حوار الكاتب الإيطالي اليساندرو باريتشو، لاسبوعية «ليكسبريس» الفرنسية:

لاجدوى من الفصل بين العالم الإفتراضي والواقع المادي

 

يتفرد اليساندرو باريتشو، الكاتب الإيطالي المعروف، بنفسية متقلبة تنتقل بين مزاجه اللاتيني و شخصيته الغريبة، سمة شخصية أمكنته من تفسير الثورة الرقمية، بشكل واضح و معمق اكثر من أي شخص آخر، ثورة ذات تداعيات فاقت النجوم، لكنها بدأت من عالمنا اليوم، وذلك إستنادا إلى خبرته الأدبية، ومجال عمله ككاتب للمقالات، و مؤلف روائي و مسرحي معروف.
أنغمس كاتبنا في روايته «اللعبة» أو ««The Game، الصادرة في سنة 2018، وفي سنة 2019 لدار النشر «غاليمار»، في استكشاف العوالم الطبقية لأصول شبكة الانترنت، وباحثا في النطاق الانثروبولوجي لهذه الطفرة، التي جعلت من حياتنا أسهل مما مضى، وساهمت في مجابهتنا لفيروس كورونا المستجد.
مكنتنا الشبكة العنكبوتية، أو شبكة الانترنت، من تطوير آداب حياتية يومية جديدة، لاسيما إبان فترة الحجر الصحي العالمي، إذ عاد من السهل مواكبة روتين العمل عن بعد من المنزل، كما اصبح من السهل بمكان متابعة حصص اليوغا أيضا، استنتاجات توصل إليها الكاتب الستيني من تورينو الإيطالية، سواء بهاتف ذكي أو لا ينتظر مثلنا، العودة إلى الحياة الطبيعية بمرور آمن.

 

هل عجل الحجر الصحي المنزلي، تحولنا نحو الحضارة الرقمية؟
pp إنني على إقتناع بذلك. يلاحظ بان جائحة كوفيد19، قد مكنت الجميع من رفع المقاومة النفسية للفيروس، كما يعتبرها الكثيرون كمفتاح تكنولوجي، ساهم في تعزيز إستخدام التكنولوجيا الرقمية التي جلبت بدورها، عالما إفتراضيا ثانيا يهدد العالم الواقعي، إلا ان ما يعتبره الكثيرون، قد يكون منافيا لأرض الواقع. إن مشاركتنا، في الجر الصحي دون عتادنا من العلاقات الإجتماعية، قد عزز إدراكنا بأهمية علاقاتنا المادية و الإنسانية، بالرغم من هذه التكنولوجيا، ذات القدرة على إمتصاص مشاعرنا، أدوات رقمية تعزز بشكل او بآخر واقعنا المادي.

ما الذي لا يزال مفقودا لدينا، من هذه الثورة العقلية و التكنولوجية؟
pp إننا نثابر في رسم خط فاصل، بين الواقع الإفتراضي و نظيره المادي الواقعي، في حين ان هذا الإنقسام لا جدوى من ولا معنى له. إن العبقرية الرقمية، تكمن في خلق واقع موحد، تحركه قوتان أساسيتان، تنبثقان من الإتصالات عبر شبكة الانترنت، والتي توفر لنا الفرصة، للإنتقال بين العالمين بسلاسة. إن معيشتنا اليوم، ترتبط بشبكة الانترنت، التي نترك فيها قطعا من أنفسنا، ونعبر فيها عن آرائنا، و نتخد منها موسوعة لإثراء تجاربنا، وتمكنا من العودة إلى الواقع.
منذ ظهور الهواتف الذكية، أصبحت البشرية على علاقة، قائمة حول ثلاثية «الإنسان-لوحة المفاتيح-الشاشة»، أي ان الهاتف الذي الآن هو إمتداد لأنفسنا، ولا يمكن مقارنته بالحاسوب بأنواعه، والذي هو مجرد وساطة بين الإنسان و المادة، في موضوع معقد يصعب تفسيره.
إن من هم في عمري، يميلون إلى التجربة الرقمية، كنوع من الإسقاط الإفتراضي، في حين ان أطفال اليوم، يتطورون مع النظام دون طرحة أسئلة الواقع أو الإفتراضي، نفس الشيء يتبادر إلى ذهني، بخصوص هذه المقابلة الإفتراضية، عبر تطبيق «سكايب»، وهل هي جزء من واقع لا معنى له بالنسبة لكلينا، إلا ان الأمر المهم هو تبادلنا للأفكار فيها.
هل يمثل الحجر الصحي، وتوقف الإقتصادات الدولية ما تسميه ب«عالم الأمس»، عالم من الحواجز والتفكير المغلق، يشابه شكل عالم «اللعبة»، وخرائطه لا-نهائية؟
pp يتمتع الواقع الرقمي، بخاصية واحدة مهمة جدا، تكمن في إشتماله على عالم كامل بداخله، يحتوي صورا ومقاطع فيديو، ومعلومات وكلمات وأشخاص، عالم خفيف سهل الولوج إليه، بيد ان البيانات فيه لا تزن شيئا مذكورا، وهي سهلة التعديل والتطوير، سهولة مقلقة بسعر منخفض. يمكن تشبيه شبكة الانترنت، بكتاب مفتوح منسوج على شكل شبكة العنكبوت، ليس لها حدود واضحة البداية أو النهائية، الأمر الذي يسهل على الجميع دراستها وإبداء وجهة نظره بها، أي أنها ثورة عقلية حقيقية.
لقرون مضت، إعتمدت حضارتنا على الترتيب العمودي، أي بوضع العناصر من الأعلى إلى الأسفل، أو بدا من السطحية و صولا إلى العمق، حيث ان جوهر التجربة لم يكن متوفرا سوى عبر الوسيط. على عكس الاعتقاد السائد الآن، فإن التمرد الرقمي لم يدمر هذه النواة، بل أعادها معه إلى سطح العالم، في مطابقة ما بين المظهر و الجوهر. في الماضي، كانت هناك طاولة لعب منفردة، لعدد لا نهائي من اللاعبين، أما اليوم فهنالك لاعب واحد، لعدد لا نهائي من طاولات اللعب.
«نحن نعيش داخل الانترنت، ونترك فيه قطع من أنفسنا، ونعبر فيه عن مشاعرنا، ونعلن فيه عن أفكارنا، نخز فيه باستمرار خبراتنا المتراكمة، التي نستعين بها في حياتنا الواقعية»

ما هي نتائج هذه الطفرة التحولية، خلال أوقات الأزمات، على غرار ما نعيشه اليوم؟
pp اليوم، سواء في إيطاليا أو فرنسا، من الواضح ان القائمين على الوضع، ينتمون إلى النخبة الفكرية البالية، تلك التي كانت في القرن العشرين، لان تقنيتهم تتمحور حول «الحرب» ضد الفيروس، مستعينين بتفكير يعود لحقبة الحرب العالمية الأولى، على غرار خطة «15 يوما»، أي أعطونا خمسة عشر يوما، لتطبيق الإجراءات الفلانية، وخمسة عشر يوما أخرى لضبطها، وهكذا دواليك.
لو أصطدم العالم الرقمي، بفيروس يشابه كورونا المستجد، لكانت سلطاته قد تفاعلت مع بوادر الازمة الاولي، كما يفعل أي «لاعب»، باعتباره الشخصية الرئيسية للثورة العقلية، القادر على التعامل مع كمية كبيرة، من المعلومات في وقت قياسي، والتكيف مع المستجدات في لحظتها. يعلم ال»لاعب»، بأن رغبته في التعرف على العدو، ستوجب عليه التحرك بشكل دائم، بغرض مضاعفة نقاط المراقبة لديه. نفس الشيء، ينطبق على لجان الازمة الحكومية، التي توجب عليها الإستعانة بعلماء الرياضيات، و المحللين الإحصائيين، وعلماء النفس و الفلاسفة…

 

نعلم بان الوباء، يغذي الرغبة، في السيطرة وفرض الحدود. هل ترون في ذلك، ما يشبه مقاومة «العالم القديم» التابع للقرن العشرين؟
pp نعم، واجد ذلك مفاجئا. يميل المرء إلى الاعتقاد، بأن المعدات والأدوات الرقمية، قد وجدت طريقها إلينا عبر السماء، أو أرسلها احد الآلهة المنتقمين، أو صنعت من قبل الشيطان الرأسمالي. على العكس من ذلك، فنحن البشر، خصوصا آباء الثورة الرقمية، كمبتكر الانترنت «تيم بيرنرز لي»، أو «ستيف جوبز» مؤسس أبل، من قمنا بصناعة الأدوات التقنية، وذلك لنسيان فترة بشعة من تواجدنا.
إن هؤلاء الرواد، من المهندسين وليس الفلاسفة، لديهم حضارة تقوم على أسطورة على التفرقة و الديمومة، أي أنها تستند على الحدود، على الفئات الفكرية، على الجمال و الحقيقية، وغيرها الكثير… تمثل هدفهم الأول في الحركة، مصممين أدوات تكنولوجية، قادرة على التميع و تهديم الحواجز و الوسطاء. هذه الأدوات كانت طفرة ضخمة، مماثلة للمرور من العصر القديم إلى حقبة التنوير، لكن، و لسوء الحظ، لم تشمل الموجة الجميع، ليبقوا خارج «اللعبة».
من الملاحظ أيضا، فقد البعض منهم، لمكانتهم وأسباب وجودهم، على سبيل المثال محلات البقالة في مواجهة أمازون، وهناك أيضا الانتهازيون، دونما خطة حقيقية للمستقبل، دون ان نغفل عن العالقين في الحضارة الرومانسية.

 

ما الذي تعنيه بذلك؟
pp إنهم يتقدمون بهدف موحد، هو صناعة نسخة محسنة، من ماضي أثر فيهم و تعلقوا به، معتقدين بقدرتهم على عدم تكرار أخطاء من سبقهم، فبالنسبة لي، فإن عودة القومية تستجيب لهذه الرؤيا، يؤكد مساندها على قدرتهم، في تجاوز إعادة إحياء الحرب، متحججين بان مؤسساتنا قد إعتبرت من دروس القرن العشرين. إن إستحضار الهوية الوطنية، إضافة إلى الدين و التقاليد هو نهج و موقف مفهوم. من هنا نطرح التساؤل التالي: «هل ستساعدنا المواجهة العالمية الموحدة، لفيروس كورونا المستجد، على التفكير كمجتمع بشري واحد، ذو مصير واحد؟»، لا أظن ذلك، بيد ان المدافعين عن البيئة، يطرحون نفس التساؤل.
*تتيح التكنولوجيا الرقمية، رصد وتتبع الأفراد عن كثب، كما يتضح من النقاش الدائر حول تطبيقات التعقب، المخصصة لإحتواء إنتشار الفيروس. أليست قراءتك للثورة الرقمية، هادئة بشكل مبالغ فيه؟
-يجب ان نأخد تهديد الرقابة الإجتماعية على محمل الجد، إلا ان الحرية الشخصية شيء، والخصوصية شيء آخر، غير ان هذا المفهوم، لا قيمة له في الحضارة الرقمية. الأمر أشبه، بمن يمتلك منزلا يحتوي كل ما يريده، لكنه سيتفاجئ بولوج احدهم إليه دون دعوة مسبقة. لكن، في لعبة تتكون، من خمسة أو ستة منازل، فإن مثل هذا الإقتحام لم يعد له، نفس القيمة على الإطلاق.
من ناحية أخرى، إن كان الدخيل سيقدم، على سرقة معلوماتك الشخصية، فإن حريتك في هذه النقطة قد أصبحت على المحك، حيث أنني سأبدو اكثر لطفا في الواقع، إذ لا أرى كيف لتهديد الحريات اليوم، ان تكون اكثر فظاعة من تهديدات الماضي، خذ حرية المعلومة كمثال. في فترة طفولتي، التي قضيتها في إيطاليا تحديدا في سنة 1960، لم أكن اعرف سوى جريدة يومية واحدة، وقناة تلفازيه وحيدة، كانت تتحدث عن حرب الفيتنام، وحين بلغت الثلاثين من عمري، أدركت بان «فيت-كونغ»، لم يكونوا الأشرار في القصة.
إن نظامنا الحالي، يوفر فرصا لتصبح مواطنا ذكيا، اكثر مما كان عليه الوضع، قبل نصف قرن مضى. إن الخطر الحقيقي، من وجهة نظري، هو الدولة الرقمية. إن التحول الرقمي، المتحكم فيه من قبل قوة سلطوية، يبدو لي أكثر إشكالية من السلطة، التي أكتسبها تكتل «غافام». على الأقل، فإن لدينا القدرة، على إختيار الجهة الأنسب بالنسبة لنا، سواء أكانت «جوجل» أو «فيسبوك».
بالنسبة للتطبيقات، المضادة لفيروس كوفيد-19، يمكنني القول بأنه يمكن اعتمادها، وذلك إن أخدنا في الاعتبار حفاظنا على اليقظة الجماعية، أي نكون قادرين على معرفة كل شيء، يشمل الأمر طريقة عملها، والبيانات المخزنة بها، ولهذا وجب على الدولة، ان تفتح باب الإطلاع على التطبيقات للمجتمع المدني.

لقد أوضحتم مسبقا «إن الرقمية، قد «رفعت» الإنسانية، إلا أنها زادت من غرور الأفراد، ما قد يحولهم إلى كيانات فارغة»، فهل هناك سبيل لتجاوز ذلك؟
pp صحيح أننا عاجزون تماما، أمام الفردية الجماهرية غير المسبوقة، التي ولدت من اثر الثورة الرقمية، والتي سيتعين على الأحزاب السياسية الكلاسيكية، لمواجهتها ان تدرك المنطق إن كانت تريد الإستمرار وعدم الاندثار، فمن المؤكد ان التفكير السريع، اصبح ضروريا اكثر من التفكير العميق، لان الرقمية لم تؤسس للسطحية. في العصر الرومانسي، كان من الكافي الذهاب إلى دار الأوبرا، لتزويد نفسك بشحنة من الموسيقى.
في النخبة الجديدة من «اللعبة»، يفوز الشخص القادر على جمع، جميع عناصر اللعبة المتناثرة، وجعلها تتفاعل معا، وذلك باستخدام الأدوات، و الأطراف الاصطناعية، إلا انه ومن جهة أخرى، هناك أشخاص يثيرون الشفقة، وأيضا ذكاءات نبوية، لها القدرة على الدفع بنا إلى الأمام.


الكاتب : ترجمة: المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 12/05/2020