1
شكلت كتابة الكاتب المغربي محمد زفزاف، علامة فارقة في الأدب المغربي والعربي معا، لذلك قال أحمد بوزفور في حقه:»إذا كنت تبحث عن الكتابة لا الشهرة فسيفيدك كثيرا أن يكون زفزاف أمامك»1، إن هذا الاعتراف الذي قيل من لدن أحد أعمدة القصة القصيرة بالمغرب، يعطينا انطباعا أوليا على أننا أمام كاتب من طينة مختلفة.
نعم إنه محمد الزفزاف الكاتب الكبير، الذي لاتزال نصوصه تحقق في مضمار السرد تألقا يشهد به، رغم أن جثته أكلتها الديدان التي لا تنحني،فقد كان ولايزال من أبرز الكتاب الذين يقرأ لهم خارج المغرب إلى جانب الكاتب محمد شكري، باعتبارهم من أبرز الكتاب الذين تربعوا فوق عرش «أدب الهامش».
ولذلك إنه من المفيد أن يقرأ المرء لزفزاف، لأن كتابته تفيض بمختلف أنواع المشاعر التي تختلج أعماق المسحوقين والمنبوذين، الذين جعلهم زفزاف وغيره من كتاب الهامش يصرخون بأصوات ناقمة وغاضبة في الأدب.
ونحن في هذا المقال، سنحاول أن نسلط الضوء على رواية من روايات زفزاف التي اعتبرها البعض من روائع الروايات العربية،إذ سنقف على سمات وخصوصيات هذه الرواية المأثورة، التي تعتبر من أنضج نصوص زفزاف، وذلك لأنها شكلت مسارا حاسما من مسارات تألق الرواية المغربية الحديثة، إن على مستوى المضمون أو على مستوى السمات.
2
فلو تتبعنا خيوط السرد، فسنجد أن الرواية تصور لنا تجربة محمد الشاب الذي سحقه الفقر، لذلك هاجر إلى إسبانيا هروبا من عنف العطالة،لأن الكتب التي قرأها لم توفر له الخبز،فقد كان يعتقد أن الهجرة إلى أوربا هي الخلاص من حياة الجوع ،التي اكتوى بجمرها في مدينة الدار البيضاء، ولذلك وبمجرد وصوله إلى اسبانيا سيشعر أنه وصل إلى جنة عدن،حيث ستصبح رحلة البحث عن الخبز مجرد ايهام يومن به الكاتب، لكن في الحقيقة محمد كان كغيره من الشبان العرب، تواقا إلى حياة مختلفة عن حياة اليأس التي يتخبط فيها، وهذا ماسيجعله وهو في «طوريمولينوس» يتسكع في(عوالم الجنس، والخمر، والشذوذ، والعبث واللامبالاة…ويظهر أن محمدا قد تحمس، أو ربما كان مهيأ لهذا النمط من الحياة العابثة)2.
ولعل الصورة التي يود الكاتب تثبيتها في أذهان المتلقي باختياره لبطل مهاجر، هي صورة الشاب العربي الذي يهاجر إلى أوربا، والذي يفتتن بإغراءات المجتمع الأوربي(الحرية، الانفتاح، الجنس)،حيث تصبح الفحولة هي مصدر ثقة وقوة وفخر للشاب العربي الفقير أمام أجساد النساء الفتية، أي أنها تشكل له ميزا أمام المرأة الأوربية التي تبحث هي الأخرى عن الدفء الجسدي في أحضان الرجل العربي، إن هذه الرغبة الملحة في إخفاء الفقر وإثبات الفحولة مع الشقراوات، هي التي تظل هاجسا عند محمد وهو في طوريمولينوس، معلنا ذلك بقوله:(سأظل ماشيا وسأخفي رائحة السردين وسأحيي فتيات جميلات وأغازلهن، وسأدعوهن رغم أنني لا أملك سوى عضو أنهكته حرب الاستنزاف من أجل لقمة العيش)3.وليس»المرأة والوردة» وحدها التي ترسم لنا هذه الصورة عن البطل، بل نفسها ترسمها رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، ورواية «موسم الهجرة إلى الشمال» لطيب صالح، حيث فيهما يبوح البطل بنفس الرغبة الغافية.
ويبدو أن البطل في هذه الروايات إنما يبرز شيئا واحدا وهو أن الشاب العربي المهاجر إنما يعيش في أوربا من أجل إنعاش رغبته الجامحة، متحررا من أغلال الكبت التي تقيده وسط مجتمعه العربي…إنها غواية استكشاف الذات والجسد، غواية ظل يخفيها في مجتمع تطوقه مبادئ الدين والأعراف والتقاليد، لذلك وبمجرد وصوله إلى أوربا سيتخذ من العبث واللامبالاة نمط عيش، ولكن رغم هذا العبث واللامبالاة والحرية المطلقة التي يعيشها في مجتمع أوربي منفتح، إلا أن الشاب العربي المهاجر يظل مقهورا تحت وطأة الغربة، وهذه الغربة القاتلة كانت من المواضيع التي طرحها زفزاف في «المرأة والوردة» حيت يقول على لسان محمد:(بدأت الأصوات النسائية المعتادة ترتفع وتتشابك. الرجال والنساء، والنساء والرجال. شعرت أنني واحد منهم في هذه اللحظة بالذات. شعور لم يكن عندي أبدا في السابق. الآن فكرت في شيء. كل واحد مثلي مهاجر، سائح، أو لص، أو لوطي. أنا مهاجر، نفسيا وكل شيء. لم يكن عندي شعور بالاستقرار أو الأهمية. لكن مع ذلك، أنا واحد منهم…)4.
إنه شعور لازم تفكير محمد رغم ما يعيشه من لذة في عوالم الحب والخمر والجنس، فالكاتب كأنه هنا يود التأكيد على أن الشاب العربي المهاجر قد ينسى عطالته وسط تلك العوالم المغرية، إلا أنه لا ينسى أنه يعيش وسط مجتمع يهدده بالعنصرية، فهو في نهاية المطاف يبقى غريبا لأنه يتواجد خارج حدود وطنه.
3
إن ما طرحناه لا يلامس إلى الجانب الموضوعاتي للرواية، لكن هناك جانب آخر يفتح أمام القارئ رحاب الفكر والتأمل وهو الجانب المرتبط بالسمات والخصوصيات التي تميز «المرأة والوردة» والتي من خلالها يمكن للقارئ النموذجي إدراك مدى وعي زفزاف بتحولات الكتابة السردية الروائية، فإذا كانت جوليا كريستيفاJulia kristeva قد اقترحت مصطلح التناص للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين النص الواحد والنصوص الأخرى، حيث ترى أن كل نص عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، فإن زفزاف مثله مثل الكتاب الكبار راهن في «المرأة والوردة» على تقنية الميتاقص كتقنية أصبحت تميز النصوص الحديثة، حيث أصبحت هده النصوص(تقيم السرد على فاعلية المثاقفة وحوار التجارب والنصوص والإحالات الثقافية والمعرفية)5،وهذا النمط من السرد يكون متفاوتا بين نص وآخر.
وفي نص»المرأة والوردة» يتبين بجلاء أن هذا النص يحيل إلى مجموعة من النصوص بدءا من تحول محمد وسوز إلى حشرات(صرنا أنا وسوز حشرتين كبيرتين ضخمتين. ولكي لا يبقى هناك نشاز أخذنا نضحك ونتفرج على الفترينات ونتبادل الرأي في معروضاتها… قالت سوز وقد تحولت إلى حشرة كبيرة ضخمة)6.
إن شكل هذا التحول يذكرنا برواية «المسخ» لكافكا، حيث إن البطل فيها يتحول إلى حشرة بعد أن كان إنسانا عاديا، وأكيد أن زفزاف استفاد من هذه الرواية، وهذا يعني أنه وهو يكتب كان يلازمه سؤال الكتابة المنفتحة التي تستفيد من مختلف التجارب الأدبية الأخرى، باعتبار أن الأدب ارث إنساني.والاستفادة من هذا التحول لا يقف عند رواية «المسخ»، وإنما يمكن ملامسته من خلال نص روائي آخر محوره الرئيسي يتجلى في رغبة البطل في التحول مثلما يطمح محمد وهو يردد:(أنا-رجل، إنسان. لكن أحاول أن أصير إلها، هل هذا ممكن؟
المرأة: -إن الألوهية شيء صعب وعسير على أمثالك. انظر هذه الأزهار مثلا. كانت آلهة فصارت أزهارا. الآلهة تتحول إلى شيء بينما الأشياء لا تتحول إلى آلهة.
أنا: -(تربعت جيدا، وضعت كفي على ركبتي وقلت)
أيتها المرأة البدينة وأنت، من أنت؟
المرأة: -أنا سوز، امرأة من الدانمارك. عندنا قصور قديمة مليئة بالجرذان والسحر والتعاويذ وقد جئت لأنقدك.
أنا- وهل هذا ممكن؟ لقد رغبت في أن أصير إلها فقلت إن ذلك مستحيل.
المرأة- نعم.
أنا-وما هو هذا الشيء غير المستحيل؟
المرأة: -تطلب شيئا آخر، كأن تتحول إلى زهرة)7.
لعل هذا المقطع يمثل مشهدا مختزلا لرواية» الحمار الذهبي» للوكيوس أبوليوس، حيث تحكي الرواية عن رغبة الشاب لوكيوس (بطل الرواية) في عيش تجربة التحول بعد أن شاهد بامفيلا الساحرة زوجة ميلو البخيل (الذي استضافه في بيته) وهي تمارس طقوس السحر والشعوذة، وقدرتها على التحول إلى بومة إن هي دهنت جسدها بمرهم سحري، ولما مكنته فوتيس(خادمة بامفيلا) من ذلك المرهم، تحول بالخطأ إلى حمار.
وعلى هذه الرغبة الملحة للوكيوس في التحول اشتغل زفزاف في المقطع السالف الذكر، وفي الحقيقة إن هذا التحول الذي يوحد رواية «المسخ» ورواية»المرأة والوردة»إنما تعود جذوره إلى رواية»الحمار الذهبي» باعتبارها أول رواية عرفها التاريخ كما قيل،أي أن كافكا هو الأخر استفاد منها في روايته مثلما استفاد منها زفزاف.
لقد شكلت رواية»المرأة والوردة» بؤرة لالتقاء مجموعة من النصوص الأخرى، والتي استثمرها في اشتغاله، فجعل كتابته تقيم حوارا معها ، وتتفاعل معها أدبيا،وتتواصل معها فنيا، ما حقق لها نضجا أدبيا، وبلاشك هذا الاشتغال يورط القارئ في عملية التأويل، ويحثه على قراءة الرواية قراءة متأنية،متأملة، و دقيقة، و فاحصة، فروايته هذه كتبها (في أجواء ثقافية غريبة تميزت بحركات التمرد، والهيبية، وتأثيرات الفلسفة الوجودية. كان لكل تلك الأجواء صدى واضح في أساليب الكتابة والتفكير والسلوك لدى عديد من شبان العالم الثالث ومبدعيهم بمن فيهم بعض الكتاب المغاربة، وبإمكان الملاحظ الذي عاش فترة الستينات وما بعدها في كثير من بلدان العالم العربي أن يسترجع أصداء الموجة الوجودية والعبثية)8، التي انعكست على الأدب والفن.
وفي هذا المقال لا يهمن الحديث عن تلك الحركات بقدر ما نتطلع إلى أن نرى كيف أسهمت سماتها «العبث واللامبالاة واللامعقول واللاوعي» في إعطاء خصوصية لهذه الرواية التي تنضوي في مقاطعها على أثر تلك السمات.
نسوق من تلك المقاطع مقطعا يحاول فيه محمد أن يحاكم نفسه داخل محاكمة متخيلةوهو يقول: (في غرفتي الضيقة القذرة في فندق”الشاون” تمددت في فراشي وأنشأت لي محاكمة تاريخية تحاكمني، ومثلت أمام أعضائها الذين كانت الشرطة تنضم إليهم. وهكذا بدأت المحاكمة عملها في تلك الليلة وبصفة سرية، وتوالت الأسئلة والأجوبة)9.
ومن خلال هذه المحاكمة الافتراضية، نتذكر المحاكمة الكافكاوية في رواية”المحاكمة” حيث إن جوزيف ك (بطل الرواية) يتم اعتقاله ومحاكمته على جريمة لم تكشف عنها الرواية، ومن آكد الأشياء أن هذه المحاكمة المفترضة خضعت بدورها لتأثير العبث على سيرورات المنطق التي توجب تصوير محاكمة معقولة و شاملة عند كافكا وكذا عند زفزاف.
وفي ضوء هيمنة هذا العبث، كان محمد في “المرأة والوردة” غير مبال، ولا مكترث للقيم والدين، حتى أنه لم يخف سخريته من الطقوس الدينية التي يمارسها أهله، فهو لم يتورع في اعتبار ممارسة الطقوس الدينية مجرد ممارسة غريزية حيوانية، كما أنه لم يتحاشَ اخفاء إلحاده أمام سوز عشيقته الدانماركية الملحدة بدورها،ولا يختلف أحد في اعتبار هذا الموقف من الدين إنما نابع من لا مبالاته مثلما هو الشأن مع مورسول (بطل رواية) “الغريب» لألبير كامو، الذي حكم عليه بالإعدام لا لارتكابه شرا، وإنما لعدم مبالاته بوفاة أمه واستهتاره بالطقوس الدينية التي تنظم تشيع الجنازة.
من خلال ماسلف يمكن أن نستشف بجلاء أهمية هذا التماهي الأدبي الذي تأسست عليه رواية”المرأة والوردة” حيث إنها شكلت مجالا خصبا للإشارات التي توجه القارئ إلى عدد من النصوص العربية والأجنبية.
إنها صنعة زفزاف الكاتب الكبير، الذي استطاع في هذه الرواية أن يطرح مجموعة من المواضيع مثل: الهجرة، والغربة، وصورة الأنا في مرايا الأخر. كلها مواضيع طرحها في رائعته” المرأة والوردة” بلغة شفافة، نخال أنها عادية، وبسيطة، لكنها في الحقيقة لغة مجازية، تنحو نحو الاقتصاد، والتكثيف، لغة تضم في عمقها مجموعة من الإيحاءات الرمزية.
هوامش:
محمد زفزاف صنعة الكاتب،(تأليف جماعة من الأدباء والباحثين، إعداد وتنسيق: أحمد المديني)،منشورات المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، الطبعة الأولى 2018،ص21.
نفسه،ص 45.
محمد زفزاف، المرأة والوردة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى 2007،ص93.
نفسه،ص 84.
المرجع السابق،ص96.
المصدر السابق، ص 41و42.
نفسه، ص 74 و75.
المرجع السابق،ص44.
المصدر السابق، ص 107.