الآن ترحل ….فجأة ترحل ….هل تعبت ؟! أنت طلقت التعب يوم ولدت …أنت لم تشك التعب أبدا …ترحل وتترك أهلك، إخوانك، أصدقاءك …تائهين حائرين …الصدمة كبيرة والفاجعة أكبر…
الرجال لا يموتون …العظماء لا يموتون…
نعم لم تمت ولكن ساهمت في اقتلاع الموت من وطننا … ساهمت في التحرير والاستقلال
… في الحرية والبناء …ساهمت في شق الطريق، توضيح الرؤية وبناء المسار…
لما نطقت ..لما بدأت الكلام ؛ قلت “لا” … لاللاستعمار …لا للذل والهوان …لا للقمع والاستبداد…لا للعار والخذلان …لاللنفاق والكتمان …لا للخيانة والنسيان …
قلت لا للموت …امثالك لا يموتون …احياء في التاريخ بل التاريخ حي بهم
ترحل بيولوجيا لتفرض حضورا أقوى …فأنت الحضور ، بالامس واليوم وغدا …
وجودك كان له معنى …لم تأت إلى هذا العالم زائرا …لم تكن مؤقتا …بل أتيت فاعلا وخالدا …انك مقاوم …إنك وطني أصيل …
اعلم انك اختفيت ولكنك لم تمت
هل نبكيك ؟! وهل البكاء قادر على إطفاء النار التي اشتعل لهيبها في كياننا لحظة علمنا بخبر رحيلك عنا ….لا …لن نبكي لانك لم تنته بل بدأت …كنت البداية دائما …ستستمر …ستخلد…ستستمر في كل من يؤمن بالمغرب بلدا حرا وناميا…ديموقراطيا وحداثيا…في كل من عرف انك كنت تزرع الابتسامة …
اليوم يتعطل البكاء …جئنا لا لنودعك ونبكيك ، بل لنقدر ونعتبر الخسارة الكبرى التي لحقت الوطن ….
اعرف انك قد اختفيت ولكنك لم تمت
نعم لم ولن تموت …تغنيت بالحياة …تغنيت بالحرية وعلمتها لنا اغنية حلوة وجميلة …سنحلم ونحلم ..وطني وطن الجميع …وطن الكرامة والعدالة …
اعلم انك اختفيت لكنك لم تمت
مسارك مسار وطن
البحث في سيرة المقاوم الشامخ بنحمو كاميلي يحيل مباشرة إلى البحث ايضا في تاريخ المغرب الحديث، ويكشف عن التناقضات غير المفهومة التي أفرزتها البلاد طيلة هذه المدة، فهو الذي قاوم الاستعمار وانخرط في صفوف معركة البناء الى جانب الراحل محمد الخامس رحمه لله، ثم قاد بمعية كل من عبد لله ابراهيم والمهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي وغيرهم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية اكبر حزب معارض في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال ، وهو الذي جر عليه الكثير من المتاعب والمحن والاعتقال والحكم الغيابي بالاعدام لأكثر من مرة…
الشرعية الوطنية والتاريخية
ينتمي بنحمو الى جيل “الحركة الوطنية” الذي رسم ولا زال يرسم الى اليوم علامات وضاءة ليس من السهل أن يأتي الزمان بها، فهو جيل القيمة والقوة الفاعلة الذي حقق معه المغرب الشيء الكثير ، بل إن المغرب قد ضيع فرصة الاستفادة من قوة ذلك الفريق ،على اعتبار أن حصيلة ما تحقق اليوم ، هي دون الذي كأنت تعده به امكانات وقدرات تلك النخبة المناضلة…
من هذا الجيل الوطني اذن ،الذي كان يضم شخصيات متعددة المشارب والاتجاهات والتصورات، محمد بنحمو استمد ، وسائله واغراضه وأدواته السياسية ، فالرجل يختزل مرحلة كاملة من تاريخ المغرب ….
لقد وعى بنحمو”على أسرة ترعرعت في مدرسة سياسية وطنية، انها “مدرسة الحركة الوطنية “، التي تركت للتاريخ واحدة من أجمل واحسن التجارب النضالية، هي تجربة “ثورة الملك والشعب”، الثورة التي خط بها أحرار المغرب بزعامة الراحل محمد الخامس، معنى لنضال الدولة والشعب، من أجل مطلبين فقط هما الحرية والاستقلال، ثم الديموقراطية والحداثة، وهما المطلبان الذين تم تضمينهما في وثيقة 11يناير 1944، التي تعتبر ميثاقا وطنيا بين الحركة الوطنية ومحمد الخامس، وبرنامج عمل وطني وسياسي مغربي محض، مما أثار حنق الامبريالية التي كأنت ممثلة في كل من فرنسا واسبانيا ومهد للمواجهة التي قادت إلى شن اعتقالات وإعدامات ونفي في حق الوطنيين، ثم عزل الملك محمد الخامس عن السلطة ونفيه الى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر.
المقاوم محمد بنحمو احد مؤسسي جيش التحرير….ساهم بقوة في انتفاضة 1959 بتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية …كان حاضرا بقوة في انطلاق الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ….مؤسس للجمعية المغربية لحقوق الإنسان…. تعرض بنحمو للاعتقال وحكم عليه بالإعدام من طرف الاستعمار الفرنسي باعتباره مقاوما بارزا ضمن منظمة اسود التحرير، زعيم خلية ” منظمة اليد السوداء ” التي كبدت الاستعمار الفرنسي خسائر كبيرة …. وجاء الاستقلال، ظل بنحمو وفيا للمبدأ، وفيا لاختياره؛ بناء ديموقراطية حقيقية …وكان ثمن هذا الاختيار؛ الحكم بالاعدام؛ الاعتقال في زنزانة لمدة تفوق 14 سنة …وكان إطلاق سراحه سنة 1976. ظل المقاوم محمد بنحمو محافظا على مسافة من السلطة، يعيش حياة المروءة والكرامة، قبل أن يتدهور وضعه الصحي بشكل مفاجئ لتنقله أسرته لمستشفى الشيخ خليفة الجامعي بالدار البيضاء …جلالة الملك تكفل بعنايته المولوية بعلاج بنحمو الكاميلي طيلة المدة الأخيرة لحياته، تقديرا من صاحب الجلالة لأسرة المقاومة وجيش التحرير…
اعلم انك قد اختفيت لكنك لم تمت
مسار مكتوب بالعذاب والألم ….لقد صنع بنحمو مسار حياته، مقاومة بنضال، اعتقالا باعتقال، سجنا بإعدام
مسار مكتوب بالألم لكنه موشوم بالعزيمة
القوية …موشوم بالصمود والصلابة …وهذا ما تشهد به تواريخ اعتقال بنحمو، وأرقام زنزاناته ، وعدد وقفاته في الأقفاص وراء الشبابيك …برباطة الجأش قاوم جدران السجن ، وغالب القضبان والحديد …وانتصر على الموت والإعدام …واجه زوار الليل والجدران البليدة لسجون مغربنا الناهض …أبهر الجلادين بصموده وقدرته على احتقار التعذيب …لبس كل البذلات الزرقاء …حمل كل الارقام الباردة ….صراخ الأبواب …فرقعات المفاتيح …ضجيج الاقدام ….استنطاقات بوليسية مؤلمة …جوع وعطش …سب وشتم …كل هذا لم ينل من صموده شيئا ..قوي لا ينكسر ..
اعلم انك قد اختفيت لكنك لم تمت
تاريخ غني وحي ….مسار شاق وعسير …وطني ومواطن…مناضل ديموقراطي…اتحادي اشتراكي…كلمة واحدة في حقك يا بنحمو وأصير ملقحا ضد كل نزلات الخيانة والانحراف…فالرجل أنت والصدق فيك …والنبل ولد معك…انك وطني مقاوم …انك اتحادي أصيل…
اعلم انك قد اختفيت لكنك لم تمت
“ما هموني غير رجال إذا ضاعوا ….” لا ثم مليون لا، الرجال لا يضيعون …الرجال لا يموتون … واخيرا ترحل، ترحل عنا، ترحل فجأة …لن نبكيك …فأنت علمتنا الامل والتفاؤل…. علمتنا كيف نحيا …علمتنا الصمود والكبرياء لنعيش ” منتصبي القامة مرفوعي الهامة “…
نم مطمئنا يا بنحمو ، المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس ينمو ويتقدم مستلهما قيم الوطنيين والمقاومين …المغرب بخير بفضل نضالاتكم وتضحياتكم
” السلام عليك يوم ولدت …ويوم قاومت..ويوم تبعث حيا “