مظاهر التطور والاختلاف في مجموعة «ضرع لا ينضب»

تنضاف مجموعة «ضرع لا ينضب» القصصية لرصيد لحسن حمامة السردي ، فهي المجموعة السادسة والإصدار السابع الذي استأنف فيه الكاتب مغامرته الإبداعية في جنس ظل وفيا لإغراءاته وغواياته لأكثر من أربعة عقود بعد استراحة محارب في منجز مغاير موسوم ب «سدول ومياه سدم» وهي تجربة بطروحات وأبعاد سوسيو ثقافية تعكس هموم وانشغالات الكاتب بقضايا ذات طابع اجتماعي وثقافي…ظلت منخرطة في صلب اهتماماته الفكرية والإبداعية ، بل ساهمت في تأسيس وبلورة رؤية غنية بزخم إبداعي يروم التغيير والتبديل من خلال جنس القصة القصيرة بما تتيحه مكوناتها التعبيرية و الجمالية ، وأبعادها الدلالية من آفاق تتغيا استشراف عوالم ترهص بالتغيير والتحول للقطع مع زمن الركود والجمود.
ففي هذه المجموعة تتعدد « التيمات»، وتتنوع تجلياتها وامتداداتها لتضفي على المسار السردي للكاتب ثراء معرفيا، وعمقا في الرؤية تؤشر على صيرورة إبداعية موسومة ببعد المقصديات، ورحابة الآفاق.
فعلى المستوى الاجتماعي يوظف شخوصا من قبيل القائد العلاوي، و» الكوميسير» عبد المنعم بما يجسدانه من رمزية حبلى بامتدادات حافلة بأنماط سلطوية تروم التدخل السافر في مختلف شؤون تدبيرالحياة العامة برسم خريطتها، وتحديد توجهاتها وغاياتها: «ابتدر الكوميسير الحديث وقال: أستدعيه وأهدده بما يوجد في ملفه…أو أطلب من معاوني أن يضعوا في سيارته الحبوب المخدرة…» ص: 32،أو سلوكات القائد العلاوي الذي لم يستسغ إحالته على التقاعد الذي سيحرمه من كرسي السلطة بامتيازاتها السخية وما ترسخ لديه من نزعة استحواذ باتت أكثر تجذرا في فكره وكيانه: «أن الكرسي بأوامره ونواهيه سيضيع مني ، ولن يعوضه ولا مال قارون» ص:19، وأيضا في البوح بعلاقات تكشف عما يطفح به المجتمع من آفات وأعطاب :» لم يعد ذلك المخبر المتعاون…وعن تأخره في دفع المساهمة التي يجمعها من بائعي الحشيش والقرقوبي وماء الحياة والسجائر والكحول المهربة»ص: 23 وصولا إلى ظاهرةاغتصاب الأطفال التي أضحت تستشري بشكل رهيب في محيط مجتمع تفاقمت أعطابه، وتضاعفت اختلالاته :»كل صباح ينتشر خبر من أحد الأحياء عن اغتصاب طفل أو طفلين…» ص: 76.
وقد وظف الكاتب في أضمومته «تيمات» منحتها غنى وعمقا بانزياحات ذات طابع غرائبي:» أنا غير مرئي. أنا حر داخل هذه الغابة المتوحشة»ص: 9، وأيضا من قبيل:»ومما زاد هذا الاعتقاد رسوخا هو ذوبانه واختفاؤه المفاجئ» ص: 76.ثم ما يفتأ في الجنوح نحو منحى أسطوري بحمولات ميتافيزيقية:» جعلت الجميع يعتقد بانتسابه إلى القوى الخارقة» ص: 76حينا، وعقدية بامتدادات غيبية أحيانا:»أما الأموات فيخرجون زرافات وجماعات ملفوفين في أكفانهم» ص: 42. كما خلع على كائنات أسطورية مسوحات إنسانية خولت لها إغناء المتن القصصي كأطراف مؤثرة ومساهمة، بشكل أو بآخر، في خلخلة سيرورة إيقاعه والنزوع بها نحوحالات ومشهديات تشذ عن المألوف بمواضعاته الإبداعية، وأعرافه السردية: « الغيلان التي تتحرك من مواضعها وتتجاذب الحديث فيما بينها… من ساعدني على تذويب بعض مخاوفي وهواجسي المتعلقة بالجان والعفاريت وظهور الموتى…» ص: 42، لينتقل إلى كائنات أخرى كالأشجار التي يرقى بها لمقام يعج غرابة وإدهاشا: « الأشجار تتحرك من أماكنها، وتتحدث كما يتحدث البشرفي سائر الأيام؟» ص: 42.
ولا يفوت الكاتب الكشف عما يعتور المشهد الثقافي من هنات واختلالات تكرس تغييب النزاهة، وتحييد الكفاءة والصدقية في التعاطي مع المنجز الإبداعي على مستوى التقييم والنشر: « احتار أين سيرسله لينشر. فالجريدة الفلانية لا تنشر إلا لمنخرطي حزبها، أما مجلة [الحداثة الشعرية] فلا تنشر إلا لهيئة تحريرها» ص: 51.
ولإغناء نصوصه وشحنها بزخم من رؤى تستشرف آفاقا مغايرة، وتتطلع لضفاف تجللها الزئبقية والتمنع توسل القاص بالحلم:» استيقظت مذعورا. فتحت عيني فركتهما مرارا…» ص: 14. حلم تتجدد أمداؤه، وتتنوع غواياته عبر امتدادات عصية على الاستنفاد والتحديد:» أحسست بيد زوجتي تلكز خاصرتي، وتصيح غاضبة…استيقظ» ص:47.
كما لا تخلو الأضمومة من سرد الأحداث وتصويرتطوراتها عبر سيرورة تفاعلاتها وما تختزله من تجاذبات وتنابذات من خلال ثوابت بنيوية تفرزها أشكال سردية ك»المونولوغ»: « قلت لنفسي: أنا الآن محاصر، فلمن أكون وجبة شهية؟ «، أو « الديالوج:» «قـ أهلا وسهلا. كيف الأحوال؟ ـ أنت تعرف أن الانتخابات على الأبواب « ص: 29 .
وللأمكنة كذلك حضور « نوستالجي» في ثنايا النصوص حيث ينبش القاص في أضابير ماض يزخر بزخم من وقائع تسطو على ذاكرته، وتتغلغل في ألياف وجدانه بتوهجها الدائم وألقها الباذخ من خلال حاضرة فاس بسحر أماكن ضاربة في عمق زمن تجلله هالات عشق أزلي، وتوق لامتناهي من قبيل: ساحات العرصة والمخفية والبطحاء والطالعة… والتي تصل الكاتب بمراحل عمرية تختزلها سنون الصبا واليفاعة وما كانت تعج به من آمال عريضة وأحلام بعيدة.
ولا يقتصر اجتراح القاص لوقائع تمعن في الفرادة والاختلاف على المستوى السردي فقط بل يتجاوزه لتدخل يكسر نمطية القص وانتظام محكياته عبر صوت أحد الشخوص الذي يتحول إلى طرف ممسك بدفة الحكي وموجه لبوصلته: « هذه المرة لن أترك للراوي/ الكاتب سلطة السرد والحكي عني» ص: 82. بحيث عمد الكاتب إلى الانزياح عن تقليد راسخ في موروث المواضعات السردية، والزوغان عن سلطة ثوابته، ونظام تقاليده وشروطه القصصية والمعرفية.
وأخيرا فأضمومة « ضرع لا ينضب» تغني مسار لحسن حمامة القصصي بما تحبل به من نصوص صادرة عن رؤية تروم تطوير الأشكال السردية لدى الكاتب عبر ما ترسمه من آفاق مغايرة ومقاصد مختلفة يصعب الإلمام بجوانبها المتعددة، ومقاربة أبعادها المتشعبة في قراءة محدودة ومقتضبة.


الكاتب : عبد النبي بزاز

  

بتاريخ : 13/04/2019