مذكرات الماريشال ليوطي عن المغرب

يوم قصفنا بقوة الدارالبيضاء في 5 غشت 1907

 

أواصل هنا، في هذه الفسحة الجديدة، الخاصة برمضان 1438 (الموافق لسنة 2017)، ترجمة مذكرات الماريشال ليوطي، الخاصة بمهامه في المغرب. بعد أن ترجمت منذ سنتين أجزاء كبيرة منها ممتدة بين سنوات 1912 و 1917. وهي مذكرات هامة جدا، كونها تعنينا كمغاربة، كونها تقدم لنا معلومات دقيقة عن كيف تشكل المغرب الحديث بعد احتلال فرنسا وإسبانيا لبلادنا، إثر توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912، والتي مرت عليها الآن 105 من السنوات. وأهمية هذه المذكرات، كامنة، ليس فقط في كونها وثيقة تاريخية، بل أيضا في كونها كتبت من قبل صانع قرار، لم يكن عاديا قط في تاريخ المغرب الحديث، أثناء وبعد صدمة الإستعمار، الماريشال هوبير ليوطي، أول مقيم عام لفرنسا بالمغرب.
لقد جاء إلى المغرب بعد سنوات قضاها في مدغشقر ثم بالجنوب الغربي للجزائر عند منطقة بشار، وبعدها بمدينة وهران بالجزائر، ليمارس مهام المقيم العام بالرباط ل 14 سنة كاملة. وهي أطول فترة قضاها مقيم عام فرنسي بالمغرب. ليس هذا فقط، بل أهميتها التاريخية أنها كانت مرحلة تأسيسية لشكل الإستعمار الفرنسي في إمبراطورية كان لها منطقها الدولتي في التاريخ، في كل الشمال الغربي لإفريقيا، هي الإمبراطورية الشريفية المغربية. وأن كل أساسات الدولة الحديثة المغربية قد وضعت في تلك المرحلة، على مستوى إعداد التراب، أو التنظيم المالي، أو القضاء، أو التعليم أو الفلاحة أو المحافظة العقارية أو الجمارك. ومن خلال ما دونه في مذكراته نتتبع بدقة كيف ولدت كل تلك الترسانة التنظيمية للدولة المغربية الحديثة، بلغة صاحبها التي لا تتردد في وصف ذلك ب «العمل الإستعماري»، المغلف بالدور الحضاري. وهي شهادة فيها الكثير من جوانب الجرأة الأدبية التي تستحق الإحترام. ثم الأساسي، أنه كرجل سياسة كتب شهادته وأرخ للأحداث عبر مذكراته الخاصة، من وجهة نظره، ولم يلد بالصمت، بل كان له حس تأريخي، يتأسس على إدراكه أنه يسجل كلمته للتاريخ.
لقد صدرت هذه المذكرات أول ما صدرت سنة 1927، أي سنة واحدة بعد مغادرته المغرب (بقي مقيما عاما بالمغرب من 1912 إلى 1926). ثم أعيد نشرها سنة 1944، في طباعة رابعة، قبل أن يعاد نشرها من قبل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 2012، إحياء للذكرى 100 لاختيار الرباط عاصمة للمغرب.
لنستمع لصانع من صناع التاريخ المغربي الحديث والمعاصر، كيف يروي قصة الأحداث من وجهة نظره. أو كما قال الزعيم اليساري الفرنسي فرانسوا ميتران عن مذكراته الخاصة هو: «هذه هي الحقيقة من الجهة التي كنت أنظر منها». أي أن للحقيقة دوما جهات أخرى للرؤية والنظر، يكملها عمليا المؤرخون.

 

 

الدارالبيضاء: 5 غشت 1917
رغم صعوبة الظروف العامة المحيطة، مستحيل أن لا نحيي الذكرى العاشرة للإنزال الفرنسي بالدار البيضاء، الذي تم يوم 5 غشت 1907. فذاكرة الأحداث تلك، لا تزال طازجة، والشهود لا يزالون هنا، من الأروبيين والأهالي.
لقد نزلت مفرزة من البحرية الفرنسية «غاليلو»، تحت راية ضابط الصف «بالاند»، على الشاطئ للدخول بقوة إلى المدينة، لتقديم الدعم لكمشة من الفرنسيين محاصرين بمقر القنصلية الفرنسية وببعض الدور، من قبل الساكنة المحلية الهائجة. لقد انتشرت حينها بسرعة فتوى متطرفة ضد بناء ميناء جديد انطلقت الأشغال فيه حديثا. حيث تم ترحيل العمال وتصفية 8 أروبيين، ضمنهم 5 فرنسيين. ما دفع المواطنين الفرنسيين المتبقين إلى الإحتماء بمقر القنصلية الفرنسية وببعض الدور، حيث بقوا يدافعون عن حياتهم ببطولة، إلى حين وصول القوات البحرية بقيادة «بالاند»، التي ما أن دمرت باب المدينة حتى تمكنت من ولوج أزقتها وفك الحصار عن مواطنينا وإنقاذهم، وشكلوا مجموعة تحصنت هناك حتى وصلت إليهم أول فرق الجنرال «درود»، يوم 7 غشت.
كان حاضرا في تلك الذكرى العاشرة، العديد من مواطنينا الأبطال أولئك، الذين دافعوا ببطولة عن رايتنا، وسلمت لهم أوسمة عسكرية مغربية، تعرف ب «أوسمة الإستحقاق الشريفية». إذ أمام ذات الباب التي تم فتحها عنوة منذ 10 سنوات، نصبت منصة صغيرة، التي عبر أمامها، وهم يتلقون التحايا العسكرية، الناجون من تلك المواجهات، قبل الكشف عن اللوجة التذكارية، الممجدة لدور القوات البحرية بقيادة «بالاند:، الذي سقط بدوره في ساحة الشرف بعد ذلك سنة 1915 ببحر الأدرياتيك. ولقد اختتم ذلك الحفل بإلقائي بصفتي المقيم العام، كلمة، تبعتها زيارة ترحمية على قبور ضحايا سنة 1907 [من الفرنسيين والأوربيين طبعا- م – ]. وهي الكلمة التي قلت فيها:
«ها قد مرت اليوم، عشر سنوات بالتمام والكمال، حين وضعت فرنسا قدمها فوق هذه الأرض، واخترق ضابط الصف «بالاند» الباب البحري للمدينة، ورفع عاليا بحارة «غاليلو» رايتنا بألوانها الثلاثة، فوق سطح بناية قنصليتنا.
إنه لمن المستحيل، أن تمر ذكرى مماثلة مرور الكرام. بل إنه من أجل تمجيدها ولقياس الطريق التي قطعت نلتقي اليوم، هنا بالضبط حيث وقعت تلك الأحداث، والتي حددت مصير المغرب. إن التغيير الملموس المسجل بالميناء ومحيطه، يقدم الدليل منذ بداية الحماية، على أهمية ما تم إنجازه من حينها. لكن، وكما قيل هنا منذ لحظات بكلمات معبرة، فإنها ذكرى نحييها بروح وحدوية وأخوية مع الشعب المغربي. لأنه، بالنسبة له، فإن هذه الذكرى لا تعكس منطقا للقمع والإحتلال، بل عنوانا للحرية والإنخراط في آفاق واعدة.
إن ما تعنيه، هذه الذكرى، بالنسبة لنا نحن الفرنسيين، أنها عنوان للبطولة والتضحية. وليس هناك، من هو مؤهل لتذكيرنا بفداحة ما وقع تلك الأيام، وببطولاتها، من السيد «ميغري»، الذي لم يغفل في كلمته سوى عن أمر وحيد، هو أنه كان على رأس ذلك الفريق البطل من الفرنسيين، الذي أبنوا فيه عن شجاعة مثالية، عن إصرار وعن فطنة مبادرات. ومن ضمن من ذكرنا بهم، يبرز متلألئا إسما اثنين منهم، وهبا روحيهما في ساحات حرب أخرى من أجل مجد فرنسا، هما «بالاند» و «ميرسيي». إن ما تعنيه هذه الذكرى لنا نحن الفرنسيين، أنها كانت البداية لمرحلة حاسمة من المواجهة التي كان