من المهم جدا أن يكون المخرج السينمائي ذا سلطة على موضوعه وأداته، ذلك أن أي تبرير للانفلات سيكون عديم الجدوى. فالتحكم هو ما يسمح له بالانتقال دائما إلى مكان آخر أكثر ملاءمة لرؤاه الاستكشافية المتجددة. وهذا ما يتيحه لنا المخرج محمد الشريف الطريبق في كتابه «لغة السينما- من الإبهار إلى شاعرية التقشف»؛ الكتاب الذي لا يشبه على الإطلاق الجلوس في قاعة السينما ترقبا لبداية فيلم ما، كما لا يشبه السفينة التي تجري على اليَبَس.
لقد دأب الطريبق على الالتفات في النظام العام للغات السينما، وعلى دراسة حركاتها، وهلى ارتياد كل الأمكنة التي قد تقود إليها. فهو لا يعتبر السينما رحلة ترفيهية فقط، بل هي لغة مركبة تجعل كل راغب في التعرف عليها وتفكيكها والنظر العميق فيها، يربح قدرا لا يستهان به من الحلم. ويأتي هذا الكتاب ليجعلنا نرافقه ونثب معه إلى المنصة التي قضى فيها جل وقته، دارسا ومتأملا في ذلك العزف المنفرد الذي تتيحه رؤيته الإخراجية في علاقتها مع باقي التصورات التي يطرحها المنظرون والمنشغلون بفلسفة السينما.
إن قراءة في هذا الكتاب، الذي أعتبره إضافة نوعية للخزانة السينمائية، تجعلنا نقف على أن الشريف الطريبق أدرك، عبر مساره الإبداعي، أن التشبث بالثوابت والوصفات الجاهزة وكل الطرق الكلاسيكية للتعبير من خلال الصورة هو الجدار السميك الذي يعمل ضد السينما. ذلك أن التعبير بالصورة كلغة لا تشبها اللغات الأخرى، يبدأ أساسا من التأمل في اللقطة كوحدة فيلمية غير قابلة للتجزيء، والتي يتأسس عليها الفيلم على نحو ينفي نفسه باستمرار. يقول الطريبق: «إجرائيا حينما نتحدث عن الصورة نعني إحدى مكونات اللقطة أو محتوى الإطار (الكادر) من ألوان وإضاءة وأشكال وخطوط».. كما أن «الاشتغال على اللقطة يخض لمستويين: أولا العمل عليها كوحدة سردية، وثانيا الاشتغال عليها وكأنها الوحيدة في الفيلم، أي أن تكون مستقلة من ناحية المعنى والشكل، وكأنها فيلم قصير في حد ذاتها». وبالطبع، فإن هذا الوعي الكبير باللقطة، يستتبعه التأمل في التقطيع المشهدي والإشارات والرموز والعلامات والكادرات والموسيقى والألوان. وهذا يعني أن مفتاح التحكم في اللغة يقتضي الدخول، عن عمد، في لعبة التركيب وإعادة التركيب، لغاية إغناء التجربة السينمائية كتجربة مشرعة على الأسئلة الكبرى للإنسان.
لقد فضل الكاتب بدل أن يحكي عن متاعبه المهنية مع المنتجين والاستديوهات والممثلين ومدراء التصوير، أن يدخل في مبارزة فكرية مع اللغة السينمائية، مع الصورة والفضاء و»خارج الحقل» والإغراء الاستعراضي الناتج عن الرغبة في الإبهار.. إلخ، وأن يقدم لنا نموذج المخرج المثقف الذي يتقاسم معنا رؤيته من الداخل للسينما. ذلك أنه لم يأت بها من الكتب، ومن التنظيرات التي تتيحها كتابات أندري بازان وجيل دولوز وإدغار موران وجان روش وجون لوك غودار.. إلخ. وهذا ما أتاح له الابتعاد عن الاستغراق الوهمي في الإبهار، ذلك أن الصورة، كما يقول، تتأسس بالدرجة الأولى علي الاختيار الفني ومدى انسجامه مع باقي العناصر المكونة لأجواء الفيلم، وليس على وجهة نظر التي تجعل منها «صورة جميلة» أم لا، «لأن الصورة الجميلة لا تَضمن فيلما جميلا، وإلا لكانت الأفلام الإشهارية تحف فنية بدون منازع. إن ما يميز الصورة السينمائية هي أنها سردية أي أنها تحكي ومساهمة في خلق المعنى (…) هذا ما يجعل مديري التصوير عموما يفضلون الاشتغال على أعمال فنية بدون إضاءة إضافية، وبدون أي تجميل أو تأويل للواقع، وأيضا باستعمال أقل الوسائل التقنية، وذلك لخلق شروط عمل يطبعها التقشف والاقتصاد، مما يدفع إلى البحث أكثر عن حلول فنية قد تكون عَامِلا في اكتشاف إمكانيات جديدة».
