سوق عكاظ عاد إليك من جديد

محمد الزياني (*)

عكاظ ذلك السوق التاريخي الذي يحمل أكثر من دلالة حضارية و ثقافية، كما يعبر عن حقبة كان الإنسان العربي فيها يهوى الكلام و يحب التلاعب باللغة الفصيحة من حيث رسمها و بيانها. أن يعود من جديد منطقيا هو ضرب من الخيال، لعدة اعتبارات لعل أظهرها أننا لم نعد بتلك الوجاهة واللغة الرصينة البالغة الرسم و التخطيط، أما أن إنسان اليوم لم يعد يربط السوق بالثقافة أو اللغة والشعر الذي يحتفي به العالم هذه الأيام. لكن عودته اليوم جاءت في قالب سيء يعبر عن البؤس الواقع اليومي المغربي. الأحداث السياسية الأخيرة لتسارعها وغرابتها جرت علينا الكثير من الظواهر الاجتماعية والنفسية الشاذة، بالخصوص في المجال الإعلامي، إذ أننا أصبحنا نسمع لغة غريبة وسيناريوهات لا إخراج جيد لها. بالنظر إلى ان أصحابها و للأسف لم نعد نعرف من أي كوكب هم قادمون. مع غرابة تخصصاتهم التي قد لا نصادفها إلا في وطننا الحبيب، كما لا علم لنا بالمدارس و المعاهد التي تنتج هذا النوع من التخصصات الوباء و الطفيلية. خبير جيواستراتيجي أو خبير إستراتيجي خبير في العلاقات الدولية و الجماعات الإرهابية، كلمات و أسماء لم يستطع حتى الحاسوب التعرف عليها لغرابتها، لست أدري هل هي ترجمة خائنة لكلمات يونانية أم خلطة سحرية مرتبطة بعصر الفراعنة؟ كما من حقنا نحن من نتابع و نستهلك برامج التحليل السياسي أن نتساءل، عن المدارس و المعاهد التي تقدم هذه الشواهد العلمية التي تكتب على الشاشات أو تسمع عبر الأثير؟ قد تكون المعلومات التي صرفت لنا في الجامعات قديمة ومتهالكة، لكنها بالكاد رصينة وعلمية الشيء الذي يحير بالفعل بين ما يقدم في الجامعات و ما يستهلك من كلام فارغ في الإعلام الذي يفترض فيه أن يكون حامل لرسائل أخلاقية وثقافية راقية. إذ من المفترض من المحلل المتخصص في مجال معرفي معين العودة دائما في تحليله إلى مراجعة و نظريات ذات جدوى عوض تسويق نماذج مشوهة لإعلام الأخر. سوق عكاظ هذا الذي عاد إلينا من جديد مثل عودة الكابتن ماجد عندما كنا صغار، حمل لنا ظاهرة أخرى غريبة أقل ما يقال عنها أنها بدعة أهل الفراغ، إنهم رؤساء مراكز البحث على اختلاف أشكالها و تخصصاتها، بحيث نصادف في الأغلب فقط الرؤساء في الشاشات كل صباح و مساء، دون مراكز واقعيا إذ أن الدستور يكفل للجميع حق تأسيس جمعية تسميتها حسب هواه كما قد يطلق احدهم أسما غريبا على ابنه أو صفحته الاجتماعية. فهذا مركز دراسات إفريقيا و الشرق الأوسط و شمال أفريقيا و جزر القمر و اوقيانوسيا و أمريكا الجنوبية و شبه جزيرة الواق واق… لكن يحق لنا أن نسأل هؤلاء الرؤساء عن أبحاثهم و منجزاتهم العلمية واقعيا عوض كلام يحسبه الجاهل علما. كما يحق لنا أن نعرف عن ندوات و ورشات هذه المراكز لان أهداف تأسيسها ليس السكن الدائم أو المؤقت أمام أعين المشاهد بل فتح نقاشات و معالجة ظواهر و تقديم بدائل وإنجاز أبحاث و أوراق علمية دراسية في مجالات علمية متخصصة. هنا كذلك يحق لنا أن نساءل هذه القنوات التلفزية عن معايير الاختيار، هل هي فصاحة اللغة أم جمالية الوجه أو انها المنجزات الدراسية والعلمية؟ كما يحق لنا معرفة مصادر سيناريوهات هؤلاء المحللين العباقرة و التي ي الغالب لا تتحقق إلا ناذرا جدا. ثم لماذا تم تهميش أهل العلم والمعرفة الأكاديمية الرصينة ممن لهم منجزات ودراسات وليست لهم القدرة على الكلام في كل شيء والفهم في كل شيء؟ إذ يوم كان المهدي المنجرة أو محمد عابد الجابري محمد كسوس وغيرهم كثير ممن يستحقون منا الكثير من الاستماع والاستمتاع بنظرياتهم وأفكارهم بل مشاريعهم الفكرية التي لا يعرف عنها الكثير إلا المتخصص. يصعب اليوم تصديق عكاظ هذا كما يستحيل عدم مصادفته يوميا لقدرته الفائقة على الكلام دون توقف حتى وإن كان لا يقول أي شيء في المجمل، كم هو سهل أن أطلق على نفسي صفة او أسم معين لكن كم هو صعب أن أجلس في البيت صامتا لمدة طويلة كي أخرج إلى العالم بإنجاز علمي أو جمالي يستحق القراءة.
الشاشة الصغيرة اليوم ليست مجرد وسيلة إعلامية لتسويق الكلام، كما لا يفترض اعتبارها سبيل للشهرة على حساب القيم و الثقافة الرصينة و الجادة. اننا أمام احدى أهم وسائل التربية اليوم بالنظر إلى قدرتها الفائقة على اختراق كل البيوت في المدن كما القرى. لذلك يجب ان تتميز موادها بالنظافة، لا مجرد كلام فارغ قد يهدم القيم أكثر من مساهمته في البناء. ففي اعتقادي الخاص ينتظر من التلفزيون اليوم أن تشكل الوعي الجماعي على نحو ايجابي على عدة مستويات، طبعا الى جانب باقي المتدخلين والمؤسسات الاخرى. بذلك لا يحق لها الاحتفاء بالفراغ المعرفي و الفكري على حساب أهل العلم و المعرفة، لان في ذلك تهديد للقيم الايجابية داخل المجتمع.
(*) أستاذ باحث في علم الاجتماع

الكاتب : محمد الزياني (*) - بتاريخ : 25/05/2017