دراسات قرآنية 2- مصادر القرآن الكريم: قصة إبراهيم

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

البدوي قاطن الخيام:
منذ أن غادر أبراهام حرّان وهو يقطن الخيام (قارن مثلاً: عبرانيين 9:11)، متنقلاً من مكان إلى مكان وبرفقته قطعانه (تك 6:12؛ 13: 3-5). بعد عودته من مصر وانفصاله عن لوط، يفترض أنّ أبراهام أمضى كثيراً من وقته في كنعان مخيماً قرب بلوط ممرا في الخليل (تك 18:13، 1:18). وذلك قبل أن ينتقل إلى منطقة الفلسطينيين (تك 1:20، 1:18). في الخليل يقيم أبراهام تحالفات مع قادة عموريين محليين (تك 14: 13،21) ويتولّى قيادتهم في عمليّة إنقاذ لوط (تك 24:14) كان جيرانه يجلّونه كثيراً (تك 5:23)، مع أنه كان يعتبر نفسه على الدوام قاطناً غريباً (تك 4:23؛ قارن: عب 9:11 ). كان أبراهام يعتبر رجلاً ماديّاً (قارن تك 5:12)، ويقال إنّه بعد أن نزل مصر لم يغادر البلد إلا بعد أن صار رجلاً غنيّاً (تك 16:12). حين استدعى الأمر استطاع حشد 318 رجلاً متدرّبين على خوض المعارك (تك 14:14). هذا يعني أن العدد المفترض لأسرته لا بدّ أنه كان على الأقل ضعف هذا الرقم. في مرحلة لاحقة، حين تعامل أبراهام مع أبيملك ملك جرار، نرى أن أبراهام ينظر إليه على أنه مساو في المكانة لأبيملك، وذلك حسبما توحي به المعاهدة التي وقعاها (21: 22-31).
نقد المراسي التاريخيّة:
إن أكثر ما يلفت النظر في قصص الآباء هو استخدامها ”لمراس” ذات أبعاد تاريخيّة حقيقية في نصوص أبعد ما تكون عن التاريخ. – الأمر الذي قد يوحي أن هذه القصص تاريخيّة. لكن التوغّل القليل، وربما شبه السطحي، في هذه القصص، يكشف بسهولة أنّ المراسي التاريخيّة لم تستعمل من قبل محرّري التوراة إلا بهدف الإيحاء بصدقيّة ما يكتبون أو ما يحررون.
من أهم العناصر في قصص الآباء التي تبدو للوهلة الأولى تاريخيّة، الإشارة إلى الجمال المدجّنة أو إلى الشعوب الفعليّة التي كانت تقطن في المنطقة أو إلى بعض المدن المثبتة تاريخيّاً، أو حتى الإشارات إلى طرق القوافل. وكما أشرنا من قبل، فإنّ مؤلفي التوراة أو محرّريها ارتأوا إقحام تلك العناصر التاريخيّة في أساطيرهم لإخراج تلك الأساطير من الخانة الميثولوجيّة إلى خانة الحدث الواقعي. وفي اعتقادنا الذي وقفنا عنده مراراً فإنّ نصوصاً كثيرة من التكوين وغيره التي نظر إليها طويلاً على أنها وقائع لا يرقى الشك إليها، هي الآن لا تخرج بحثيّاً عن دائرة الأساطير: كقصص خلق العالم والعائلة البشريّة الأولى والطوفان وما شابه؛ فما الذي يبعث على الدهشة حين تصل بحوثنا إلى أنّ هذا السفر، التكوين، برمته، لا يخرج عن كونه ميثولوجيا مؤرّخة؟
نقد المرساة الأولى: شكل حياة أبراهام
– الفجوة الكبيرة بين حياة النبي والرواية المكتوبة 1.
نحن بحاجة أوّلاً لأن يكون بحوزتنا تاريخ دقيق لأقدم المصادر الممكنة المتعلّقة بالشخصيّات المذكورة في التوراة. يتضح من التوراة ذاتها أنّ موسى لا يمكن أن يكون مؤلّف كلّ أسفار التوراة، أي الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس العبراني، كما تدعي اليهوديّة التقليديّة، أقلّه أنّ نصّ موت موسى لا يمكن أن يكون قد كتبه النبي المفترض؛ والواقع أنّ هذه الأسفار كتبت بعد موسى المفترض بزمن طويل. ثمة آية في سفر التكوين تكشف لنا التاريخ الأقدم الممكن لتوليف النص: “وهؤلاء الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم، قبل أن يملك ملك في بني إسرائيل” (31:36). يتضح من الآية السابقة أن المؤلّف كان يكتب حين كان للإٍسرائيليين ملك على الأقل. لكننا نعرف أنّ أوّل ملك مفترض للإسرائيليين كان شاؤول، الذي توّج ملكاً عام 1025 ق.م. تقريباً. وهكذا فإنّ أٌقدم تاريخ ممكن لتوليف التوراة، أو أجزاء منها، هو القرن العاشر ق.م. يختلف الباحثون في تقديراتهم للتاريخ الدقيق لكتابة القسم الأقدم (المسمّى بالوثيقة “اليهووية”) من الوثائق المصدريّة لهذه الأسفار. يرى بعضهم أن الوثيقة كتبت في زمن قديم هو القرن العاشر ق.م. (خلال ما يفترض أنه فترة حكم سليمان، ابن داوود)، في حين يعتقد آخرون أنها كتبت في زمن أحدث من السابق هو القرن السادس ق.م. (خلال السبي البابلي). لكن الخوض في تفاصيل هذه التخمينات غير ذي شأن بالنسبة لتحليلنا الحالي. المسألة الوحيدة التي تستأهل الانتباه هنا هي أن الآية السابقة تعتبر الحدّ الأعلى لتاريخ توليف التوراة.
إذا انطلقنا الآن من أفضل جداول الكرونولوجيا الكتابيّة، نجد أن أبراهام عاش فرضاً في القرن الثاني والعشرين ق.م. (إن أفضل دليل على الشك التاريخي المحيط بهذا التاريخ، هو تواجد تقديرات متباينة عديدة لهذه التواريخ. فالتخمينات تقول إنه عاش في القرن الخامس والعشرين، الحادي والعشرين، والسادس عشر ق.م. على الترتيب، أي أن التخمينات تمتد لتشمل حقبة ألف عام). وإذا أخذنا أحدث ما تم تخمينه من تواريخ لهؤلاء الآباء مع أقدم ما تم تخمينه من تاريخ لتوليف الوثيقة اليهوويّة – بكلمات أخرى: سيناريو ”الحالة الفضلى” للمؤمنين – ستظلّ لدينا فجوة من ستمائة عام بين “أبراهام التاريخي” وقصته في التكوين. والباحث التاريخي روبن لين فوكس (مولود عام 1946) يضع هذا قبالة عينيه وهو يتحدّث عن أثر هذه الفجوة الزمنيّة في التأثير على تاريخيّة التوراة: ” إنّ فرصتها [التوراة] في أن تكون صحيحة هي في حدودها الدنيا، لأنّ أياً من هذه المصادر [وثائق التوراة المصدريّة] لم يكتب من وثائق بيّنة مبدئية، بل إنّ تدوينها استغرق قروناً، ربما ألف عام، بعد الذي يحاولون وصفه. وهنا نتساءل: كيف يمكن لتقليد شفوي الحفاظ على تفاصيله صحيحة خلال فجوة كهذه؟ إن أفضل ما يمكن القيام به هو تذكّر حدثٍ هامٍّ أو رحيلٍ جديدٍ: مثل… خروج الإسرائيليين من مصر… أما بالنسبة… إلى مآثر يعقوب أو أبراهام، فما من سبب معقول يوجب الاعتقاد بها“.
وهكذا باستثناء ذكريات اجتماعيّة نادرة للغاية لحوادث هامّة أو نقط تحوّل في حياة هذا الشعب، علينا تجاهل كلّ ما تبقّى باعتباره أساطير حظيت بالصدقيّة عبر قرون من التناقل الشفوي. كان لا بدّ أن نلاحظ هنا أننا لا نتجاهل كلّ الباقي باعتباره أساطير دون أيّ دليل. فالواقع أننا في حالات كثيرة حيث تتمّ الإشارة إلى حوادث أو أشياء يمكن التحقق منها تاريخيّاً، نجد أنّ القصص في الكتاب العبراني إمّا مزيّفة أو مشوّشة.
نقد المرساة الثانية: الجمال المدجّنة!
نلاحظ أنّ هنالك إشارتين إلى الجمال المدجّنة في قصّة أبراهام:
«ولمّا دخل أبرام مصر، رأى المصريّون أنّ المرأة جميلة جدّاً، ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون فأخذ المرأة إلى بيته. فأحسن إلى أبرام بسببها فصار له غنم وبقر وحمير وخدّام وخادمات وحمائر وجمال” (تك 12: 14 – 16).
«وأخذ الخادم عشرة جمال من جمال سيّده ومضى، وفي يده من خيرات سيّده كلّها، وقام ومضى إلى آرام النهرين، إلى مدينة ناحور. فأناخ الجمال خارج المدينة، بالقرب من بئر الماء، عند المساء، وقت خروج المسقيّات ” (تك 24: 10 – 11 ).
كما لاحظنا من قبل، فالتخمينات المتعلقة بتاريخ وجود أبراهام تتراوح بين القرن الخامس والعشرين ق.م. والقرن السادس عشر ق.م. والنصّ السابق يوحي ضمناً أنّ الجمل كان مدجّناً بل قيد الاستعمال في ذلك الوقت. لكن بالاعتماد على أدلّة أخرى بين أيدينا، فالجمال المدجّنة ببساطة لم تكن معروفة أيام أبراهام. والنصوص المصريّة من تلك الحقبة لا تذكر شيئاً عنها. بل حتى في ماري، المملكة المجاورة للصحراء، والتي ستبدو الأكثر حاجة لاستخدام الجمال، فإنّ مجموعة وثائقها الضخمة التي هي الآن بين أيدي الأركيولوجيين، لا تذكر مرّة الجمال في ما يفترض أنه كتابات من حقبة معاصرة لأبراهام.
بالمقابل، فالواقع يقول إنّ الإشارات إلى الجمال لم تبدأ في الظهور في النصوص والنقوش المسماريّة إلا في القرن الحادي عشر ق.م.، وبعد هذا التاريخ راحت الإشارات إلى الجمال تتزايد على نحو ملحوظ. هذا يعني ضمناً أنّ تدجين الجمال بدأ حوالي القرن الثاني عشر ق.م. أو قبله بقرن.
إذن، لا يمكن أن تكون هنالك جمال مدجّنة حين كان أبراهام على قيد الحياة، ولا بدّ بالتالي أنّ القصص السابقة إضافات متأخّرة على أسطورة أبراهام.


الكاتب : نبيل فياض

  

بتاريخ : 10/06/2020