دراسات قرآنية : مصادر القرآن الكريم: قصة إبراهيم

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

إذا كان اللاهوتيّون والأركيولوجيون متفقين عموماً على أنّ الإصحاحات الأولى من سفر التكوين ذات صبغة ميثولوجية فحسب ـ فقصص الخليقة والطوفان، كما هو مثبت من الموازيات الميثولوجية السورية من خارج التوراة، ليست أكثر من تنويعات عبرانيّة على أساطير بابل وآشور وأوغاريت وغيرها ـ فإنّ قصص الآباء، أي أبراهام – أو إبراهيم – وسلالته ما تزال تجد من يدافع عن بذرة تاريخيّة لتفاصيلها الميثولوجيّة البحتة. بكلمات أخرى، نجدهم يقولون، إنها أسطرة تاريخ لا تاريخ أساطير. بل إنّ هنالك بين المسيحيين الليبراليين من يدافع عن شيء من الصحّة التاريخيّة لأساطير من هذا النوع. ويرتكز هؤلاء بشكل خاصّ على أحداث أو أماكن أو أشخاص توحي للوهلة الأولى أنها تاريخيّة: لكننا في بحثنا التالي سوف نحاول أن نثبت أنها، حتى الآن، لا تعدو كونها أساطير. ألبست الصبغة التاريخيّة لأهداف كثيرة، أهمّها خلق ماض للشعب العبراني في دعاويه القوميّة. ورغم أننا من أنصار دعاة الحدّ الأدنى لاهوتيّاً، أي أولئك الذين يرفضون مقاربة التوراة من منظور تاريخيّ لأنها ليست كذلك، خاصة أعمال الباحث الدانمركي الهامّ توماس تومبسون، وأركيولوجياً من أنصار تيّار ما بعد اليهوديّة، خاصّة الباحث الإسرائيلي البارز يسرائيل فنكلستاين، فنحن لا ندعو إلى نهاية مقفلة في مقاربة التوراة نقديّاً، لأنّ أيّ اكتشاف جديد كقمران، يمكن أن يعيد المسألة إلى نقطة البداية، كما قال ييغال يادين ذات يوم.
لقد أقرّ الباحثون منذ زمن طويل أنّ قصة أبراهام لا تشكّل وحدة متماسكة، لكنها تجميع لأعمال أكثر من مؤلّف. والتحليل الأدبيّ للتوراة، الذي وضع أسسه يوليوس فلهاوزن وآخرون غيره في القرن التاسع عشر، تقرّ بوجود ثلاثة تقاليد traditions للقصة. يعود تاريخ أقدم هذه التقاليد، المعروف باليهووي – اسم الإله فيه يهوه – إلى ما يفترض أنّه زمن المملكة المتحدة (950 ق. م. تقريبا) ويصوّر بأنه يستخدم تقليد أبراهام لدعم مزاعم الإمبراطوريّة الداووديّة. أمّا التقليد الإيلوهيمي – اسم الإله فيه إيلوهيم – الموجود في سفر التكوين (الإصحاحات 20 -22، فيرجع بحسب مدرسة فلهاوزن أيضاً إلى ما يسمّى بزمن الأنبياء (القرن الثامن ق.م. تقريباً). من ناحية أخرى، فالمصدر الكهنوتي هو من حقبة ما بعد السبي (400 ق.م. تقريباً)، ويمكن أن نجده في آيات من تكوين 17 و23 وفي مقاطع كرونولوجيّة أخرى. مع ذلك، فالنقديّة الكتابيّة المصدريّة عرفت تطوراً متلاحقاً حيث احتدم الجدل حول دقة التواريخ المعطاة للتقاليد آنفة الذكر، كما أنّ العلاقة بين تقليد وآخر بدأت تفهم على نحو مختلف. من هنا، فإنّ بعضاً من القصص اليهوويّة الأولى وما يسمّى بالتقليد الإيلوهيمي قد تمّ استخدامها من قبل المؤلّف اليهووي إضافة إلى مادّته الخاصّة لتشكيل قصّة أبراهام الكتابيّة باعتبارها تقليداً قوميّاً بارزاً في حقبة السبي. وكاتب النصّ الكهنوتي قام ببعض الإضافات في حقبة ما بعد السبي، في حين أنّ قصة ملوك الشرق، التي سنتناولها بشيء من التفصيل لاحقاً، والتي ترد في تكوين 14، هي الإضافة الأخيرة والتي ترجع إلى الزمن الهلنستي.
من هنا يمكن أن نفهم كون السمة الأساسيّة للتقليد الأبراهامي هي احتواؤه عدداً من القصص القصيرة والتي ينقصها الترابط لتكوين رواية مستمرة. وهذا يدعم الرأي القائل إنها تعكس مرحلة تقليد شفوي قبل أن تجمع في عمل أدبي. أكثر من ذلك، فالواقع القائل إنّ عدداً من القصص يظهر مزدوج الرواية يوحي بأن التنويعات على التقليد وجدت طريقها إلى مصادر أدبيّة مختلفة. لكن الروايات المزدوجة هي تعديلات أدبيّة تمّ تأليفها بحرص فعلاً القصد منها تقديم وجهة نظر المؤلّف واهتماماته الدينيّة.
أمثلة توضيحيّة:
هنالك قصتان تتناولان مسألة كيف يقدّم أبراهام زوجه على أنها أخته ليحمي نفسه في بلد غريب. الأولى (تك 12: 10-20) لا تعدو كونها ببساطة حكاية فولكلوريّة مسليّة حيث يظهر أبراهام كرجل يخدع المصريين ويعود منهم بزوجة وبالثروة. النسخة الثانية للرواية تحاول تنقية أبراهام من أية شوائب أخلاقيّة (تك 20). مع ذلك، ثمة نسخة ثالثة من الرواية نجدها في تقليد إسحق (تك 26: 1-11)، والتي تستخدم عناصر من النسختين الأقدم، مع التركيز هنا على هداية لله ومعونته.
رواية هروب هاجر (تك 16) وطردها لاحقاً مع إسمعيل (تك 21: 8-21) هي أيضاً ازدواجيّة. الأولى هي إيتيولوجيا إثنيّة ذات علاقة بأصل الإسماعيليين وطبيعتهم؛ أما الثانية فتنحصر في تحويل هذه المقولة إلى سمة لوعد إلهي لأبراهام، كون إسمعيل من نسله أيضاً. نلاحظ، بالمناسبة، أن النسخة السبعينيّة من التوراة تضيف على النص العبراني مقولة أنّ سارة كانت حزينة حين رأت إسمعيل «يلعب مع ابنها إسحق».
اسم أبراهام:
حتى الآن لا توجد أدنى إشارة إلى أبراهام التوراتي في أيّ ممّا تمّ اكتشافه من آثار في المنطقة المحيطة بفلسطين. فعلى الرغم من اكتشاف أرشيفات ضخمة، فالفجوات في معارفنا ما تزال هائلة. ومن غير المفاجئ أنّ الإشارات إلى مجموعة عائليّة بعينها، على الرغم من وجود مجموعة كبيرة الحجم، فشلت في أن تستمر. مع ذلك فإنّ تنويعة على أبراهام، هي «أبوراهانا»، ترد في نصوص مصرية من القرن التاسع عشر قبل الميلاد. بقي أن نشير، بالمناسبة، إلى أنّ اسم إبراهيم القرآني يظهر كإبرهيم حيناً وإبراهيم أحياناً.
أبراهام كمواطن مديني:
لا يخبرنا الكتاب المقدّس أيّ شيء عن حياة أبراهام قبل دخوله أرض كنعان. فسفر التكوين (28:11) يقول إنّ أبراهام ولد في أور الكلدانيين، وهي مدينة سومرية هامة. لكنّ الإشارة إلى «الكلدانيين» على الأرجح خاطئة، لأنّ الكلدانيين لم يحطوا الرحال في آشوريا قبل عام 1000 ق.م. ومن أور، يفترض أنّ تارح قاد عائلته شمالاً إلى حرّان (تك 31:11) حيث استقرّوا لفترة من الوقت. ومع أنّ النص لا يذكر سوى تارح وأبرام وساراي ولوط، فمن المفترض ضمناً أنّ ناحور وملكة انتقلوا إلى الشمال (قارن سفر التكوين: 22: 20-24، 10:24). كانت حرّان مركز قوافل هامّ للهجرات العمورية. لكن ما من دليل من النص الكتابي يفيد في ما إذا كان تارح وأسرته قد استقرّوا في أي من المدن التي يفترض أنهم عاشوا فيها في بيوت أم في خيام؛ مع ذلك، يمكن أن نستشفّ من النص ضمناً أنهم عاشوا في بيوت. في موضع آخر من السفر ذاته، يقال إنّ عائلة رفقة كانت تسكن المدينة ( 10:24)، في أحد المنازل ( 23:24)، وذلك بالمقارنة مع عائلة أبرام التي كانت تسكن في الخيام (67:24). ولا شكّ أنّ الرحلة المفترضة من حرّان إلى كنعان أحدثت تبديلاً مدهشاً في نمط حياة أبراهام وعائلته.


الكاتب : نبيل فياض

  

بتاريخ : 09/06/2020