قصيدة «نايات» للشاعرة سعاد المرابط ثنائية الإحباط والمواجهة

«بيدي نايات الكلام ،
أهمس لها بكلمات
يندهش لها القصب
كلما مرت بالسماء
أحزان طائشة،
كلما بدت الصحيفة
مثقلة بالهزائم
أطويها …
أصدها …
لا أدونها.
أطلق التردد ثلاثا
وأحلق…

وأتذكر أن بيدي نايات الكلام
أهمس لها بكلمات
تدهش القصب».
تعرف الحركة الشعرية النسائية بمدينة تطوان ثراء وفورة يثيران الإعجاب. لكن قلما نجد صدى لهذه الإبداعات النسائية في الكتابات النقدية. ولتقريب القارئ من هؤلاء الشاعرات اخترت واحدة منهن اقتنيت ديوانها الأخير على هامش النسخة الأخيرة من المعرض الدولي للكتاب. يتعلق الأمر بديوان»حب على ربابة فقدان» للشاعرة سعاد المرابط (1) ومنه اخترت قصيدة «نايات» لتقريبها من القراء.
فماذا أولا عن العنوان؟ هل النايات مجرد آلات موسيقية أم أنها تتضمن أشياء تتجاوز سطح الكلمة؟ الناي كتسمية يتجاوز نفسه ويحيل على الموسيقى والطرب. أما بصيغة الجمع فالإحالة على الموسيقى تغدو مكثفة وتغري القارئ باستكناه مضامين القصيدة قصد استنباط محتواها، بارتباط بالإحالة إلى العنوان الذي يصبح بوصلة القارئ في إبحاره عبر القصيدة. إن اختيار «نايات» كعنوان للقصيدة الأولى من الديوان يطرح عدة احتمالات. فما علة اختياره من طرف سعاد المرابط؟ لن أجيب عنهذا التساؤل إلا بعد قراءة النص الشعري لكن قبل ذلك لنبق في العنوان.
«نايات» جمع مؤنث سالم وهو في الأصل مفرد مذكر لكن عند الجمع أخذ صفة المؤنث وكأن الشاعرة لا تقبل رؤية العالم إلا بصيغة المؤنث.
عنوان نكرة مؤلف من كلمة واحدة تخلى عن أية إضافة، وكأن الشاعرة تنأى بنفسها عن الزيادة فاسحة المجال لخيال القارئ، وهو بهذا عنوان يشرع باب المعنى على كل الاحتمالات. شاعرية العنوان تكمن في قصره أيضا لأن القارئ يجد نفسه مجبرا للجوء لقرائن فوق لغوية علها تسعفه في استجلاء المضمون. لكن قراءة النص الشعري تضفي عليها دلالات إيجابية. فالذات الشاعرة تلجأ للنايات كلما مرت بالسماء أحزان طائشة، كلما تاهت القصائد عند عتبة الفرح، حيث تتذكر أن بيدها نايات الكلام الباعث على الفرح.
يتبادر إلى الذهن التفسير الذي يعطيه جلال الدين الرومي للناي، كونه يرمز للروح التي تتألم بسبب إبعادها عن المحيط الإلهي. ويحيل الناي أيضا إلى الروح المعذبة والتواقة إلى الانعتاق من أسر الجسد لها. فالناي له ارتباط بالبوح وإخراج الزفرات الإنسانية. الناي تعبير عن مواجهة لحظات الوحدة والعزلة. هكذا نجد الراعي لكي يسلي نفسه يعزف الناي، وهو بهذا يتحدى شساعة الفضاء وشموخ الجبال لأنه يرسل صوتا يتجاوز قمم الجبال ويملأ الفضاء. وقياسا على ما سبق هل تواجه الشاعرة «الأحزان الطائشة و»الصحيفة المثقلة بالهزائم» بعزف النايات؟ العنوان جاء بصيغة الجمع وهو يفيد إذن الكثرة ولربما التنوع. حضور الناي بصيغة الجمع في القصيدة له ما يبرره ما دامت الأحزان والهزائم واردة بصيغة الجمع.
«نايات «هو عنوان مهيمن لا يحصر نفسه داخل العنوان، ولكنه يتعداه فيمتد ليطال حتى عنوان الديوان»حب على ربابة فقدان»، فصلته وثيقة بالربابة وهي آلة تصدر صوتا شجيا قريبا من الناي على مستوى استنفاد الأحاسيس الداخلية. وهو أيضا آلة موسيقية رئيسية في الموسيقى الأندلسية ( ازدادت الشاعرة ولاتزالت تقطن بمدينة تطوان، من أهم المدن المغربية على مستوى هذا الطرب). تلتقي الربابة مع الناي أيضا في الأصل البدوي للآلة.
عندما نقرأ القصيدة نجد علاقة عضوية بينها وبين العنوان، حيث إن هذا الأخير يتولد من القصيدة ويحتفظ بشاعريته لأن العناوين في الغالب ما تنزاح عن الوضع الهيامي للقصيدة لتزج بنفسها في حالة من التعقل الذي يفرض على القصيدة عنوانا يلخصها.
القصيدة تتضمن ثنائية الإحباط والمواجهة ، وهي ثنائية ليست مضمرة في النص الشعري بل هي ظاهرة. يتبدى الإحباط في القصيدة في إحساس الذات الشاعرة لكنه يواجه بعزيمة وإصرار وهذا يجرنا للحديث عن بنية التضاد عبر ثنائية معنوية هي من صميم الوجود الإنساني حيث التجاذب بين هذين القطبين. إن الأعماق الإنسانية تحوي الإحباط والتحدي وواقع المرأة الحالي يدفع بالشاعرة لتسليط الأضواء على هذه الحقيقة الإنسانية التي تهم حتى الرجل.
بل إن غياب المعينات المرتبطة بالمكان والزمان تنزع عن الخطاب مرجعيته. فالذات الشاعرة ترسل كلامها في المطلق وتريد له أن يكون خالدا ، وهذه أهم خاصيات النزعة الرومانسية في الشعر أي الغوص في عالم مطلق كله انفعالات وأحاسيس. وبالرغم من أن الذات الأنثوية معروفة بهشاشتها فهي أمام الكروب تكتسب هنا الصلابة ورباطة الجأش.
وللإحباط في القصيدة أسبابه:
«كلما مرت بالسماء
أحزان طائشة،
كلما بدت الصحيفة
مثقلة بالهزائم»
إن المصدر الحقيقي لأحزان الذات الشاعرة قد يكون الآخر لكن قد تكون الذات نفسها. ثم إن الأحزان التي تلوح في السماء ليست مقصودة بل طائشة (والشخص الطائش هو صاحب التصرفات الهوجاء الذي لا يحكم العقل تصرفاته). كلمة طائشة قد تحيل إلى عالم عبثي حيث يتجلى اللامعقول من لقاء الإنسان بالعالم. وبالتالي فإن مواجهة الإحباط هي رفض للاستكانة ولليأس وإشهار للصراع حتى يكتسب الوجود معنى.
أسباب الإحباط مردها روحي ونستفيد هذا من السماء وكذلك من الحضارة المعاصرة التي تشكل الصحيفة إحدى تجليات تأثيرها وآثارها. هكذا إذن تتلاحم الأحزان الذاتية بالأحزان الجماعية.
هل للصحيفة علاقة بالتنزيل حيث لكل منا صحيفته؟ إذا كان القصد كذلك فنحن أمام بعد تراجيدي لا يمكن للذات المكلومة أن تتجاوزه وبالتالي فمصيرها مأساوي.
عكس بعض القصائد الطافحة بالقتامة وكأن الحياة تختزل في هذا الجانب أتى النص الشعري لسعاد المرابط ،منشدا للتحدي الذي قد يقود للغد المشرق ضدا على جهامة الحاضر.
الذات الشاعرة تجد نفسها في مواجهة ليس فقط مشاكلها الشخصية بل أيضا في مواجهة مشاكل خارجية. إنه اصطدام مزدوج مع الذات ومع العالم الخارجي دافعه الرغبة في حياة خالية من المثبطات.
«بيدي»: ذات الشاعرة تتحكم بنايات الكلام وبالتالي فهي سيدة اللحظة بل سيدة مصيرها. ما يعزز فكرة التحكم بالمصير هو أن القصب (أصل الناي) يندهش لأنه اعتاد إصدار أصوات فقط.
هذا النزوع نحو تجاوز المثبطات كلما بزغت لحظات إحباط ليس له مصدر زمني محدد كالماضي أو المستقبل أو الحاضر، بل هو نزوع يكمن في زمن محتمل أي كلما دعت الضرورة لذلك. فكلما ظرف زمان يفيد الشرط. وهكذا فزمن ردة فعل الأنا قد تكون له دلالة آنية (الآن) أو شمولية (الأنا تواجه دائما الإحباطات) أو دلالة مستقبلية (الأنا ستواجه الإحباطات مستقبلا). رغم أن الشاعرة لا تصرح بذلك فإن القصيدة بشكل ضمني تستنبت قيم التصدي ومواجهة مثبطات الحياة في كل وقت وحين.
ويمكن فهم المواجهة في بعدها السياسي كتحد للقهر ويمكن فهمها أيضا في بعدها الاجتماعي كتحد لقيمة اجتماعية تجعل من المرأة عجينة مرنة بيد حضارة ذكورية.
لنلق الآن نظرة على الحقل المعجمي للإحباط والمواجهة:
الإحباط: أحزان طائشة/ جريدة مثقلة بالهزائم.
المواجهة: أطويها/أصدها/لا أدونها/أطلق التردد ثلاثا/أحلق/لا أقول/أبتكر حرف/أملأ المحابر مدادا، عطرا، حبا، زهرا/أتذكر/أهمس.
القيام بعملية إحصائية بسيطة تبرز لنا هيمنة معجم التصدي. فمقابل عنصرين سلبيين نجد ما تبقى من القصيدة كله عناصر تصلح للمواجهة وهي مواجهة قوية لا رجعة فيها (أطلق التردد ثلاثا).
من ضمن العناصر التي يعول عليها في المواجهة نجد المداد (أملأ المحابر) وهو مداد من نوع خاص حيث يتخذ سيولة المداد ورائحة العطر وإحساس الحب ولون وعطر الزهر ، وكأن جميع الحواس تستنفر للتأهب للحظة المواجهة. هو إذن حبر مشحون يتألف من عدة عناصر محسوسة. نحن هنا أمام لوحة متكاملة الحواس. إن تعدد العناصر المحسوسة للحبر ينمي الدلالة ، بل يخلق دلالة تتسامى على الدلالة المعهودة ولا يمكن إدراكها إلا عبر الخيال. والشاعرة هنا لا تروم مراكمة المحسوسات فقط بل الوصول لصورة ذهنية ذات دلالة.
وهي أيضا مواجهة فريدة من نوعها حيث تتم بأسلحة الجمال(1) (مداد، عطر، حب، زهر)، وبشكل فريد، فالحروف، هذا المشترك بين جميع مستعملي اللغة يصبح فرديا متفردا (أبتكر حروفا ليست لسواي). لهذا ليس غريبا أن يندهش القصب الذي ألف إصدار مجرد أصوات لأنه مع الشاعرة أصبح يصدر كلمات أي أصواتا مشحونة بالمعنى، كما أن بنية النفي تستضمر مخاطبا معتادا على التشاؤم والدعة والسكينة وهو المتكلم الضمني داخلنا والذي يعتبر الفرح لحظة خرافية هاربة والزمن لحظة دائمة الانفلات (لا أقول أن الفرح خرافة، لا أقول أني تأخرت عن موعده). ولتقاسم الإحساس بالمواجهة والتحدي تعتمد الشاعرة على تجسيد الفرح في صورة منزل(عتبة) والقصائد في صورة إنسان(تاهت قصائدي) ولعل هذا ما يتعمق من خلال ثنائية الإسم الصفة(الإحباط) ضد الفعل(المواجهة).
وأخيرا تقفل الشاعرة الدائرة من حيث بدأتها فتعطينا قصيدة دائرية إذا كانت تنفتح على الحزن والتشاؤم ، فإنها تنغلق على دهشة الكلمات المصممة على المواجهة.
وترتكز الشاعرة بهذا الصدد على الصورة الحسية المشخصة حيث أضحى الجماد (النايات) يسمع مثل الإنسان أحزان الذات الشاعرة. فالنايات في هذه الصورة الاستعارية تشكل ربما آخر المستمعين لهمس الذات المكلومة. فما دام القصب يندهش فهو يحس. وعندما يصدر الناي كلاما فهو يزاوج بين العقل والروح ، وكما يندهش القصب سيندهش أيضا المتلقي بسبب إسناد حاسة السمع للنايات مما يجبره للجوء لعقل تجريدي كي يستوعب هذا المجاز.
هكذا فانطلاقا من العلاقات التقليدية للكلمات، تنسج الشاعرة علاقات جديدة عبر أسلوب التشخيص. إن سعاد المرابط تكسب الطبيعة هنا خصائص إنسانية.
انطلاقا مما سبق يمكن القول إن سعاد المرابط كي تعبر عن الأحاسيس والمشاعر، تولي الصورة الفنية أهمية قصوى عبر أداة التشخيص مبتعدة بذلك عن المباشرة. والشاعرة لا تسرد لنا وقائع حيث تنأى بقصيدتها عن الشعر الواقعي الذي يغازل الواقعية التي تقترب عبر كلماتها من النثر. إن التعبير بالصور هو ما يجعل من سعاد المرابط شاعرة سيذكرها تاريخ الشعر ببلادنا بافتخار. ثم إن خاصية الشعر عند سعاد المرابط هي الخيال المبدع الذي ينطق حتى القصب.
