بـوغـانفيـليـا

وبعد،
كنت أجلس في ذاك المقهى البعيد الذي يدير ظهره للبحر وينظر إلى الشارع في بلاهة. أمامي فنجان قهوة. وأمام المقهى، على الرصيف كرم بوغانفيليا مزهر. حولي كراسي فارغة وأخرى تحمل في صبر وأناة ثقل الزبائن. يتنقل النادل في المساحة الضيقة بين الطاولات بخفة لا يبطئها مئزره الذي يصل إلى ركبتيه.
في الخامسة وعشر دقائق حسب التوقيت الصيفي، وصلت صديقتي. رأيت ابتسامتها وحذائها الجديد أولا.
–        بالصحة والراحة، قلتُ في استقبالها. لم تكن لتغفر لي تجاهلي لجديدها حتى لو تعلق الأمر بحذاء فقط.
–        أليس جميلا؟ إنه أبيض علّ أيامي تفقد بعض سوادها.
ونظَرَت صوب الطريق بينما تهاوت ابتسامتها على الأرض، خطا فوقها شاب يتقدم فتاة. انشغلتُ بالقادمين لكي لا أسأل صديقتي عن سبب حزنها؛ حين تشعر صديقتي بالوحدة تشتري حذاء جديدا.
وبعد،
على الطاولة فنجاني قهوة وقطعة حلوى؛ حين أحزن ألتهم الحلوى. صديقتي لا تسألني. تنظر إلى جارينا، الشاب والفتاة وتهمس لي:
–        حقيبتها رديئة جدا.
أتأمل كرم البوغانفيليا، وأجيبها:
–        قيمة الجمال تحددها عين الناظر.
–        الجمال واحد، تصرّ.
أطلب كأس ماء آخر من النادل بينما صوت جارينا يرتفع. ألتهم قطعة حلوى وأنتظر مرور الوقت. المساء أحيانا يتمدد كحبل بدون نهاية. لا شيء، لا أحد ينتظرني في أي مكان. كيف يهرب كرم البوغانفيليا من الضجر؟
وبعد،
طلبت صديقتي عصير برتقال.
–        يجب أن أتوقف عن شرب هذا البن الثقيل، قالت.إنه يضر البشرة.
أتمتم ما يشبه إجابة. في الشارع المقابل، تتوقف سيارة أجرة. أنشغل بها. وأرشف مزيدا من القهوة وأتناول قطعة حلوى.
–        تذكرني حقيبتها بالثقب الأسود. كأنها تمتص كل حويتها. أنظري كيف تبدو شاحبة.
أتابع انشغالي بسيارة الأجرة. يُفتح الباب الخلفي. ألمح ما يبدو لي قدما وضعت على الأرض.
–        ربما تربطها بالحقيبة ذكرى معينة، أجيب.
–        ذوقها في الرجال رديء أيضا، لا أحب صديقها، تضيف.
يخفت صوت جارينا. يضع النادل فوق طاولتنا كأس ماء لم نطلبه. كرم البوغانفيليا يضحك حين يتموضع أمامه عاشقان لأجل صورة. خلفها، تعاد القدم إلى داخل السيارة، يغلق الباب الخلفي، وتتحرك سيارة الأجرة مبتعدة.
يرتفع صوت جارينا من جديد. تضحك امرأة إسبانية مع ابنتها. يضع النادل الفاتورة أمام رجل لم يتوقف عن التدخين. يضع أمام رجل آخر قطعة حلوى. تمر سيارة مسرعة. تمر أخرى مبطئة. يودع كرم البوغانفيليا عاشقيه. أراه يمدُّ غصنه كأنه يتبعهما.
وبعد،
أكملتُ قطعة الحلوى. أمامي الآن صحن أبيض فارغ. صديقتي صامتة. كرم البوغانفيليا منشغل بشيء ما. النادل واقف أمام الباب. غادر الرجل المدخن. احتلت امرأة تبدو في الخمسين مكانه. تقطع صديقتي صمتها القصير لتقول:
–        فتح محل جديد للأحذية، هل نذهب إليه غدا؟
أفكر بالوقت الطويل مثل الحبل.
–        فليكن، أجيبها.
يبدأ صمت آخر بيننا. تتطلع صديقتي لحذائها الجديد. أتطلع للصحن الفارغ. يعج المقهى بالصور وبالأصوات.

وبعد،
على الطاولة، فنجانان فارغان، كأسان فارغان وصحن فارغ. حولي كراسي محملة بثقل العابرين. خلف المقهى بحر. أمامه شارع ورصيف عليه كرم بوغانفيليا.
«باااخ»
ألتفتُ صوب الصوت الغريب. تلتقي عيني بعيني الفتاة، فيهما دهشة وخوف. خلفها، يد الشاب معلقة  في الهواء؛ آثمة.
تضم الفتاة حقيبتها الرديئة إلى صدرها وتصمت. أصمتُ أيضا. تصمتُ صديقتي. النادل والمرأة الإسبانية وابنتها والمرأة الخمسينية والرجل الآخر، جميعنا نصمتُ. وحده كرم البوغانفيليا يصرخ بصوت مرتفع يصل إلى السماء السابعة:
–        لااااااااا.


الكاتب : فاطمة الزهراء الرغيوي

  

بتاريخ : 09/08/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *