاجتماعية، والسياسية. ومن العيب، كل العيب أن ننتقص من شأن كبار الشعراء بسبب مواقفهم السياسية المختلفة، ونهْجُوهم على مذهب الحُطيئة، أو على مذهب من شرب من بئر إلا ورماها بحجر، لا لشيء سوى اختلافِهم معنا؛ ويقول الشاعر محمد بودويك في هذا الصدد، عندما هُوجِمَ الشاعر السوري أدونيس بسبب مواقفه السياسية: «كنت أحسب أن مهاجمة شاعر أو أديب أو مفكر، بسبب رأيه السياسي، أو سلوكه الأخلاقي وحريته الشخصية، مسألة عف عليها الزمان. غير أن البعض لا يزال يصر على تشطيب أسماء ذائعة ناعتا إياها بأقدح الصفات. والحق أقول: إن الرأي الثقافي الكوني، وقد تطور بما لا يقاس، لم يعد يخلط الأخلاق والمواقف الشخصية بالأدب والشعر والفكر، وإن كانت مطلوبة. وإلا لكنا أسقطنا الفيلسوف الفذ هيدجر؛ لأنه مجد النازية الهتليرية، والشاعر العظيم إزرا باوند؛ لأنه صاحب الفاشستي موسوليني. ولأسقطنا «أخلاقيا» و»دينيا»، الأدباء، والشعراء، والمفكرين المثليين مثل رامبو، وفيرلين، وأندريه جيد، وجان جونيه، وأوسكار وايلد، وميشيل فوكو، ورولان بارت، فضلا عن نجيب محفوظ الذي بارك معاهدة كامب ديفيد التي وقعها السادات مع إسرائيل، ما ترتب عليها، خروج مصر من الصف العربي؟. والحال أن هؤلاء وغيرهم، يحتلون القلوب والعقول، بل كانوا ولا يزالون ملهمين وفاتحين أمامنا آفاقا لا تحصى من فهم ووعي واستيعاب شرطنا الإنساني، ووضعنا الأنطلوجي في الكون. فهل مواقفهم وأخلاقهم، ومنازعهم، وميولاتهم «الشاذة»، تعطينا الحق في شتمهم والتنقيص منهم وتجريدهم من عظمتهم واستثنائيتهم؟».
وقد تحدّث عن هذا الأمر القاضي الجرجاني في «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، بقوله: «لو كانت الديانة عارا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات.. والدين بمعزل عن الشعر». ولم يستشهد اللغويون، والنحويون، والبلاغيون، بشعر أبي نُوّاس (الحسن بن هانئ)؛ لأنه كان من الشعراء المولَّدين؛ ولأنه كان شاعرا ماجنا يتغزل بالخمرة، والغلمان. ولكن مهما يكن، فالرجلُ شاعرٌ كبيرٌ يشهد له بذلك القاصي، والداني؛ يقول الناقد المقتدر محمد نجيب البهبيتي: «وفي أبي نُواس إثارة من الخير، وسؤر من الإيمان، يلتمعان من وراء ذلك الاستهتار».
هكذا ــــ إذن ــــ عبّر الدكتور محمد بودويك عن موقفه تُجاه هذه المعضلة ــــ في الرأي الذي أوردناه سابقًا ــــ وهو موقف لا يختلف فيه اثنان، أو ينتطح فيه عنزان، وهو درس في الاختلاف ـــ هكذا أفهمه ـــ وقد عوّدنا الأستاذ محمد بودويك على قول الحقيقة ــــ كما يراها هو، لا كما يراها غيره.
والدكتور محمد بودويك لا يخفي اطلاعه على تجربة أدونيس، والاستفادة من منجزاته الشعرية، وتراكماته النقدية؛ يقول: «إن أدونيس عَلَمٌ وشاعر كوني لا يشق له غبار، ومفكر تنويري حداثي من الطراز الأول.. تجربتي الشعرية لا تزال تمتح من آبار وحياض أدونيس وغير أدونيس. وتحاول أن تشق لها طريقا مخصوصا، ولونا يدل عليَّ وأدلُّ عليه. ليس في الأمر تواضع كاذب، أو دروشة مفتعلة، ولكنها الحقيقة إذ أنني امرؤ يقرأ ويتعلم، ويتتلمذ. وأعتز أيما اعتزاز بأدونيس، واقترابي منه، وتَشْرابي من بحره».
هذا؛ ومن بين الأفكار التي يلتقي فيها الشاعران: محمد بودويك، وأدونيس هي أن الشعر «رؤيا»، وقد كتب الناقد محمد بودويك مقالات في هذا الجانب نُشرت في جرائد، وملاحق ثقافية داخل المغرب، وخارجه؛ يقول في بعض مِمَّا كتبه: «لقد أصبحت مقتنعا، وربما أكثر من أي وقت مضى، بأن الشعر، فضلا عن ارتكازه على الخيال كمقوم جمالي بانٍ، واستسعاف بالماء، والنسخ الحي، والتجربة، والتحكيك على اللغة المتصلبة، هو رؤيا، أي هو موقف من العالم، وزاوية نظر حادة وعميقة إلى أشيائه وناسه، وما يمور فيه من أحداث، وكشوف، وابتداعات، وقيم، ومثل، وانتكاسات، وما إلى ذلك».
هو ذا الشعر، ومفهومه عند الشاعر، والناقد محمد بودويك؛ إنه شعر تنبؤي، اختراقي دون احتراق، واستشرافي يقفز إلى الماورائيات، والمستقبليات؛ وهذا يذكرنا ببيت شعري قوي من الجاهلية لطرفة بن العبد البكري:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً
وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَالَمْ تُـــــــزَوَّدِ
ويفرِّق الناقد محمد بودويك بين «الشّعر»، و»الرّواية»؛ قائلا: «يفارق الشّعرُ الرّوايةَ، وهي أكثر ما تكون عليه، من حيث كونه لغة تعبير عليا، ومنظورا تخييليا، وتصويريا للعالم، وأشيائه وعلائقه؛ إنه استشرافي، اختراقي، «تنبؤيٌّ»؛ بينما الرواية معالجة فنية، وقراءة جمالية تدخّلية شخصية للتواريخ، والوقائع الماضية، والأحداث الجارية السائلة؛ أي: أنه لغة توصيفية سردية دافقة فيّاضة وطافحة بالحكي والقص، والتشويق والتبديع، أو مقتصدة متقشفة لا تتخطى المرئي ـــ في أعلب حالاتها، ونواتجها ـــ إلى اللامرئي، المخبوء، الغائر، الخفي، الهلامي. ليس في الأمر مفاضلة، ولا تمييز، ولا غلبة لجنس تعبيري ولا انتصار للشعر على حساب الرواية أو العكس، بقدر ما هنالك استقراء لواقع الكتابة وخصيصاتها، ونبضها، ومفارقاتها».
وتأمّلْ ــــ حفظك الله ــــ لغة النص الجميلة، المنسابة انسياب الماء الزلال من أعالي الجبال، فليس في لغته تصنّع، أو تكلّف؛ وإنما ترى الرجل يمتح، ويميح من بئر اللغة، ومناجم فحمها.
والرجل غيور على لغة أمته، ويحزنه ما آلت إليه؛ قائلا: «.. غير أن الواقع الحي، الواقع المعيش، يكذب ظننا وتقديرنا، ويهدم توقعنا وأفقنا، ونحن نرى، ونبصر أن اللغة تنزوي انزواء اليتيم، ما لم أقل: انزواء البعير الأجرب. فالعامية، أو اللغة المحكية، بتعبير إخواننا المشارقة، هي السيدة، لعوامل تاريخية متشابكة لا يسعف المقام لذكرها وبسطها. والفرنسية هي الصولجان، والعصا التي يتعكز بها كل من يرغب في الرفعة، والسمو في أعين الناس، بل هي مأوى، ووجه، ووجاهة، وملاذ عوائل أسر مغربية كثيرة ومتكثرة..».
ويضيف الدكتور محمد بودويك بحرقة، وأسف: «لكن، المغايرة، لنصارح أنفسنا بحقيقة واضحة جارحة، حقيقة مرة على كل حال، وهي أن ما وصلنا إليه، وما وصلت إليه لغتنا هي بفعل فاعل، ليس بفعل الغرب الاستعماري، وأورباالكولونيالية كما يذهب الظن، ويتوجه الذهن».
فالشاعرُ، والناقدُ محمد بودويك له أسلوبه الخاص الذي يميزه؛ والأسلوب هو الإنسان ـــ كما يقول «بوفون» ـــ حتى لا نقول: «الأسلوب هو الرجل»؛ فنغبط المرأة المبدعة حقها. وقد تميز الأستاذ محمد بودويك باستثمار الإمكانات اللغوية التي تتيحها اللغة العربية في التعبير؛ وهكذا نراه يراهن على البعد اللغوي في الشعر، وينبه عليه وقتما وجد فرصة سانحة لذلك؛ أليس هو القائل في تدوينة رقمية على صفحته الفيسبوكية: «اللغة في الشعر ترى إلى نفسها. وربما هذا ما عناه جون بول سارتر حين قال: إن الشعر، على عكس النثر، لا يستخدم اللغة، بل يخدمها. إنها تنتصب مرآة مجلوة لِتَنْرى، تحل ضفائرها الدهرية للشعر ليسقيها ماء الطزاجة والنضارة، والطراوة، والشفوف، والمجاز، ليسقيها، بمعنى جامع، ماء الحياة. لا شعر ما لم يستبطن جذور وجذوع وأصول، وأجنحة اللغة. ما لم ينصت إلى حفيفها، كما عبر رولان بارت، والأنبياء ــــ فيما قاله الفيلسوف المغربي اليهودي الأندلسي ابن ميمون. حيث يقول ما معناه: إن ما جاءهم، وما أتوه من بيان مذهل، وإعجاز لا يطاول، ولطائف مبهرة، جاءهم من إنصاتهم العميق لدال اللغة. ومن ثم، فالشعراء، وهم أحفاد الأنبياء، وحراس ميراثهم اللغوي، بشكل أو بآخر، يفعلون الشيء نفسه، إذ يقيمون في الصورة والتخييل والتحليق، سكناهم اللغة، وسماؤهم وأرضهم هي. أنفاسهم وأرواحهم، وازدهاؤهم فيها وبها».
فاللغة عند ـــ أستاذي ـــ محمد بودويك امرأة ممشوقة القوام، فهي اللغةُ القصيدةُ، والقصيدةُ اللغةُ؛ ولست أُغَالِي إنْ قلتُ: إنها «فلسفة اللغة»، فاللغة ـــ عنده ـــ ليست منحنىً أفقيًّا، وخطا مستقيما، بلغة الرياضيات، بل هي دَلْوٌ صاعدٌ نازلٌ في بئر القصيدة، مربوط بحبل مفتول، مملوء بمعاني شاعرية تعبر عن الواقع؛ فالواقعُ قصيدةٌ، والقصيدةُ واقعٌ هما معا، في آن لا يفترقان، وليس الحبل المفتول؛ إلا الوزن، والإيقاع الهادئ، والهدوءُ عمقٌ؛ يقول عن القصيدة المرأة، والمرأة القصيدة، ولست أدري إنْ كانت القصيدة هي «الأم»، أم «الزوج»، أم «جرادة»، أم «فاس». المهم من ذلك أن تأخذ من هذه المعاني ما يناسبك، ويليق بك:
اُدْخُلِي،
مَدَارِي،
واطْرُقِي
سُبُلِي.
سَأَخْدُمُكِ مَا حَيَيْتُ،
وَمَا فَضُلَ مِنْ
عُمْرِي.
ففعل الأمر القابع في بداية المقطع الشّعري يفيد الالتماس، مع إيقاعي رومانسي هادئ ينم عن عنايته، واهتمامه بالمرأة التي لها حظ في إبداعاته، وحضور بارز في حياته، كل ذلك في أسطر شعرية متباينة الطول، والقصر، فالدفقة الشعورية متعلقة بالمعاني الشعرية جيئة، وذهابا، بدءا، ونهاية؛ فهناك حركية في الشعر، وشعرية في الحركة؛ وكلما تقدمنا في المقطع الشعري الذي يعتمد على الوقفة الدلالية؛ إلا وزاد توهجا لغويا، وألقا شعريا. فكلما قرأت شيئا من شعر الشاعر محمد بودويك؛ إلا وشممت بأنافي رائحة الصدق، صدق الكلمة، وصدق المشاعر، وإذا قيل قديما: «أعذب الشعر أكذبه»؛ أقول: إن أعذب الشعر أصدقه، وإن كان الكذب ــــ هنا ـــ ليس بمعناه الأخلاقي، وإنما الكذب الفنّي القائم على التخيّل، والتخييل في مقابل الخطابة القائمة على التصديق. وفي كثير من الأحيان يحوّل الشاعر محمد بودويك اللحظات اليومية إلى ترياق شعري، ومشهد ساحر، ودونك ـــ أخي القارئ ـــ لوحة شعرية موغلة في الشّعرية، وهو على شاطئ موغادور (الصويرة)، زهرة الأسطورة والعصور، حَطَّ بقربه نورس؛ فنطق الشاعرُ شعرًا:
مَاذَا يَقُولُ النَّورَسُ لِي،
وَمَاذَا لَهُ أَقُولُ ؟.
عَجَباً،
كِلاَنَا:
بِالمِلْحِ،
وَالرِّيحِ،
وَالبَحْرِ،
وَالصَّمْتِ الهَادِرِ،
مَأْهُولُ.

* ( أستاذ باحث)


الكاتب : محمد حماني

  

بتاريخ : 01/02/2019

أخبار مرتبطة

  قدمت عناصر المنتخب الوطني أداء رائعا في الدوري الدولي المفتوح في رياضة الصامبو،الذي نظم من 27 إلى 29 شتنبر

تتواصل يومي السبت والأحد منافسات الجولة الخامسة من الدوري الاحترافي الأول، والتي ستشهد مباريات قوية، يحيلنا بعضها إلى أيام الزمن

اقترح الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، منظم كأس العالم للأندية من 15 يونيو إلى 13 يوليوز 2025 في الولايات المتحدة،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *