ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً …
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات
ولم أَجتهدْ
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً !
(محمود درويش)
كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟
ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
حمّالة صدري
نَمَوْت في جسدي مع كثير من المخاوف، أتذكر جيدا أن أول عضو تحسسته في جسدي كان صدري، فعلت ذلك حتى أختبر إن كان سوف يسبّب لي عارا وهو ينمو، وكنت أتوقع أنه سيظل ينمو، فيخرج عن سيطرتي، فلا أستطيع أن أوقفه، لا أعرف إن كنت قد تخيلت أن نهدا واحدا أو نهدين أو شجرة نهود سوف تعيش في الحياة وتتدلى منها أمرأة صغيرة، وسيحمل كل ذلك اسما واحدا هو اسمي: أحلام؟ إلا أن هذه التلال الصغيرة، وهي تصعد دون خطة، أكلت رأسي بصمت، دون أن أفكر أن أبوح لأحد بسرّ الأسرار، لقد بدا لي أن لا أحد في محيطي مهيأ لاحتمال هكذا كارثة، بثرة صغيرة تنمو في خد، ورغم أني لا أتذكر تماما من أين أتت كلمة عار، و إن كنت قد عرفتها فعلا أم اختلقتها، إلا أنني عندما أفكر بالمعرفة الآن أرى أنها ماء انسيابي، لا تقاس وحدته بوزن كتلتها بل بتركها تنحدر، وهذا ما رأيته يحدث ويستمر في الحدوث؛ انحدرت كلمة “عار” وبيدها رفقة، تتقدم واحدة على الأخرى، وقد تتجاوران، بروز صغير يشبه نتوءا سبّبه خلد في سطح التراب، فقد واظبتُ، في فصل الربيع، على اختبار نتوءات الخلد التي كانت عبارة عن أكوام من التراب الذي فرمته هذه الحيوانات العمياء، وهيّأته كوجبة كيك هشّ لأي راغب في الطبيعة الصامتة، تحسست الأكوام التي أحدثتها عائلة الخلد التي لم ألتق بأي من أفرادها في أي يوم، على رؤوس أثلام الحقول، وفي حواف تجويفات الماء التي سببتها السماء في الأرض وهي تعض جسدها في أماكنها الحميمة، فكنت عندما أتحسس الكيك الهشّ يبدو لي بنعومة عضو أنثوي صاعد في الحياة لن يكبر أبدا، ولن تراه عين غير عيني حتى عين الخد الذي أحدثه لن تراه، ولن تلمسه يد أخرى غير يدي، حتى أيدي البنات من هن في مثل عمري، واللواتي لهن درنات مثل درناتي، ولقد آلمتني تلك المعرفة المتوحّدة، فلم أبح بهذه الأوصاف لأحد، حتى جاء عام 2013، فوجدت شخصية، في واحدة من رواياتي، مستعدة لقول ما أردت قوله، امرأة تستقبل الأجساد في مرورها نحو الحياة، في صورة مواليد جدد، وتودع الأجساد، في عبورها من الحياة، في هيئة راحلين. لقد كانت الحاجة زهية في رواية “أشجار للناس الغائبين”* أفضل من تكلم بلسان دفنته في أعشاش المناجذ! وعندما أحب أن أتخيل صورة الآن في حديثي عن بعض جسدي، أحب أن أتخيلنا أنا والحاجة زهية، بُنيتان عاريتان، طفلة وعجوز، تقفان فوق تلة صغيرة، بحجم نهد طفلة طالع من صدرها، وكل واحدة يداها منسدلتان على جانبيها، ولا يبدو من ملامح وجهينا إن كنا نبتسم أم نتألم.
حدث “ اختبار النهد” أول مرة في الصف الرابع، أي في عام 1985، استمريت تلك الأيام أحفر بيدي في الخط الفاصل بين حدود قفصي الصدري وحدود بطني، أتذكر الأمر الآن، وأعرف أنه لو كان بالإمكان شق قناة في جسدي لأحدثت، بالمواظبة، واحدة هناك، ولسميتها، لاحقا: قناة الرعب.
أدخل بيتي، وأول ما أقوم به، هو أني أسحب حمالة صدري وألقي بها بعيدا، وعندما أفكر بالخروج، من البيت، أحاول، معظم الوقت، أن ألبس ملابس فضفاضة تخفي قفصي الصدري وتلَّتيه، وتؤمن لي خروجا مريحا دون قيد يقيد البروز ويسدّ فم القناة التي تحته، ويخنق ثمار شجرة النهود، ويشنق المرأة المدلاة.
بعد خمس وثلاثين عاما مازلت مشغولة بحماية القناة التي شققتها في طفولتي، أسعى أن أؤمن لها ما وسعني سيلانا مرحا في حياة معتمة، عيون الناس فيها مفتوحة وتراقب، لكنها لا تسمع هذه القصص التي سأرويها، وقد تُضحك بعض صديقاتي، وأنا أرفع أحد طبقات الثياب الشتوية قائلة:
صح، مش باينين؟
كنت قد حصلت على أول قيد متأخر قليلا، أخبرتني إحدى صديقات طفولتي أنها حصلت عليه في الصف الرابع، كنا نعيش في مكانين مختلفين، وتحت ظروف مختلفة، لقد أمّن لها هذا الحصول المبكر بروزا مدفوعا من تلقاء نفسه، عمةٌ طيبة وحنونة، أرادت أن تضمن لابنة أخيها صدرا مشرئبا أكثر من أنفها، في حياة لن ترحمها لاحقا، وهي تتفحص حضورها في حفلة الحياة، فأمّنت لها منذ طفولتها حمالة صدر محشوة بقسوة، ولقد حصلت مقابل صديقتي على أنف مشرئب يشبه أنف أبي، قال لي طبيب تجميل التقيته صدفة في مدينة بيروت عام 2017 عندما سألته، ماذا لو كنت ستعدل شيئا في وجهي، فأجاب:
أنفك!
قلت له إنّ إجابته خاطئة، فقد يصبح أي جزء في جسدي موضوع حوار إلا هذا، فقد أمّنته وحدي على مدى سنوات من حروب فتية وبعضها مراهق، وبعضها عجوز، وبروز سائل، في قفصي الصدري، سألته ماذا لو أردت شق مجرى آخر له، كم يكلّف الأمر؟
حصلت على القيد في الصف السابع، سأرفع به هذا البروز فوق القناة، فأبدو كمن يرفع أغصان شجرة لبلاب فوق سور حديقة، في ذلك العام سال من بين فرعي نهر لون مائه أحمر، وللصدفة فقد كنت قد حصلت في العام نفسه على بلوزة لونها أحمر، بها ورود بِبَرق، من بائع متجوّل، اعتاد أن يتجوّل في المناطق النائية، في فوكس فاجن لونه أزرق، ولو فكرت بالحديث عن الملابس فسأحكي بحب عن أجمل ما أسدلته، فوق جسدي من ثياب، وهو ثوب نوم واسع حصلت عليه هدية من زوج أختي الكبيرة، أحضره من السعودية عام 1980، حيث كان يعمل عامل بناء، وكان حينها يرسل، بين فترة وأخرى، هدايا، وصورا له مع رفقة يضحكون وأكتافهم تتكئ فوق بعضها البعض، ثوب نوم بأردان فضفاضة، وحواشي مخرمة، وحواف مفتوحة، كل ما فيه يهئ فرصة للطيران، ويحرض عليه، لطفلة بدا أن هذا العالم، لن يسعها، حتى وهو بحركة عكسية لما يراه الآخرون، بدأ صغيرا واستمر يصغر عليها، وكانت البلوزة ذات اللون الأحمر فرصة ثانية لم تتكرر حتى الآن.
لا أتذكر لون حمالة الصدر الأولى التي استخدمتها عندما تخلت عنها أختي، فوجدتها ملقاة بين الثياب، أو قذفتها لي قائلة:
خذي.
فاصطدتها كأني أصطاد عظمة لغزال أكله الصياد، وترك عظمه كإجابة على سؤال:
ماذا سأفعل به؟
وعندما أحاول أن أتخيل الحمالة بلون ما لا أنجح، فأستريح لفكرة أني لم أحصل عليها أبدا، وأنني فقط تخيلت ذلك، ومن شدة ما تخيلته، حصلت على واحدة من لحم، رفعت بها التلتين إلى الأعلى، فتنفست القناة، واشتد خيط الرعب على القوس، وانطلقتُ في الغابة في صورة ما أنا عليه.
صدرت للكاتبة رواية أشجار للناس الغائبين بالعربية عام 2013، في رام الله، فلسطين، وترجمت الرواية إلى اللغة الإنجليزية في أيلول عام 2019، في المملكة المتحدة، بعنوان:Trees for the absentees
كاتبة. فلسطين