علينا دخولها، ضد خصمنا الشديد الصلابة (وليس المغاربة)، ذاك الذي وجدناه أمامنا سنتين قبل ذلك بطنجة، محاولا قطع الطريق أمامنا، والذي واجهه أيضا ضابطنا «آماد» بمنطقة الشاوية، حيث كان يحرض الساكنة لخلق الفتنة. والذي رأيته بأم عيني سنة 1908، بشكل سافر. وهو نفسه الذي وجدناه سنة بعد ذلك، سيعى إلى إثارة الزوابع في موضوع الفارين من الجندية، ممن كانت صلابة الجنرال «آماد» حاسمة في مواجهتها. وهو نفسه أربع سنوات بعد ذلك، سنجده يواجهنا في أكادير. والذي منذ 1912، وأنا أجد له أثرا ويدا في كل محاولات زعزعة حمايتنا الوليدة بمدينة فاس، وأيضا إلى جانب الهيبة، في محاولة حثيثة لتعطيل مهمتنا للسلام والحضارة. وصولا إلى تلك الأيام المجيدة ليوليوز 1914، التي سقطت فيها كل الأقنعة (1).
وهو ذاته، الذي لا نزال نواجهه اليوم، فوق هذه الأرض، حيث لنا الدليل على أن أمواله وسلاحه ودعمه هو الذي يحرض ويشجع المجموعات المواجهة لنا بالشمال والوسط والجنوب، والتي تناهض النظام الذي نرسيه.
إن ما تعنيه هذه الذكرى، بالنسبة للمغاربة، أنها العنوان لنهاية الفوضى، والتفسخ ونهب ثروات هذا البلد الجميل، وخيرات أهله الجادين، الأذكياء والطيبين. لقد تم ترسيم النظام، والأمن ووحدة الإمبراطورية الشريفة، تحت سلطة السلطان والمخزن (الذي يحضر إلى جانبي هنا نائب عنه، مما يهب لهذا اللقاء معنى خاص). إن الأمر تدشين لمرحلة تنموية اقتصاديا واجتماعيا لم يشهد المغرب العتيق لها مثيلا من قبل. وبالنسبة للأجانب الحلفاء والأصدقاء، فإنه يقدم الضمانات على الحرية التجارية بالتساوي أمام الجميع. وأيضا اليقين، على إمكانية بقاء وتطوير عمل مؤسساتهم في أمان. وكم أنا سعيد بتواجد قناصلتهم إلى جانبي هنا.
إنه يدا في يد، بدون خلفيات أو أحكام مسبقة، أو أحقاد، يمكننا إحياء هذه الذكرى. ولقد كان متفقا أن تكون هذه الإحتفالية بدون بهرجة وبتقشف، بسبب الأوضاع التي نجتازها جميعا [يقصد ليوطي تبعات الحرب العالمية الأولى – م -]. وكم هي عظيمة المعاني التي تذكرنا بها وبالآمال التي تعد بها. وهي تلحم مثانة بحريتنا مع جيشنا، والفرنسيين مع مواطني الدول الحليفة فوق هذه الأرض، وأيضا مع الشعب المغربي، واتحاد كل القوى الحية ضد عدونا المشترك.
إن المرحلة صعبة وخطيرة، سواء هنا أو بباقي العالم. لكن، ما هو مؤكد، سواء هنا أو على الجبهة هناك في فرنسا، فإن العدو يكشف عن لهاته وضعفه، وأن قواه قد خارت. لنوحد الصفوف إذن، ولنعوض خساراتنا بالعمل والشجاعة وتجاوز مصالحنا الذاتية، حتى نظهر، في غد انتصار الحرية القريب، بفخر واعتزاز أننا أخدنا الطريق الأصوب للإلتفاف حول ذات الراية، التي تبثها من سبقنا إلى هنا، بالدارالبيضاء، منذ 10 سنوات.

هامش:
يقصد الماريشال ليوطي هنا، دولة ألمانيا، التي زار إمبراطورها «غليوم الثاني» مدينة طنجة المغربية يوم 31 مارس 1905، ثم يقصد تهديد الطرادة الألمانية باتنر بقصد مدينة أغادير المغربية سنة 1911، واتهامها بدعم حركة المقاومة المغربية المسلحة التي قادها الشيخ الهيبة ماء العينين، صعودا من الصحراء والتي حرر فيها مراكش سنة 1912، وانهزم في معركة سيدي بوعثمان في طريقه لتحرير الرباط. ويقصد بتاريخ 1914 انطلاق الحرب العالمية الأولى.


الكاتب : إعداد: لحسن العسبي

  

بتاريخ : 27/05/2017