إن الحديث عن الصورة، ثابتة كانت أم متحركة يستلزم عينا تعي جيدا مقولة باشلار الشهيرة «أرى العالم كما أنا»، كما تعي أن تصوير لقطة سينمائية ما يعني أولا معرفة الواقع المصور، معرفة مكوناته وآليات تطوره للقدرة على تخيل خطة عمل لالتقاطه، وإعادة صياغته، وتحويره بالشكل الذي يبلور رؤية ما للعالم. وهذا ما يجعل الفيلم فعلا تبادليا ما بين الصورة وموضوعها، علما أنه ينبغي التمييز بين ما يظهره الفيلم كلغة سمعية بصرية وبين الموضوع الذي يرتبط بالسرد التخييلي، وفعلا تبادليا كذلك ما بين الصورة والمتلقي داخل علاقة ملموسة ومرتبطة بالواقع، وداخل سياق ايديولوجي واجتماعي معا.
إن هذا الكتاب الذي يقترح علينا فهما عميقا للغة السينما، يدرك أيضا أن العين مجرد أداة داخل كل مركب، فنحن نرى أيضا بدماغنا أكثر مما نرى بعيوننا؛ ولعل هذا ما تطرحه لعبة «الحقل» و»خارج الحقل»، التي خصص لها المؤلف حيزا كبيرا. ذلك أن «الغائب واللامرئي له سلطة المجهول اللذي يحفز الخيال، لأننا لا نستطيع أن ننتج صورة عنه نهائية، الشيء الذي يغري الفكر ويجعله في حركة دائبة». فالغائب هو ما يقع خارج حقل رؤيتنا، وما ينفلت من الإدراك وما يجعلنا نعي تعقيدات الواقع واستحالة القبض عليه، حيث أننا يجب أن نسلك مسارا يشبه المتاهة، وأن نضيع في الطريق، ولو مؤقتا، حتى نغير نظرتنا للعالم، للإمساك به ولو جزئيا أو على الأقل أن نتوهم ذلك».
إن الرؤية، بالمعنى الذي تجسده لعبة «الحقل» و»خارج الحقل»، تتحقق من خلال ثلاثة مستويات (بصري، كيميائي، عصبي)، إذن تصبح الصورة بدورها موضوعا إشكاليا؛ فهي «ليس ما أرى»، بل ما سبق رؤيته، لأن «ما أرى» هو أصلا في ذهني، فأنا لا أرى موضوعا ماديا، بل آثارا ناجمة عن ذلك في ذهني، حسب تعبير روسل.
وإذا كانت الحركة هي الخاصية المميزة للصورة السينمائية، ومنها تنحدر عناصر أو ركائز تقطيع الصورة، فإن اللقطة (مدة اللقطة، سلم اللقطة، المونتاج، علاقة الصور بالأصوات) هي أهم وحدة في التقطيع السينمائي أو الفيلمي، حتى وهي لا تستجيب دائما لسجل الصوت الذي يتعداها الى المشهد أو المقطع. وهذا يلزم السينمائي بأن يجعلها تأخذ وقتها في الظهور وأن نحس أنها تجربة نادرة لن تتكرر، أو على الأقل ينبغي عدم تكرارها على النحو نفسه.
وفي السياق نفسه، يبتعد بنا محمد الشريف الطريبق عن سيادة التمثيل التماثلي بين الصورة وبين نموذجها. فنحن في السينما لا ننسخ العالم المرئي لنبقي عليه كما هو. إننا لا نؤرخ، كما أن الصورة ليست حقيقية. إنها مجرد صورة داخل بينة مغلقة من الصور التي تحكي حكاية. وهذا ما جعل إدغار موران، على سبيل المثال، يرى أن «السينما هي صورة عن الصورة، تتقاطع مع الصورة الفوتوغرافية في كونها صورة للصورة المدركة، وتتميز عنها بكونها صورة متحركة، ولما كانت السينما هي عرض لعرض آخر وجب التفكير في متخيل الواقع أو واقع المتخيل وعيا منا بإمكانية اختزال الصورة في حضور غياب الموضوع»ـ
ومع ذلك، تظل الصورة الفيلمية مماثلة على مستوى المعروض لصور الوعي المباشرة التي يحمله كل واحد منا عن الموضوع، أما على مستوى العرض فهي بمثابة أشكال مبنية ومحينة يتوحد داخلها الدال والمدلول. وهذا معناه أن الصورة، بالنظر إلى وجودها كعلامة، قد تفتقد أحيانا إلى وجودها الخارجي، لأن مرجع المعروض هو، في العمق، عملية العرض ذاتها. وهذا ما يسمح لنا بالقول إن السينمائية تنأى عن الواقع، لأنها في الأصل علامات مختارة ومنتظمة من طرف مبدع الفيلم. ومن ثمة، فإن مانراه، في هذا المستوى، ليس واقعا، وإنما هو خطاب هذا المبدع حول الواقع. ولهل هذا هو المنطق الذي واجه به غودار السينمائيين الذين يعتقدون واهمين أن للسينما وظيفة أخلاقية ورسالية وسياسية، لأن هذا بالفعل هو ما يجرد السينما من سينمائيتها ويخرجها من دروها الحقيقي.
لقد استطاع الشريف الطريبق، من خلال هذا الكتاب المتميز أن يجعل القارئ جزءا من الإطار السينمائي بلغة لا يغيب عنها التحليل الذي يميز بين الصورة السينمائية التي لها وجود مادي وتقني مستقل، وبين الصورة الأدبية التي لها وجود ذهني، وذات وظيفة بلاغية أساسا، حتى وإن كانت السينما، كفن مستقل، قد استطاعت أن تصنع بلاغتها الخاصة أيضا.
تحدث الطريبق في هذا الكتاب عن علاقة المعمار المغربي بالسينما، وعن علاقة السينما بالأخلاق، وعن جماليات خارج الحقل، وعن كتابة السيناريو، ولغة السينما والرؤية الإخراجية، وعن السينما ما بعد التلفزيون، وعن تلك الرحلة التي قام بها من أفلام الويسترن إلى عباس كياروستامي، ولكنه جعلنا نصل بهدوء لا يهتز إلى لغة السينما المتقشفة والمقتصدة التي تراهن، أساسا، على أن تضع نفسها وهي وضعية «وجها لوجه» مع الكاميرا بدون مكملات وتفاصيل إضافية في المشهد، حيث إن التركيز ينصبّ على رصد الانفعالات، وأيضا اكتشاف جماليات تقوم على الإيجاز والوضوح والبساطة، من دون افتعال أية ألعاب جمالية خالصة، والمراهنة على الأنسب عوض الأجمل، مثلما نجده في المشروع السينمائي للمخرج الإيراني الراحل عباس كياروستامي الذي قدم «سينما تتميز بأسلوب يوهم بأنه بسيط وسهل لكنه ممتنع، أسلوب متقشف يمزج بين الوثائقي والروائي وبلغة أدق يدمج الوثائقي وفي حالات واقعَ التصوير في المتن الروائي للفيلم ليتحول هذا المزج إلى مكون بنيوي للعمل وللانسجام الداخلي له، أي سينما بنفَس جديد وكتابة مختلفة لكنها في نفس الآن منخرطة في تقاليد سينما المؤلف دون أن تكون نخبوية»، كما يقول الطريبق.
جماليات التقشف أو سينما بنفَس جديد
الكاتب : سعيد منتسب
بتاريخ : 20/05/2017