عندما يفوز بوب ديلان المغني الغامض، مؤلف الأغاني، الشاعر المتجول بجائزة نوبل في الأدب، فعلى الباحث التفكير ملّيًا عمّا يدور عمل بوب ديلان؟!
كان القرن العشرين متمحورًا حول كسر الأشكال، التعدي على القواعد، وخلق الجديد من تعدديات التأثيرات المعاصرة.
في وقت مبكر من ذلك القرن، دعا الشاعر عزرا باوند الفنانين إلى “التجديد”، و خلق الفن الذي يتناسب مع وقته الحاضر مع مراعاته التقاليد التي انحدر منها.
إن لجنة جائزة نوبل قامت بسابقة باعترافها بأولئك “المجددين”، وذلك بمنحها جائزة نوبل في الأدب لعام 2016 لبوب ديلان.
إن الجائزة تعد مفاجأة وربما سببًا لغضب البعض.
ففي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لم يكن هناك ما هو أسهل بالنسبة لفناني الكوميديا السائدة أكثر من محاكاة ساخرة لبوب ديلان، ليس هذا فحسب بل بتقليده أيضًا بإصدار دندنة غير واضحة مع صفير الهارمونيكا.
إن النقاد المعاصرين، الذين يستمدون موقفا متشددا بين الثقافة العالية والفن الشعبي، مشيدين بالأولى ومزدرين الآخر، سيشعرون بالفزع على دُرَرِهم الثقافية الثمينة بسبب فوز ديلان بالجائزة.
ولكن الجائزة ستسعد الكثيرين. فحياة ديلان المهنية عبارة عن سلسلة مستمرة من المفاجآت، الانتكاسات والاتجاهات الجديدة، بداية من جذوره باعتباره مغني نيويورك شعبي “folkie” ومحاكاته لوودي جوثري مغني الفولك الشهير، وكونه صوت المحرومين في أمريكا وأخيرًا هوسه وتعلقه بالعهد القديم والأناجيل.
في عام 1965 قام ديلان بأشهر أعماله، بما كان بمثابة نقطة تحول قلبت كل شيء رأسا على عقب، عندما زاوج كلمات أشعاره عميقة الجذور مع قوة صوت الجيتار الكهربائي.
إن لجنة جائزة نوبل في الأدب أشادت بديلان “لخلقه تعبيرات شعرية جديدة ضمن تقاليد الأغنية الأمريكية العظيمة”.
تلك التقاليد نفسها نشأت في عمق الماضي مع الشعراء المتجولين بالقرون الوسطى الذين انصهرت كلماتهم و موسيقاهم بتلاقٍ مع حياتهم المعاصرة. لهذا فتكريم ديلان شاعر أمريكا المتجول يأخذنا في دائرة كاملة لأصول الشعر .
ديلان الشاب الصغير، والفنان الطموح من هيبينج، ابن مينيسوتا روبرت آلن زيمرمان، وهذا اسمه الحقيقي القادم من المدى الحديدي“Iron Range” -مقاطعة جوثري الأولى- والذي أخذ اسمه المسرحي من ويلز شاعر الرومانسية ديلان توماس. ويبدو أن الاسم منحه الحظ والتوفيق حتى وإن لم يكن ديلان رومانسيًا بالمعنى العاطفي للكلمة. فقد كان شخصية متفردة ماضيًا في طريقه الخاص وفقًا لرغباته واملاءاته الخاصة.
فعندما لجأ لاستخدام الجيتار الكهربائي اتهم بالخيانة من قِبِل “المجتمع” الشعبي الغاضب الذي تركه ديلان وراء ظهره. فهذا العالم كان يحاصره بشدة عن طموحه و سبيله للوصول إليه.
إن ديلان بنجاح ألبوماته العظيمة أعاد تعريف دور المغني/ الشاعر/ المؤدي بطريقة أصلية تمامًا و ليس أقل من هذا مع افتقاره الواضح للمواهب الموسيقية.
فالكوميديين لم يكونوا مخطئين إجمالا
أثبت ديلان إمكانية أن تكون مغنيًا عظيمًا دون تمكنك من الغناء- فهو لم يكن أكثر من مجرد لاعب بدائي للجيتار. ولكن ما أدركه أن زواج الكلمة بالموسيقى قد يدفع بأغنية قائمة على الأفكار بقدر ما تحمل من الإيقاعات.
إن موسيقاه استجابت للحقوق المدنية واحتجاجات حرب فيتنام في أواخر عام 1960. فكانت موسيقاه معبرة ومرتبطة دائمًا بنشاطه الثقافي والمدني. كما أن صوته الخام ردد الكلمات وأنشدها بالطريقة التي جعلتها قوية و مؤثرة على الفور.
هل تقف كلمات ديلان الشعرية منفردة؟
بالتأكيد؛ فكلماته تتفرد طبقًا لتقاليد الشعر الحر في القرن العشرين، وهو معيار لم يرضي الكثيرين.
والمثير للاهتمام، أنه قام بتحويل الكلمات إلى الموسيقى، و الكثير من أغانيه تقليدية في نظام القافية والمقاطع الشعرية مما قد يعترف به النقاد.
لا يمكن أن ينظر ديلان كشاعر تقليدية (كما يقول فروست) لأن السريالية دائمًا ما كانت تروق له في خلق الصور والمجازات الشعرية التي اصطدمت وحولت شيئًا واحدًا إلى شيء آخر.
فالسطور المريرة العظيمة من قصة حب فاشلة عندما تسوء في أغنيته الشهيرة “مثل حجر متدحرج”Like Rolling Stone يتحول فجأة إلى شيء آخر تمامًا “ أنت اعتدت الركوب على حصانك المصنوع من الكروم مع الدبلوماسي الخاص بك/ الذي حمل على كتفه قطة سيامي
”You used to ride on the chrome horse with your diplomat/
Who carried on his shoulder a Siamese cat”.
قبل أن تعود إلى الوقت الحاضر
” ليس من الصعب عندما تكتشف أن/ أنه حقا لم يكن أينما“………. .
“Ain’t it hard when you discover that/He really wasn’t where it’s at…….”.
إن الموسيقى الموهوبة تحمل معاني الكلمات، و مثل الكثير من موسيقى البوب في بعض الأحيان تكون الكلمات تقليدية أو مألوفة. و ما الضير في هذا؟ وكيف تنجح هذه الصورة بين المغني وشريكه المدلل؟ إنها قدرة ديلان على صنع الموازنة بين الكلمة واللحن هي ما تقدم الصورة التي نراها في أغانيه.
وهذه اللحظات تتكرر باستمرار في كتاب الأغاني لديلان حتى عندما يكون العمل ببساطة و بأسلوب مألوف مثل الموسيقى الريفية أو موسيقى الروك التي يؤديها ، و أعظم مجموعة دعم له فرقته الموسيقية “الفرقة”.
“وهكذا”، بوب! دعني اقتبس منك اللزمة في أغنيتك “مثل حجر متدحرج” وأسألك كيف تشعر؟ متأثرًا باعتراف ومعجبًا بفردية دورك في صنع و كسر الأشكال. ربما و ربما لا.
عندما سئل مرة عما كانت أغانيه عن أجاب ديلان “تتمحور حول خمس دقائق ونصف”. أو كما تقول الأغنية، “لا أعتقد مرتين أنها على ما يرام.”
هناك لقطة عظيمة في نهاية فيلم مارتن سكورسيزي “فيلم الفالس الأخير (فيلمه الوثائقي عن آخر حفلة لفرقة ديلان الموسيقية) عندما يأتي ديلان إلى العرض الأخير، وهو يرتدي قبعة وردية غريبة جدا. و في استقبال حماسي و تصفيق كما لو كان إله، ينظر هو إلى الكاميرا بوجهه بأكمله و يهز كتفيه استهجانًا في لفتة تدل على أن كل هذا مبالغ فيه بعض الشيء. ثم يعزف هو و الفرقة الأغنية الرثائية “شباب إلى الأبد”
(فليرعاك الرب دائمًا) .
طريقة لطيفة لإنهاء عرض يتمحور حول النهاية في الأساس، أليس كذلك؟
ومع ذلك فالعرض لم ينتهي حيث يبرعون بشدة في تأدية أغنية “عزيزتي دعيني اتبعك لأسفل”، وهي أغنية ديلان حول الطريق الذي لا نهاية له، الطريق الخالد من الجنس و الحب و الحياة و الإبداع:
” سوف أبذل أي شيء في عالم الرب القادر على كل شيء/ إذا فقط تركتيني الحق بكِ لأسفل”.
لقد ذهبت الفرقة للأسف الآن، فمعظم أعضاءها أموات. و ديلان لا زال يلاحق نفسه .