ثانيًا: السيرة النبوية
يُقصد بالسيرة النبوية، في هذا المقام، محض الإشارة إلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رُوِيَ عنه، من مواقف وقع فيها ذكرٌ للعوالم الموازية أو لواحدٍ منها، أو ذكرٌ لكائن أو كائنات تنتمي إلى تلك العوالم.
إنّ أوّل ما قد يتبادر إلى ذهن المسلم، المصلّي، أن يتساءل حول مَنْ يخصّهم بالسلام عند نهاية كل صلاة، عن يمينه وعن شماله، حين يقول وهو يختم صلاته «السلام عليكم ورحمة الله»؟ والحال أنّ الأخبار والآثار تتعدّد وتختلف حول هذه المسألة ولكنّها تتقارب كلّها حول نفس المقصد: «إنّ السلام يكون موجّهاً إلى الملائكة وأنبياء الله تعالى ورسله وعباده المُخلَصين». وهذا يدلّ على نوع من الوجود الخفيّ لهؤلاء حول المصلّي، فمنهم من يدعو ويستغفر له وهم الملائكة، ومنهم من يشهد عليه وهم الأنبياء والرسل بوصفهم في القرآن الكريم شهداء على الناس، ثم منهم من يشاركه الصلاة وهم العباد المُخلصون (بنصب اللاّم)، الذين كان وقتهم على الدوام ولا يزال، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، موهوباً لله تعالى، بحيث يكونون على الدوام في حالة تعبّد ونجوى بين يدي الله، ولذلك تنجذب نفوسهم (أجسامهم اللطيفة) إلى كل مُصلٍّ قائم بواجبات صلاته على الوجه المطلوب. هناك إذن حيّز من الفضاء غير المرئيّ يوجد فيه حول المصلّي على يمينه ويساره آحاد وجبت لهم التحية. وقد ارتأينا البدء بهذا الأمر لكونه أوّل ما جاء في السنة النبوية بعد الشهادة، ونقصد هنا: الصلاة.
وتأتي الأحاديث النبوية كثيرة وحافلة بمختلف أشكال الإشارة إلى العوالم الأخرى وكائناتها الملائكية والشيطانية، والجنية غير الشيطانية، ويكفي أن نذكر بعضاً يسيراً منها على سبيل تقريب الصورة من القارئ، مع العلم بأنه لا شك أن لديه الوافر من المعرفة عن هذا الشأن.
عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامّات من غضبه وعقابه وشرّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضرّه» وقال إسناده صحيح. هذا يؤكّد «الوجود القريب» لشياطين الجنّ واحتمال إصابتها النّائمَ بضرر من الأضرار عن قُربٍ دون أن تكون ظاهرة.
غير أنّ هذا النّوع من الضرر لا يفترض أو يحتمل صدوره عن شياطين الجنّ وحدهم، بل هناك أيضاً ما يسمّى بشياطين الإنس، وهؤلاء نوعان:
– نوع ظاهريّ، وهو الذي يشكّله رفاق السّوء ودعاة الشر والكيد والدّسيسة ونحوهم…
– ونوع خفيّ ومحتجب، وهو الذي تشكّله الأجسام اللطيفة لأشخاص أحياء أو هالكين (قوى عقلية كما سيرد تفصيله لاحقاً) يكونون ذوي دراية بفنون السحر، والتنويم، والإيحاء بواسطة التخاطر عن بُعد (Télépathie)، حيث تستطيع أجسامهم الباطنية أن تصيب الإنسان العادي بضررٍ ما أو مسٍّ، أو تملي له أوهاماً ونوايا تفسد فكره وسلوكه، تماماً كما تفعل شياطين الجنّ.
إنّ القاسم المشترك بين هذه المواقف، يتمثَّل في كونها ذات صلة بجانب محتجب من الوجود الأرضي يشارك هذا الأخير موقعه، ولكنه يختلف عنه من حيث طبيعة مادّته وسرعة ذبذباته.
في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: (لقبيله وحاشيته) لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل لم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت. فإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعَشاء». وهذه إشارة أخرى إلى الوجود الموازي، والمحتجب عنّا، ولكنه مماثل لوجودنا من حيث مختلف جوانب العيش وأسبابه.
وفي الصحيحين أن الرسول الكريم (ص) ظهر له الشيطان فأخذ بخناقه حتّى أحسّ به يبرد في قبضته، ولم يمنعه عنه سوى إرجاءُ الله سبحانه الشيطانَ إلى يوم الدين، كما جاء في نص الحديث. وهذا دليل على إمكانية رفع الحجاب بين العوالم المختلفة والمتوازية عندما يكون هناك ما يبرّر ذلك، وقد كانت الحجب تُرفع إزاء رسول الله (ص) لحكمة يعلمها الله سبحانه ويقضي بها أمراً كان مفعولاً.
وتعتبر معجزة الإسراء والمعراج قمّةً من حيث دلالَتُها على الوجود الحقيقي لفجاج الأرض ومعارج السماء، والتي سبق القول إنها بمثابة السبل والبوابات المنفتحة بين العوالم المختلفة، حيث نجد الرسول (ص) وقد أُسرِيَ به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ومن المعلوم أنّ ذلك كان في لمح من البصر، ولا شك أنه تم من خلال فجوة (فجّ) فُتحت لهذا الغرض بمشيئة الله سبحانه، ولكنها ليست ككل الفجوات، بل مَعبراً بين مكانين بعيدين عن بعضهما في زمن خاطف (يذكّرنا هذا مرّة أخرى بالإمكانيات التي أتاحها «علم الكتاب» لأحد حضور مجلس النبي سليمان) ثم عُرّج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء فتخطّاهن الواحدة تلو الأخرى عبر معارج انفتحت هي الأخرى لتحقيق هذه الغاية. ويقال إنها أشبه ما تكون بأنفاق يدلف السّالك إليها في موقع معين، فيخرج منها عند موقع يبعد عنه بآلاف أو ملايين أو ملايير السنوات الضوئية، كما يتصوّرها فيزيائيو هذا العصر، ممّن قادتهم نظرية النسبية العامّة، لإينشتاين، إلى اكتشاف أسرار غير هيّنة عن الحيّز الوقتي (L’espace-temps)، وعن الإمكانيات التي يُفترض أن يتيحها، والتي من بينها، كما يفترض العلماء، العثور على الأنفاق المذكورة أو المعارج السماوية، التي تقوم مقام الفجاج الأرضية وتؤدّي نفس وظيفتها على الأصعدة الفضائية.
لقد سبقت الإشارة إلى ظاهرة تمدّد الزمن أو تقلّصه في ما بين العوالم المختلفة، بحيث يكون حسابه مختلفاً في ما بينها، كأنْ تُساوي الثواني المعدودة في أحدها ساعاتٍ طويلةً أو أيّاماً في غيره بحسب المواقع والمقاييس الزمنية المستعملة. وهذا ما حدث بالذات في معجزة الإسراء والمعراج، التي عاش الرسول (ص) خلالها أحداثاً جساماً ولكنه وجد عند عودته إلى مكانه، أنه لم يستغرق بالحساب الأرضي سوى ثوان معدودة أو أجزاء من الثانية.
وما دام الدليل هنا ذا صلة بالفجاج والمعارج، فإنه يثبت من باب تحصيل الحاصل وجود عوالم موازية تنفتح عليها تلك السبل والفجوات خارج عِقال الزمان والمكان، وخارج معاييرهما المتعارف عليها فوق هذا الكوكب.