الشعر ليس مجرد ملفوظات، بل هو الحياة في تجلياتها الشاسعة وتحولاتها الفارقة، التي تجعل الجسد يكابد ساعيا الى الحفاظ على هويته، وفي نفس الآن مندفعا الى تجاوز الذات بالإبداع والتمرد على الهوية وكل الأنساق الثابتة.
هذا الانشطار بين الوفاء للماضي وتجاوزه يسم نصوص الشاعر محمد عرش ويحيلها قلقة حية ، والقلق هو ما يدفعه الى استبصار العالم واستكشاف الذات، ولا يتأتى ذلك إلا عبر اللغة ومن خلالها، باعتبارها سكن كينونته التي طفحت بها دواوينه السابقة خاصة « مغارة هرقل» و «كاس ديك الجن»..إذ لا شيء يضيع أو يندثر بل ينسكب في الديوان الجديد «مخبزة أونغاريتي» برؤيا مختلفة . هنا يسكن الماضي والمستقبل في حاضر لا يفتأ يحضر ليتضاعف «الاحساس بالزمن» – عنوان ديوان للشاعر الايطالي أونغاريتي-
لعل الرجوع الى أونغاريتي واختياره وسما على الديوان ككل، يجعلنا نتلمس كيف هذا الاحساس بالزمن وحدته من خلال الألم ، وكيفية صياغة هذا الألم شعريا .
من النيء الى المطبوخ
من النبات الى الرغيف عبر العجين، صيرورة وجودية من الطبيعة الى الثقافة ، تمتزج فيها عناصر التراب والنار والماء والهواء .وقصائد عرش تتقاطع فيها هذه العناصر في كيمياء خلاقة كما في هذا النص :
(حين يصير العجين رغيفا
أكتفي بقراءة وجهي
من جديد
وأراقب شمس الجبال
علني أرى من بعيد
ظلال من رحلوا)
حياة جديدة ص 66
الإحساس بالزمن لا يوجد في الواقع معطى محايدا ، بل علاقة مع الاحداث في تعاقبها والكائنات في تكونها وصيروراتها.. إنه يصحو في الليالي الموجعة والعزلة الهائلة إذ يبصر الشاعر «وجهه» في الآخر، في الطبيعة والأشياء والوطن..فتلك الثورة التي قدت من الجبال الصامدة الشامخة وشمسها الملتهبة ، تحولت الى رماد لا يرى فيه غير «ظلال من رحلوا». هل هي رجعة الشاعر الجاهلي من خلال رمزية (رحلوا) التي تحتضن مصير الكينونة – هنا والان- ؟…ودون مواربة : نحن أمام تجربة شعرية تسعى الى الدنو من الأم ..
(مثل أم أونغاريتي
وهي تقوده
الى الاحساس بالزمن
فأعيد ترتيب الحروف
علني أدنو من أمي)
ثمة تناظر دلالي بين الشاعرين، أونغاريتي وعرش، تناظر يشكله الألم والأم ،حيث اليتم في البدء هو تلك الطاقة التي تزند اللغة الشعرية بالصرخات ..والصمت أيضا
يقول أونغرايتي في ديوان «الألم»
(ضاعت مني كل أشياء الطفولة
ولن أستطيع الآن،
أن أمحو ذاكرتي،
بصرخة)
الاحساس بالزمن ليس تيها في المطلق و المجرد فحسب، بل علامة معيشة ولغة منصهرة في اليومي، وصرخة لاستعادة الأم شعريا بعد أن تعذر الاتصال بها في الواقع المعيش، لذا كان الصمت حقيقة وجودية أمام أسئلة الحياة المستفزة،إذ ليس ثمة ما هو أفظع من الموت المادي والقيمي، بحدثه المروع، وبالخطابات التي تنسج عنه وحوله. إنه الحقيقة الواضحة الى حد الغموض والإمكان الوحيد لنهاية الكائن، ولا سبيل الى الخلاص والخلود سوى مد الكينونة بدفق التجدد والسيولة الخصيبة والعودة الى النبع والرحم :
( إن كان خمرا عاد الى دواليه
إن كان ماء عاد الى آباره
إن كان مطرا عاد الى بحاره وترك السماء بلا دموع»…»
إن كان سما عاد الى الافعى
وابتدأت قصة عشبة الخلود ).
إن الاحساس بالزمن يتلون بالانكفاء عبر حركة من الحاضر الى الماضي على عكس حركية الرغيف الذي يتجه من النيئ الى المطبوخ . وهذا الزمن لا يقتصر على الاحساس بالخيبة من الحركة السياسية التي تلاشت ولم تبلغ حلمها بالتحرر من الاستبداد، ولم يبق منها غير الظلال ووهم الحقيقة ..بل يترسخ هذا الفقدان العظيم برحيل الام التي اقترنت بالخبز اليومي، أليست هي مانحة الدفء والتورد الطيني ونبع الماء وسنبلة النماء ونسيم الطفولة والسعادة والخير؟
ملامح من شعرية الديوان
تنهض شعرية الديوان على نسق بلاغي أساسه الكناية (مخبزة أونغاريتي) والاستعارة: (امتطى صهوة التحولات ) والرمز:
(ها أنت تدنو من ديدالوس
ما بين النجوم والتراب
يذوب جناحي ايكاروس)
إنها بلاغة تغتني بمغامرة التحليق بالخيال نحو شمس الحقيقة معرضة أجنحتها الشمعية للذوبان. شعرية لا تكف عن نسخ ذاتها بإبداع انزياحات مدهشة، كما لو أن الشاعر هو من شجرة أنساب شعرية لأبي تمام والنفري والمجاطي وأدونيس ، كما أننا لا نعدم في صوره بعثا جديدا للأسطورة العربية والبابلية والاغريقية، لكن بانتزاعها من غنائية شعر التفعيلة (الحر) والذاتية الرومانسية ،وبعث النفس الصوفي في أنساقها الاسلوبية ..وفتحها على أمداء سوريالية، لكن بخرق المقدس اللغوي الجاهز، وتكسير الأنماط الشعرية المقننة بالعبارات المسكوكة التي لا ماء فيها.
إننا نصطدم بإشكال عضوي تكويني وسؤال قلق : كيف للشعر أن يتنكر لذاته ويسعى الى تهديم هويته اللغوية بالعودة الى ما قبل اللغة ..؟ كيف يمكن للغة الشعرية المطبوخة اليابسة في درجة الصفر من الكتابة، أن تمحو ذاتها لمعانقة الطبيعة النيئة في اندفاع أمواجها:
(اللفظ تاج
والمعنى زجاج
كلما اقتربنا منه،
تهشم،
فاندفعت الامواج )
نلاحظ أنها شعرية لا تهتم بملء الفراغ بل بخلقه من خلال الطاقة التخييلية للصورة المؤثثة بالتشبيه البليغ، والإيحاء الرمزي ذي الحمولة الصوفية في نسق إيقاعي دلالي : الانتقال من سكون الجملة الاسمية (اللفظ تاج
والمعنى زجاج)
الى الحركة الفعلية السردية ( اقتربنا- تهشم- اندفعت )
كما يعتبر الصمت مكونا فاعلا في بناء الصورة بفعل الحذف الذي يخفي طبقات من المعنى، سياسية كانت
(هل فتحنا رسائلهم
عنوة لتهطل هذي الحقول
رثاء، لا سبيل لرمي الجراح
هنا؟)
أو جنسية ( لولا كوزيما
ما كان سؤال فاغنر
عن شقاء العالم )
أو مسكوتا عنها لاشعوريا مثل احتضار الأم أو فساد الأمكنة وكائناتها.
الاحساس بالزمن علامة لغوية تخفي عجزا عن تملك العالم ، لذلك يسعى الشاعر الى تشكيله باللغة الشعرية، لخلق معادل موضوعي مجسد في القصيدة ذاتها، لمواجهة عنف العالم جماليا وفكريا ،بها يتسامى عن الزمن الواقعي بالزمن المجازي، المتخيل الجوهري والاصيل..لذلك يغدو الشعر تجربة وتجريبا في آن، كما لو أن الشاعر في صراع للقبض على الحقيقة المنفلتة من نسبيتها، للإحاطة بها من كل جانب، واستثمار كل مدركات الحس والتماعات الحدس من زوايا فنية مختلفة،
كالنحت :
(أيها النحات افتح باب الماء
لتخضر اللغات)
أو الموسيقى والرقص
(حين تجف الخمرة
وتبقى الكؤوس بدون نبيذ
تتعب الراقصات
وترتخي أنامل زرياب
ألم تتعبي؟ )
أو الغناء أو الحكي الشفهي الشعبي مثل (هاينا ) .
هي فنون تتقاطع في الغالب عند تيمة الماء بأشكاله المتنوعة وتحولاته المختلفة (تخضر- الخمرة- ترتخي-..الخ) توحي وتشير الى دلالات و قيم مثالية كالأنوثة والجمال والخصب والعشق والحرية، المفارقة لدلالات الزمن الكرنلوجي الواقعي وخطاباته اليومية الرتيبة، لذلك يفتح الشاعر القول على نثر فني أساسه البناء السردي لكن برؤيا شعرية متأملة وصامتة وبرؤية صارخة في وجه العالم.
استنتج من كل ما سبق أن الديوان جماع نصوص متنوعة بمرجعيات متعددة، واشتغال مضن على اللغة :هذه الخبزة التي تتلاقح فيها عناصر النار والتراب والهواء والماء ، وتتغذى بفنون العالم وجمالياته المتنوعة وأخيلته الخلاقة ،لاسترجاع الزمن الطفولي المفقود والطبيعة العذراء والانتشاء بالخمرة الأبدية والدنو أكثر من الأم .
محمد عرش. مخبزة أونغاريتي- ديوان شعر.دار النشر بيت الشعر المغرب2018