تسعى ناسا بكل جهدها نحو إرسال بعثة “بشرية” إلى المريخ، وتخطط لتحقيق ذلك على أرض الواقع ربما بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي. ولكن، لو تمكن البشر بالفعل من الحياة على كوكب المريخ، فسوف يكون أمامهم طريق طويل وشاق نحو بناء حياة كاملة هناك، بعيداً عن الأرض، وبشكل مستقل تماماً عنها.
على مدار أربعة عقود من الأبحاث والبعثات الاستكشافية لكوكب المريخ، تمكن العلماء من سبر أغوار الكثير من غوامض الأمور عن الكوكب الأحمر، وفك العديد من ألغازه، ولكن بقي عدد آخر من الأسئلة الكبرى تدور حوله، حتى الآن، بلا إجابة.
كوكب المريخ، الكوكب الرابع في مجموعتنا الشمسية، والذي حاز على عظيم الاهتمام، على الصعيدين العلمي والخيالي، فعلى مدار سنوات طويلة من إرسال البعثات العلمية لاستكشاف ذلك الكوكب، والتقاط الصور العلمية – بأجهزة تقنية شديدة التعقيد – اللازمة لدراسته، جاءت تلك الصور لتضفي مزيد من الغموض على ذلك الكوكب الغامض أساساً! وتفتح أعيننا، في نفس الوقت، على عالمه الغريب المفعم بجمال، من نوع خاص يلهب الخيال، بجباله التي تفوق قمة إيفرست ارتفاعاً بثلاث مرات، وأوديته الهائلة، وباختصار، يمكننا أن نقول ببساطة أن ذلك الكوكب الشديد الشبه في كثير من جوانبه بكوكبنا “الأرض”، إنما هو جنة حقيقية لمحبي الاستكشاف وعشاق المغامرة.
ومع انطلاق البعثة الاستكشافية الجديدة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا ” Insight Lander إلى المريخ، والتي من المفترض أن تكون قد وطأت تربته أواخر نوفمبر، (انطلقت البعثة الاستكشافية (إينسايت) في الخامس من مايو الماضي، ووصلت إلى المريخ في السادس والعشرين من نوفمبر) المترجم، سننطلق نحن أيضاً، عبر السطور القادمة، في رحلتنا الاستكشافية الخاصة عبر خمسة من الألغاز الكبرى التي لاتزال تحيط بالكوكب الأحمر الساحر، وتدور حوله بحثاً عن إجابات لم تجدها حتى الآن.
1 – الماء السائل: هل لا يزال موجوداً على المريخ؟
نظراً لما يتسم به كوكب المريخ حالياً من مناخ شديد البرودة، وغلاف جوي رقيق، فإن أي ماء سائل على سطحه لا بد وأن يتعرض إما للتبخر أو للتجمد في التربة. ومع ذلك، فقد تمكنت المركبات الفضائية من التقاط بعض من الصور التي تظهر ما يبدو وكأنه مئات من (قنوات الأنهار الجافة) والوديان الهائلة التي يحتمل أنها قد سبق وتكونت بفعل تدفق سريع للمياه السائلة، التي ربما كانت موجودة منذ زمن سحيق. هنا ينشأ السؤال الهام: أين ذهبت تلك المياه؟ يرى العلماء أن تلك الأخاديد والوديان قد نحتتها المياه الجارية في وقت كان فيه مناخ كوكب المريخ أكثر دفئاً ورطوبة، ويعتقدون أن بعض من تلك المياه لاتزال موجودة، لكنها متجمدة تحت سطح التربة، بل وربما لا يزال بعض منها على هيئته السائلة في أعماق الكوكب. كما أظهرت الصور التي التقطتها المسبارات الاستكشافية وجود كميات كبيرة من المياه المتجمدة في قطبي الكوكب، وفي 2015تمكن العلماء في ناسا – عبر البيانات الواردة إليهم من المسبار الاستكشافي – من الحصول على دلائل قوية ترجح وجود مياه سائلة ربما تتدفق بشكل متقطع على الطبقة العلوية الأحدث تكويناً على سطح المريخ، حيث استطاعوا اكتشاف آثار كيميائية لمعادن مائية على العديد من المنحدرات التي كان قد سبق رصد وجود عدد من الخطوط داكنة اللون عليها.
لكن، بالرغم من تلك الدلائل، فلا يوجد حتى الآن برهان قطعي على أن تلك الآثار هي نتاج لمياه كانت متدفقة على سطح المريخ في زمن ما؛ فربما كانت بالفعل آثار لمياه سائلة كانت تجري عبر تلك المنحدرات في مواسم الدفء، قبل أن تتلاشى مع انخفاض درجة حرارة الكوكب، وربما كانت تلك الآثار مجرد نتاج لتدفق بعض الأوحال.
في نفس السياق، استطاع العلماء، عبر المسبار “إكسبريس” Europe’s Mars Express، اختراق سطح المريخ باستخدام الرادار، وتمكنوا من اكتشاف آثار واضحة لبحيرة يصل طولها إلى اثني عشر ميلاً، تقع تحت الغطاء الجليدي للقطب الجنوبي للكوكب؛ ويعتقد العلماء أن تلك البحيرة المدفونة يمكن أن تبقى في الحالة السائلة نظراً لطبيعتها شديدة التركيز. ويقترح العلماء أن تلك البحيرة ربما ليست الوحيدة على المريخ، بل ربما هناك العديد من البحيرات الأخرى المتفرقة على الكوكب.
2 – الكوكب ذو الوجهين: ما الذي جعل النصف الشمالي من الكوكب أملس في حين أن النصف الجنوبي شديد الانحدار؟
في سبعينيات القرن الماضي، قامت وكالة ناسا بإرسال البعثة الاستكشافية “فايكينج” Vaiking لإجراء أول مسح شامل لتضاريس المريخ، ومنذ ذلك الحين لا يزال العلماء في حيرة من أمرهم إزاء نتائج ذلك المسح! فقد وجدوا أن لهذا الكوكب وجهين متباينين! أو بعبارة أكثر دقة وتحديداً وجد العلماء أن الطبيعة الجغرافية لنصفي الكوكب تختلفان عن بعضهما البعض تماماً، فالنصف الشمالي منه أكثر انبساطاً وأقل انحداراً، أما النصف الجنوبي فكان على العكس، شديد الانحدار، ذو تضاريس شاهقة، تتراوح ارتفاعاتها ما بين ثلاثة إلى خمسة أميال.
وقد حاول العلماء تفسير ذلك التباين، فظهرت طائفة من النظريات ذات الصلة، منها أنه ربما أدت العمليات الجيولوجية التي تتم في باطن التربة إلى تشكيل تضاريس النصف الجنوبي على هذا النحو؛ أو ربما يكون النصف الشمالي قد تآكل مع الزمن بفعل مياه محيط كانت تملأ ذلك النصف من الكوكب، مما جعله منبسطاً بهذا الشكل. إلا أن مجموعة من الأبحاث الأخرى قد توصلت إلى فرضيات أكثر حدة لتفسير ذلك الاختلاف العجيب، حيث تقترح بعض النظريات أنه، وقبل 3.9 مليون عام، ربما حدث أن ارتطم كويكب بحجم قمر كوكبنا الأرض، بالقطب الجنوبي من المريخ وتحطم عليه، فأدى ذلك الاصطدام العنيف إلى تغير الطبيعة الجغرافية للكوكب بشكل هائل، ونتج عن ذلك انفجار محيط من الحمم البركانية التي تولد عنها بركان ضخم على الكوكب، ففاض بدوره بالمواد التي شكلت التضاريس والتعاريج شديدة الانحدار الموجودة في النصف الجنوبي.
حتى الآن ما زال العلماء يبحثون عن دلائل تقودهم إلى يقين علمي بشأن ذلك الاختلاف الضخم بين نصفي الكوكب الأحمر، بما يساعدهم على تحديد المواقع المثلى للموارد الطبيعية التي يمكن لمستكشفي المريخ في المستقبل استغلالها لإقامة حضارة إنسانية مستدامة هناك.
3 – لغز غاز الميثان:
ما هو مصدر غاز الميثان في الغلاف الجوي للمريخ؟
في السنوات القليلة الماضية، رصدت كل من التليسكوبات الأرضية والمسبارات الاستكشافية، وجود آثار لغاز الميثان على المريخ، وهو الغاز الذي قد ينتج عن العمليات البيولوجية اليومية، أو قد يشير إلى وجود عمليات جيولوجية ما. وقد أشارت النتائج التي وردت في الآونة الأخيرة عن البعثة “كيريوسيتي” Curiosity التابعة لناسا، إلى أن المستويات المنخفضة لغاز الميثان على المريخ قد تضاعفت عشر مرات على مدار بضعة أشهر، مما يشير بوضوح إلى وجود إنتاج مستمر للميثان على الكوكب، والذي سرعان ما يتفرق وينتشر في فضائه. وعلى الرغم من أن غاز الميثان على كوكب الأرض ينتج في الغالب عن نشاط بيولوجي، إلا أن العلماء يرون أنه ليس من الضروري أن يكون ذلك هو الحال بالنسبة لإنتاج الميثان على المريخ، وأن وجود هذا الغاز في غلافه الجوي لا يعد بمثابة دليل قوي على وجود حياة بيولوجية على الكوكب الأحمر. ويعتقد العلماء في ناسا أن مصدر ذلك الغاز يقع في الشمال، إلا أنه يكاد يكون من المستحيل تحديد موقعه بدقة. ويبقى مصدر غاز الميثان على كوكب المريخ لغزاً ينتظر حله.
4 – هل توجد حياة على كوكب المريخ؟
الماء هو العنصر الرئيس لوجود الحياة كما نعلم جميعاً، لذلك فقد ظلت علامات وجود المياه على كوكب المريخ تحيي الأمل على الدوام في أن ثمة حياة قد وجدت، أو ما زالت موجودة على ظهر الكوكب الأحمر. ولكن، على الجانب الآخر، تبقى الحقيقة الملموسة، أن المريخ يتسم ببيئة شديدة القسوة، ودرجات حرارة متقلبة، وغلاف جوي رقيق لا يقي من الأشعة فوق البنفسجية الضارة.
يعتقد العلماء أن البحيرة الجافة في المريخ ربما تحتوي على حفريات، أو آثار تدل على وجود حياة عضوية سابقة بالقرب من السطح. وتسعى البعثة العلمية الضخمة التابعة لناسا، والمعروفة حالياً باسم “مركبة المريخ 2020، إلى البحث عن تلك الآثار ورصدها؛ وفي نفس الوقت فإن بعض أشكال الحياة على كوكب الأرض مثل الجراثيم والميكروبات التي تحيا في عمق الكوكب، إنما تعزز من الأمل في وجود حياة حالية مماثلة على المريخ.
5 – هل يمكن أن يحيا البشر على كوكب المريخ؟
تسعى ناسا بكل جهدها نحو إرسال بعثة “بشرية” إلى المريخ، وتخطط لتحقيق ذلك على أرض الواقع ربما بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي. ولكن، لو تمكن البشر بالفعل من الحياة على كوكب المريخ، فسوف يكون أمامهم طريق طويل وشاق نحو بناء حياة كاملة هناك، بعيداً عن الأرض، وبشكل مستقل تماماً عنها. وفي سبيل ذلك سوف يتعين عليهم استخراج واستخدام موارد الكوكب الأحمر، وتطويعها في خدمتهم ولبناء حضارتهم “المريخية ” الجديدة، كما سوف يكون عليهم إنشاء مأوى لهم تحت سطح تربة المريخ، للوقاية من الإشعاع الكوني الخطير. ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل سيكون عليهم أيضاً استزراع الغذاء اللازم لبقائهم، وهو ما من شأنه أن يشكل تحدياً كبيراً نظراً لما أظهرته الأبحاث من أن تربة المريخ عقيمة تماماً، ومشبعة بالمواد السامة التي يطلق عليها “بركلورات”. إلا أن العلم لا يعرف اليأس، وليس للطموح من حدود تحده وتعوقه عن استكمال المسير، حيث يعمل مهندسو الفضاء الطموحين على وضع الخطط المستقبلية، وتطوير التقنيات النووية والكيميائية وتقنيات الطاقة الشمسية، والتي ليس من شأنها فقط توفير الأسس اللازمة لإقامة حياة على المريخ، ولكن أيضاً سوف تساعد الإنسان على تطوير حياته على كافة الأصعدة، وتعزيز إمكانياته في مواجهة أي أحداث طارئة بصورة أكثر فعالية. وبعد، لا تزال العديد من الألغاز تحيط بالكوكب الأحمر، والغموض يحيطها بدوره، ومعه فضول العلماء الذين لا يكفون عن المحاولات الدؤوب لسبر أغوارها.
على أية حال، فإن الطريقة الوحيدة التي قد تؤدي لحل تلك الألغاز، ربما تكمن في تلك الرحلة البشرية الأولى المزمع إرسالها إلى المريخ، والشروع في إقامة حضارة إنسانية عليه. فإلى ذلك اليوم.