عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، قدم المبدع المتميز سعيد عاهد مؤلفه: (قصة حب دكالية) صنفه في خانة المحكيات، إشارة قوية لرواية أخبار ولتوجب استثارتها، والقبض على لحظاتها الدالة…
عبر إحدى عشر محكية ضمنها عناوين مختلفة، تحمل دلالة معينة للحدث الذي تقدمه، تقاطعت ما بين هو شخصي وعام، لتتلاحق في خط سردي متكسر، يجمعهما سفر في زوايا ذاكرته، بحثا عن صور طفولية راسخة، وأمكنة أثرت تجربته الشخصية، باعتبارهما قطب الرحى تجلى بحضور واع ومحكم.
تجليات الطفولة:
تكشف لنا هذه المحكيات عن الطفل الذي يسكنه، قدره الكتابة تولدت عن رغبة دفينة، كانتفاضة معلنة ضد الصمت المفروض.. يستحث ذاكرته وينبش في شقوقها، عن بقايا طفولته بتفاصيلها الحزينة / السعيدة، انكساراتها/ انتصاراتها، ليشكل من نسيجها حكايات تتداخل مع بعضها يسردها متقطعة، ساعيا لاستحضارها بقوة، ملتقطا دقائقها بكل تجلياتها : (حينها، بانت للطفل الهوية، وانجلى له بطش الحالة المدنية.) صفحة 10.
صفاء ذهني يتوثب من ذاكرته، يتخلله تقاطع وتداخل زمني قائم على الاسترجاع، لتساؤلات عميقة مؤرقة عن الذات والمدينة والوطن.
من جحيم الخرافة التي تلهب شرارتها كل الأسر المغربية، سيشهد الطفل بعضا منها بعيون مفتوحة صفحة 13: (سيطيل الطفل الذي كنته استراق النظر إلى الخرافة بدمها ولحمها، سيكتشف الدم، يشهده ويكون شاهدا عليه.)
مع توالي الأحداث التي شكلت وعيه المبكر ورغبته في التحرر من القيود المفروضة، تمردت طفولته على الجاهز، مخترقا سياج العادات والتقاليد، ليستقل بذاته ويمارس حياته الأخرى، عبر الاحتكاك بالآخر والدخول إليها من بابها الواسع: (… تخلص الطفل الذي قتلته من القيود اللزجة والصلبة…) صفحة 19.
تجليات الأمكنة:
تكبر الأسئلة في وعي الطفل، تتجلى معها الأمكنة ممتدة أمام عينيه، بمشهد بصري سكوني نفسي، تتزاحم في ذاكرته الشوارع والأزقة والدروب، تتقاطع، تتنافر، تتآلف، ليشكل من نسيجها متاهة طفولية، انطلقت تجوب خبابا ذاكرته والسفر في دهاليزها : (هناك في مازاغان ،زنقة دوامون وشارع فرنسا»و»سكويلة ليهود» و»المون» و»لبلايا»، وهناك،تحت سماء مغايرة مرصعة بأساطير البحر والأولين، صارت الكتابة مدينتي ومازاغان لغتي.) صفحة 5و6.
هذه المدينة التي منحته دفئها، علمته دروس الحياة، لقنته التسامح التي هي رمزه: (داخل القلعة البرتغالية،وفي مساحة لا تتجاوز مساحتها أمتارا معدودة،يوجد جنبا إلى جنب مسجد وكنيسة ومعبد يهودي.) صفحة6. ويستمر اندماجه في مختلف صور الأماكن التي رسخت في ذاكرته لتظل لصيقة به: (ستظل مازاغان ذاتها في ذاكرة سليل «زنقة دوامون» بدرب غلف المعطر بهبات الريح المتخلقة في أعماق المحيط.) صفحة 9.
هكذا هي مدينته في عمقه الطفولي بأمكنتها المختلفة، سلك فضاءاتها، حيث أدركته الكتابة تحت سمائها، بشغفها وشغفها :(صباحات «لاماركيز»ومساءات “تافيلالت» كانت حضن الانتماء والصحوة الإيديولوجية واعتناق الكتابة.) صفحة 53.
فالكتابة يدشن معها علاقة وطيدة، متجذرة في أعماقه، تحركها أمواج المحيط :(كلما حضره البحر، انتفض شريط الصور العتيقة ضد سكونه الجليدي.) صفحة 25. سلك فيما سلك أمكنة أخرى خارج مازاغان/الجديدة، بالتغلغل في أعماق تخوم دكالة والإصغاء إلى نبض الماضي بكل قدسيته الضارب في القدم، يسافر بنا إلى أزمور صفحة45 : (متاهة الأزمنة المؤدية إلى سيد المكان «مولاي بوشعيب» الواقع ضريحه خارج الأسوارالبرتغالية.) كما يعيد اكتشاف ضواحي المدينة في الصفحة 63 :(في الطريق إلى الجديدة، تعيد اكتشاف مدى انتشار الأضرحة في المنطقة «سيدي بوزيد،سيدي محمد الشلح، سيدي بلعباس، سيدي موسى،سيدي الضاوي.. «لكن لا أحد منهم نال شهرة مولاي عبدالله، ربما يعود ذلك إلى أسباب تاريخية.) هذا الوصف الشاعري والاستحضار الحميمي للأمكنة بعبق الماضي وتساؤلات الحاضر، تبلغنا مدى تعلقه وتفاعله معها.
على سبيل الختم:
نص إبداعي بحمولات وتساؤلات عميقة تشاكس حاضرنا مهما اختلفت تموقعاتنا، محكيات استمدت قوتها من كتابة صادقة لذاكرة متوثبة، صاغها بأفكاره وأحاسيس تعتمد لغة رصينة، لتستدعيك بمجاراتها والقبض على جوانبها. فلا غرابة أن يأتينا هذا الفيض من المبدع سعيد عاهد، الواحد المتعدد بإبداعه وحضوره الوازن في مشهدنا الثقافي والإعلامي.