لا يختلف اثنان حول وجود كيانات غير مرئية في الكون والطبيعة والإنسان، مما يجعل من المنطقي أن توجد فضاءات غير مرئية هي الأخرى لاحتضان تلك الكيانات، كونية كانت أو طبيعية أو إنسانية أو غيرها.
ومن الأدلة العلمية الملموسة على وجود تلك العوالم، عالم الأثير، الذي نقيسه، ونضبط موجاته، ونتعرف بواسطة أجهزة الدفع والاستقبال على مكوناته. ومن بين تلك المكونات، المشاهد والصور الثابتة والمتحركة التي تبثها أجهزة التلفاز والحواسيب وغيرها من الآليات الإلكترونية والرقمية، بما فيها أجهزة «الهولوغرام» للبث الرقمي، التي ترسل صورًا بثلاثة أبعاد تتميز بكونها مثيلة إلى حد التطابق مع أصولها الحية.
تمهيد
ينظر الدين إلى مسألة وجود عوالم متعدّدة غير العالم الأرضي ببالغ البساطة باعتبار هذه المسألة أمراً بديهياً. فالدّين هو من عند الديّان عزّ وجل، والديان سبحانه وتعالى هو خالق الأكوان والعوالم والمخلوقات ظاهرها وباطنها بلا استثناء، ومن ثمّ فهو لا يحتاج إلى إعطاء أيّ دليل ما عدا ما يضمّنه رسالاته المنزّلة، ممّا يجب على الإنسان أن يعالجه بالعقل بواسطة التفكّر والتأمّل والتدبّر والبحث. وهذه الملكات قد صدر الأمر الإلهي إلى الإنسان باستعمالها واستثمارها لكي يحصل له المراد من بحثه وسؤاله المتلاحقيْن والمستمرّيْن حول سرّ وجوده ووجود كل «مَنْ» و»مَا» حوله.
إن الله سبحانه وتعالى، كما جاء في النص الدينيّ، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، ومعنى هذا أنّه سبحانه كان قبل كل شيء ويكون بعد كل شيء، وهذا يقتضي الرجوع إليه وحده سبحانه للتعرّف على جميع خلقه؛ ومعناه أيضاً أنه ظاهر بصفاته وأفعاله وبجمال خلقه وكماله، لأنه ليس في الإمكان الإتيان بأحسن ممّا جاء به إلى سدّة الخَلْق، وأنّه سبحانه باطنٌ بذاته وبما أراده جل وعلا أن يظلّ محجوباً عمّن سواه.
إنّ هذا، من المنظور الدينيّ دوماً، كان يقتضي دقّة وإتقاناً مطلقين في صنع الأكوان والعوالم والكائنات، بما يجعل هذه دالّةً على صانعها، وبما يقدّمها كمرآة عاكسة لجماله وجلاله، دون القدرة على الإفصاح عن ماهيته وحقيقته، اللتين يستأثر بهما لنفسه، ويضنّ بهما على كل من سواه.
ومن باب جمال الصنع وكماله أنه جاء على صورة الصانع، وبالتالي، جاء المصنوع مستوفياً هو الآخر لشرط الظهور والبطون، والتجلّي والاختفاء، فكان هناك كون أو أكوان باطنة وأخرى ظاهرة، وكانت هناك قوى طبيعية منتمية إلى «عالم قوى الطبيعة»، ومشاهد ومكوِّنات وساكنات طبيعية منتمية إلى «عالم الطبيعة»، وهما العالَمان اللذان كانا يحملان على التوالي اسمَيْ «عالَم الميتافيزيقا» و»عالَم الفيزيقا».
وعلى نفس المنوال، جاءت القوى والطاقة سابقة على الفعل والمادّة، وجاءت النوايا سابقة على الأعمال الظاهرة، كما جاءت العقول والنفوس والأرواح مستترة فيما بدت الأجساد عارية وظاهرة للعيان… فسبحان الله أحسن الخالقين.
إن هذه الازدواجية (الظهور والاحتجاب) يُفترَض من نفس المنظور أن تكون قانوناً معمّماً، وسنّة من سنن الله التي ليس لها تبديل. وليس غريباً أن نجد لها نظائر في جميع الأكوان بلا استثناء، بما فيها تلك التي لا نعلم بوجودها، ولا نعلم بالتالي ما جعله الخالق في أحضانها من المنظومات والكواكب المسكونة وغير المسكونة، وما جعله من التعدّد والتنوّع والاختلاف في الساكنة بكل منها ممّا لا يسعه العقل ولا يطيق الإحاطة به.
إنّ هذا يجعل أمراً مقضياً أنْ توجد عوالم غير التي نبصرها وتدركها حواسنا، ليس في عالمنا الفيزيقي ومنظومتنا فحسب، بل في جميع الأكوان وأشكال الوجود الأخرى كافة. ومن ثمّ فمن الطبيعي أن الدين يخاطبنا من منطلق تلك الازدواجية، فيتساءل مثلاً على سبيل الاستنكار عن عيوننا وعقولنا التي في صدورنا، ملمّحاً بذلك إلى بصائرنا التي يسعنا بواسطتها أن ننظر إلى الجانب الخفيّ من هذا الوجود، جانب العقل، والروح، والحياة السارية في كل الكائنات، وجانب التدبير الإلهي الحكيم والعليم والخبير مطلق الحكمة والعلم والخبرة. هذا ممّا لا تدركه الحواس، وإنّما تدركه البصائر، وتشاهده العقول بعين اليقين متى توفرت لها الشروط الموضوعية لتفعل ذلك وتحققه خارج حدود الظاهر، وبعيداً عن سجن مادّته الكثيفة والمعيقة لكل تَحَرُّكٍ على هذا التصعيد.
غير أنّ هذا المنظور لم يغفل قيمة المادّة وفعاليتها في توفير السبل للبلوغ إلى هذه الغاية، ولذلك نجده ينصّ على شعائر (دينية) تنطلق من حركات الجسد وأفعاله، وتنتهي إلى أعماق النفس والوجدان، فكانت أفعال الجسد بمثابة المفاتيح المؤهَّلة لفتح أبواب العقل وتيسير وُلوُجه إلى العوالم الأخرى، بعد الانعتاق من أغلال الجسد والوجود المادّي بكل تبعاته وإغراءاته.
هناك إذن عوالم خارج الوعي، ولكن هناك أيضاً إمكانية دينية للوصول إليها مع الاحتفاظ بهذا الوعي حيّاً مدرِكاً، وبذلك تفترق الطريقة الدينية وتتميّز عن كل الطرق الأخرى، والتي يكون الوعي فيها غائباً، أو مُغَيَّباً، وتكون الغلبة فيها لـ «اللاّوعي» كما تقرّ بذلك تلك الطرائق مجتمعةً.