تحدي الواقع المحبط يستتبعه عند الشاعرة تحد شعري على مستوى الشكل واللغة. مقاومة الذات الشاعرة، عبر لغة طافحة بروح العصر ومتضمنة لمعجم شعري جديد، تنم عن قيمة تحررية لدى المرأة المعاصرة الرافضة للقهر، أيا كان مصدره ذاتيا أم خارجيا. وتوازي هذه المواجهة على مستوى المضمون مواجهة على مستوى الشكل الشعري. فالقصيدة تتحدى اللغة نفسها، اللغة كآلية من آليات التعبير لأنه بدون تجاوز نمطية اللغة لن يكتب النجاح للمواجهة، ذلك أن شكل القصيدة القديم فيه انضباط وهذا يتنافى ومنطق التحدي. صحيح أن سعاد المرابط تعالج قضية قديمة قدم الإنسان لكن طريقة معالجتها هو ما يجعل من مضمونها مضمونا متميزا.
فأين يتجلى هذا التحدي على مستوى الشكل في القصيدة؟ نحن لا نجد في القصيدة الأشطر المتساوية بل نجد في القصيدة سطرا واحدا بطول غير ثابت. ولا نجد القافية في نهاية الأبيات بل تفضل سعاد المرابط الصور الشعرية عليها لأن القافية، كما كانت ترى نازك الملائكة، تقتل الكثير من المعاني في صدور الشعراء. ولا نعثر في القصيدة على تفاعيل تمتثل للقاعدة العروضية.
في القصيدة تعبيرات توضح أن سعاد المرابط تتجاوز التعبيرات الجاهزة من قبيل «رصاصة طائشة» و»تطليق الزوجة ثلاثا»، وهي عبارات فقدت قوتها الإيحائية مع الزمن، وتعوضها بتعبيرات نلمس فيها الخلق والابتكار ك»أحزان طائشة» و «أطلق التردد ثلاثا».
الكلمة كانت دوما وستظل سلاحا في وجه القهر، الكلمة رسالة نبيلة حتى ولو كانت مهموسة فبدونها تتحجر الذات ويتضاعف القهر وتنعدم الحرية ونصل الموت في آخر المطاف. في مواجهة منطق الذات الأخرق ومنطق الوجود الضاغط تلجأ الذات إلى همس الكلام الشاعري وكأن وظيفة الشعر مواجهة عبث الكون عبر جنون الكلمات وكأن الشعر لا يستقيم إلا عندما يحس الإنسان بألم الذات وقهر الواقع. التماس الخلاص يكون عبر الشعر. كلمة همس الواردة في القصيدة تحيلنا أيضا إلى الشعر المهموس من وجهة نظر محمد مندور:» الهمس في الشعر ليس معناه الضعف فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجا من أعماق نفسه في نغمات حارة ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده، غد تبعد به عن النفس، عن الصدق، عن الدنو من القلوب.»(2)
والهمس ورد بصيغة المتكلم وهو يزكي الوظيفة الانفعالية في القصيدة من خلال الاستعمال المكثف لضمائر المتكلم المستترة(11 في القصيدة) في مقابل ضمير متكلم متصل واحد(تأخرت) وهذا يدل على طغيان ذات الشاعرة على النص، حيث تؤكد هذه الضمائر سيادة الشعر الوجداني لدى سعاد المرابط.
أخيرا يمكن القول إن بنية «نايات» ترتكز إلى ثلاث علامات أساسية وهي السماء، الصحيفة والأنا .وتولد هذه العلامات مجموعة من الحركات. فالسماء تعرف مرور أحزان طائشة والصحيفة تعرف إثقالا بالهزائم والأنا لا تقف مستسلمة بل تتحرك كرد فعل منها لوضع حد لحركة السماء والصحيفة. ويمكن فهم النص عبر النموذج الفكري التالي: الفن يقاوم الإحباط. فالنايات تبقى المتنفس والعزاء عوض الاستسلام. ونستشف من القصيدة نزعة تفاؤلية قوية ما دامت تتحدث عما يجب أن يتم فعله (الضرورة) في مقابل واقع محبط. ترى هل سيستمر هذا النفس التفاؤلي في باقي قصائد الديوان؟ هل يشكل هذا التحدي منحى عاما أم هو مجرد رجات عابرة لن نعثر لها عن صدى فيما يأتي من قصائد الديوان؟ أدعو القارئ الكريم للتأكد من ذلك عبر قراءة الديوان والاستمتاع حتما بقصائده.


الكاتب : بقلم: بوبكر الحيحي

  

بتاريخ : 15/03/2019