ملامح تكنولوجية في أزمة كورونا

عمر الحسيني

منذ بداية العام الحالي 2020، ومع الانتشار المفاجيء للوباء، بدأت حكومات العالم إجراءات حازمة مختلفة تهدف لمجابهة الوباء والحفاظ على سلامة مواطنيها. ومن هنا استدعت الحاجة لتوظيف جميع الوسائل التكنولوجية العلمية الحديثة في تسهيل هذه الإجراءات وتعميمها والتأكد من تنفيذها بأقل تكلفة ممكنة. ويعتقد بعض المحللين أن هذا الاتجاه المنطقي قد شكل حائطًا فعالًا لتحسين الوضع والسيطرة نسبيًا على الأضرار الناتجة من الوباء، وساهم في تخفيض أعداد الضحايا ومقدار الخسائر التي كانت من الممكن أن تتضاعف في نفس المدة الزمنية، لاسيما إذا قارنّا هذه الأزمة، بالأزمة المشابهة في أوائل القرن العشرين للانتشار الوبائي للانفلونزا الأسبانية.

وبات من المنطقي أن اللجوء لتطبيق الحلول التكنولوجية المستحدثة لن ينحصر فقط على تفعيل استراتيجيات المجابهة المباشرة للفيروس، وإنما ستشمل أيضًا حلول راديكالية لتيسير الحياة للمجتمعات وتوفير البدائل المختلفة لأنشطتهم اليومية التي تخص مهامهم الوظيفية واحتياجاتهم الاستهلاكية بل ورغباتهم التعليمية بجميع مراحلها الأساسية والاختيارية من وسط أنشطة أخرى عديدة.

الاعتماد على تكنولوجيا الاتصالات في تجميع البيانات المكانية

بينما كانت الفيروسات التاجية تسير في جميع أنحاء العالم، بدأ عدد متزايد من الحكومات في بحث استخدام بيانات الهاتف المحمول بواسطة شبكات الاتصالات للتوعية بصدد الاجراءات الوقائية الآمنة ورصد تفشي المرض. ففي بعض الدول مثل المملكة المتحدة قامت السلطات المعنية بتجميع البيانات من مزودي الاتصالات لتحديد عدة مؤشرات منها مدى تطبيق السكان للتمييز الاجتماعي. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ناقشت شركة Google مشاركة بيانات الموقع مع السلطات الصحية لأغراض مماثلة.
كما لجأت دول أخرى إلى استخدام نفس التكنولوجيا لتطبيق قواعد أكثر صرامة تهدف إلى ضمان فرض الحجر الصحي في المنزل أو في أماكن بعينها. إذ اتبعت الحكومة التايوانية خطة أمنية وقائية إحدى بنودها تشمل نشر سياج إلكتروني حول الأسر المعزولة، وذلك بهدف تنبيه الشرطة إذا غادر مواطنون تحت الحجر الصحي المنزل أو حتى حاولوا التنصل من المراقبة عن طريق إغلاق هواتفهم. وقررت السلطات التايوانية اتباع تلك السياسة الصارمة على الرغم من أنها قد أبلغت رسميًا عن تعدي حالات الإصابة لمواطنيها إلى 100 حالة فقط بأواخر شهر مارس، وذلك بهدف التأكد من تتبع أي مصدر ناقل للفيروس حال استمرار الأزمة، كونها دولة مجاورة لجمهورية الصين الشعبية. كما جمعت الصين نفسها كميات هائلة المعلومات ساعدتها في احتواء المرض، وذلك من البيانات التي تحصدها من مواطنيها. إذ إن لدي الصين شبكة تضم أكثر من 200 مليون كاميرا مراقبة بالفيديو موزعة في جميع أنحاء البلاد، كما أنهم قاموا أيضًا بتركيب ماسحات ضوئية حيوية في مدخل المجمعات السكنية.
ويبدو أن هذه التطبيقات ورغم تزامنها مع الوضع الطارئ شديد الخطورة على الأفراد، إلا أنها لاقت العديد من الاستهجانات من قبل العديد من الحقوقيين حول العالم، بدعوى أن هذه الإجراءات تعتبر تعدي على الخصوصية الشخصية مع عدم وجود ضمانات لحصر استخدام هذه البيانات التي يتم تجميعها لمجابهة فيروس كوفيد-19 فقط. إلى أن هناك بعض النظم التي أعطت بالفعل هيئة قانونية للإجراءات الطارئة بما تشمله من سلطات أكبر لفترة محدودة حتى تجاوز المخاطر. كمثال، تم سن قانون من قبل ولاية نيويورك في شهر مارس 2020 يمنح الحاكم أندرو م. كومو سلطات غير محدودة للحكم بأمر تنفيذي خلال أزمات الولاية مثل الأوبئة والأعاصير. يسمح له القانون بإصدار توجيهات الاستجابة للطوارئ التي يمكن أن تلغي أي لوائح محلية معتادة.
كما أن تجميع البيانات الشخصية والمكانية بواسطة مزودي الاتصالات يتم بصورة يومية حول العالم منذ سنوات لخدمة العديد من الأنشطة التسويقية والدعائية لمنتجات شركات القطاع الخاص وكذلك الأنشطة التوعوية. وهو ما سهل استخدامه في هذه الأزمة بسبب تواجد الخبرة الكافية بآلياته، ووجود التجهيزات المطلوبة للبنية التحتية المطورة والمجربة فعليًا خلال الأعوام الأخيرة. ومن هذا المنطلق يمكن تصور هذا النظام بشكل أفضل على أنه شراكة بين القطاعين العام والخاص، مع وضع الأسس التي تضمن استخدام البيانات بصورة عادلة تقتصر على حالة الطوارئ الحالية.

الاتجاه لتكنولوجيا التعليم عن بعد كبديل آمن

يبدو أن أحد أهم التوجهات العالمية في الفترة الحالية هو الاستعانة بتكنولوجيات التعلم عن بعد عن طريق شبكات الإنترنت ووسائل الاتصال الرقمية، بهدف استكمال سير المنظومة التعليمية حول العالم في مراحل الدراسة الأساسية بالمدارس وحتى التعليم العالي بالجامعات. ومع وجود البرامج والتقنيات المطلوبة بالفعل، كانت عملية وضع النظم الإدارية المنظمة للوضع الجديد ثم التأقلم على هذا الوضع في أسرع وقت هي التحدي الأكبر للمؤسسات التعليمية المختلفة. ورغم أنه منذ عشرين عامًا، لم يكن هناك أي نظام للتعلم عن البعد، إلا أن التعليم عبر الإنترنت نما بشكل مطرد منذ ذلك الحين. ووفقًا لشركة الأبحاث والاستشارات Eduventures، فإن حوالي 2.4 مليون طالب جامعي أمريكي، أو 15٪ من إجمالي الطلاب الجامعيين في جميع أنحاء البلاد درسوا بالكامل عبر الإنترنت في خريف عام 2019. كما تم تسجيل 3.6 مليون شخص إضافي في دورة عبر الإنترنت أو أكثر أثناء الدراسة في الحرم الجامعي.
ويبدو أن أكبر المشاكل التي واجهت هذا الاتجاه هي الأمية الرقمية للعديد من أعضاء هيئة التدريس والتربويين. إذ وفقًا لبعض الأبحاث فإن الولايات المتحدة الأمريكية لديها 1.5 مليون عضو هيئة تدريس. لم يأخذ حوالي 70٪ منهم أي دورات في التعليم الرقمي والافتراضي من قبل. وهو نفس الحال في معظم دول العالم، بمستويات أغلبها متواضع في التعامل مع التكنولوجيا في التعليم. إلا أن تكاتف الحكومات نحو فرض التكنولوجيا وضعت من التدريب السريع أولوية لإنهاء عملية التحول الذي تم رسميًا بدرجات نجاح متباينة في مختلف البلاد.
ففي الدولة المصرية على سبيل المثال وخلال أسابيع قليلة، تم التحول الكلي للاعتماد على التكنولوجيا الرقمية في التعليم بجميع مراحله، وتم وقف ذهاب الطلاب إلى المدارس والجامعات. ومما ساعد في هذا التحول هو السياسة المستحدثة خلال السنين القليلة الماضية التي أطلقها وزير التربية والتعليم المصري د/طارق شوقي والتي تعتمد على منظومة تعليم تميل إلى تدريب الطالب على وسائل التعلم الرقمية عوضًا عن الأساليب القديمة. وهو ما ساهم بشدة في تحقيق هذا النجاح.
كما أن هناك العديد من الجامعات التي كان لديها بالفعل نظامها الخاص للتعلم عن بعد، والتي كانت تعتمد عليه بصورة جزئية. كل هذه العوامل ساهمت في إنجاح عملية التحول بمصر في وقت بسيط، وإن كان هذا التحول ليس خاليًا من مشاكل عدة منها ضعف البنية التحتية للانترنت في بعض المناطق، لاسيما مع الضغط الكبير على استخدامها من قبل المواطنين خلال فترات الحظر.
وتعتمد تكنولوجيا التعلم عن بعد على تقنيات التواصل الحي بالصوت والصورة لإلقاء المحاضرات والرد على أسئلة الطلاب مثلما كان الحال في قاعات الدرس. وهو ما تقدمه بصورة مجانية وبجودة جيدة للغاية عدة برامج منها Zoom وSkype وGoogle hangouts وMicrosoft teams. كما تعتمد التكنولوجيا على إيجاد منصات تعلم رقمية جاهزة لاستيعابت قواعد بيانات للطلاب والمناهج المختلفة مع توفير وسائل تقييم متعددة كالامتحانات والواجبات المنزلية وعمل المشاريع الجماعية وغيرها. وهو ما تقدمه بالفعل منصات عدة كـGoogle Classroom، وCoursera وMoodle بصورة محترفة تضاهي تلك المتعارف عليها في نظم التعليم التقليدية، وبل وتضاهيها في بعض الأحيان. وتسمح تلك المنصات برفع وتبادل الملفات المختلفة باختلاف وسائطها من وسائل مرئية وسمعية ومقروءة كالصور والفيديوهات وشرائح العرض.

تطويع التكنولوجيا لاتاحة العمل عن بعد

ومع استمرار انتشار فيروس كورونا المستجد، طالبت شركات التكنولوجيا الكبرى المزيد من الموظفين بالعمل من المنزل. إذ نفذت عدة شركات منها Facebook وGoogle وTwitter وAmazon سياسات العمل عن بُعد للعديد من موظفيها أو جميعهم حول العالم.
حيث أوصت شركة Alphabet، وهي الشركة الأم لشركة Google، بأن يعمل جميع الموظفين في أمريكا الشمالية وأوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط عن بُعد. كما جعل تويتر العمل من المنزل إلزاميًا لجميع العمال على مستوى العالم. وكذا الحال في شركة فيسبوك التي وجهت إلى العمل عن بعد، مع التوجيه المنزلي إلى جميع الموظفين على مستوى العالم الذين تسمح لهم وظائفهم بذلك. وهو نفس ما أوصت به شركة أمازون بأن يعمل الموظفون على الصعيد العالمي من المنزل إذا سمحت وظائفهم بذلك.
وإن كانت تلك الشركات تعتبر من الشركات الكبرى في مجال التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل التكنولوجية عن طريق الانترنت، إلا أن نفس السياسات قد تم تطبيقها في العديد من الشركات في مختلف الدول، مع الطلب من الموظفين في مدن معينة العمل من المنزل أو اختبار العمل على نطاق واسع من الإجراءات المنزلية. ولم يكن هذا ليتم دون تطويع مناسب للتكنولوجيا بما لا يوقف الأعمال والأنشطة المختلفة. فمع تحذيرات عديدة بوقوع أزمة اقتصادية ضخمة بعد الانتهاء من التعامل مع الكورونا، فإن الشركات تحاول الحفاظ على سلامة موظفينها دون الإخلال بجدول أعمالها لتقليل أي خسائر محتملة عليها. وتشمل التكنولوجيات المستخدمة المنصات الخاصة للعمل الجماعي المشترك، والتي تقدمها العديد من الشركات بصورة مجانية أحيانًا، ومن أشهرها الخدمات التي تقدمها Google وMicrosoft للتعامل بين الموظفين من أي مكان وإنهاء الاعمال وتبادل الملفات واعدادها وتعديلها بسهولة ويسر بصورة جماعية سلسة.

هل تستطيع التكنولوجيا إنقاذ العالم؟

يبدو أن التطور العلمي الملحوظ والمستمر هو ما يسعى له العالم بغرض حماية نفسه وضمان استمراريته في التقدم. وإن لم يوجد بعد مصل لعلاج كوفيد-19 بعد، ورغم الأعداد الضخمة المصابة بصورة يومية حتى الآن، إلا أن التكنولوجيا المستخدمة في مجالات العناية الطبية والمسح التشخيصي هي ما ساهمت بصورة فعالة في تقليل الحالات المصابة، وزيادة نسب الحالات المتعافية مقارنة بالضحايا عما كانت لتكون عليه في حال غياب تلك التكنولوجيا. ويمكن مشاهدة هذا التقدم أيضًا في سرعة وكفاءة انتاج الكميات الضخمة المطلوبة من الكمامات والقفازات الطبية وشحنها في أقل وقت ممكن عبر القارات. وكذلك في التعديلات التي تمت في بضعة أسابيع لأجهزة التنفس الصناعي لتحسين جودتها وزيادة قدرتها في علاج أكبر قدر ممكن من المصابين في نفس الوقت.
يبدو أن الأزمة الراهنة أكدت بما لا يدعي للشك أن الاهتمام بالعلم أولوية لأي دولة. ومن المتوقع أن نرى آثار هذه الحقيقة في عالم ما بعد كورونا. حيث إنه من المتوقع أن تتغير سياسات الحكومات وطرح حوار عالمي مجتمعي يساعد على هذا التغيير، واضعًا ما قد يمنع تكرار هذه الأزمة مستقبلًا أو على أقل تقدير، السيطرة على خسائرها بصورة أكبر باستخدام التكنولوجيا.

الكاتب : عمر الحسيني - بتاريخ : 11/05/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *