تتشكل معالم رواية الكاتب المغربي عبد النبي بزاز «هل سأعود يوما» في قالب واقعي اجتماعي، يعكس تفاصيل وطن مثخن بالجراح، الوطن الذي يرزح تحت نير البيروقراطية والمحسوبية، يطل علينا بطل الرواية «المختار»، في سياق سوسيوسياسي مضطرب، أدى إلى تجاذب مستمر بين إليأس والأمل، الخير والشر، والفقر الغنى، ثنائيات ترسي أسس الكتابة عند البزاز.
يعتبر العنوان من أهم العتبات الأساسية التي تواجه القارئ قبل ولوج عالم المؤَلَّف، والعنوان قد يشير إلى الجنس الأدبي الذي يمثله النص، وقد يشير مباشرة إلى موضوع النص، وبذلك يندرج ضمن ما يسميه الدكتور عمر حلي بالعناوين الموضوعاتية، فالعنوان هو تلك الحلقة التواصلية التي تربط بين المؤلّف والقارئ، وبواسطته يتشكل لدى القارئ سلسلة من المعطيات الأولية والتصورات القبلية لتأويل النص، وقد جاء عنوان الرواية «هل سأعود يوما؟» جملة استفهامية، تدل على نوع من الرحيل، قد يكون ماديا، وأقصد السفر والتنقل من مكان إلى اخر، أو معنويا، ذاتيا ورمزيا بالانقطاع عن الواقع. والسؤال هنا جاء طلبا لحصول معرفة مرتبطة بالمستقبل. كما أن العودة أيضا مقترنة بالنجاح، بمعنى إذا حققت ما أصبو إليه هناك، فسأعود إلى هنا، أي الوطن، مهما كان قاسيا، الانتماء يمد الجسور بين اسمي الإشارة، مهما كان حجم النهر أو الهوة بينهما….
لا نصبو في هذه القراءة المتواضعة إلى تتبع المعنى من خلال النصوص الموازية، بل الانفتاح على المتن أو النص المفتوح كما يسميه أمبرطو إيكو، هذا النص الذي يجعل المدلولات معطى للقراءة والتأويل، لذلك سنعتمد على مفهومين مركزيين في استراتيجية التفكيك، وهما الغياب والحضور، واللذين يمنحان النص المقروء إواليات لا متناهية لتوليد المعنى، المعنى الذي يتأرجح بين المركز والهامش، أو المزج بين الظاهر والمضمر في الكتابة .
ليس الغياب عدما، أو هدما للكائن ليتوارى وينتقل من منطقة الحضور إلى منطقة الغياب، بل هو في فلسفة جاك دريدا، علامة وسمة من سمات الحضور، الغياب في عوالم باريس أو فرنسا ليس إلا حضورا للمغرب بكل حمولته الثقافية، لذلك كان إحساس المختار بالغربة في العالم الجديد الذي يجهل عنه أكثر مما يعرف، يقول السارد: «توقفت رحلتهما بباريس ذات ظهيرة كانت فيها السماء ملبدة بغيوم داكنة. استشعر اغترابا فضفاضا مضمخا بدوخة طفيفة وهو يجول بنظراته في غمار طوق من زحمة وزعيق أزيز السيارات ومنبهاتها المنتظمة في إيقاع جوقة يتصاعد صخبها وتتضاعف جلبتها» ص 47، الاغتراب بهذا المعنى دلالة على حضور المغرب الغائب بعاداته وتقاليده وثقافته.
وعموما، تقف الذات الساردة بين خطين، يستتر أحدهما خلف الاخر، اليأس المفضي إلى الاستسلام والإحباط، وتتجلى في فترة ما قبل السفر، حيث ذاق البطل من أتون اليومي، وقساوة واقع لا يرحم، جاء في الرواية «إحساس بالغبن والدونية ينتاب المختار وهو يحمل صناديق الخضر والفواكه ليضعها في الشاحنة. عمل مضن وشاق ينتظره كل صباح في سوق الجملة للخضر والفواكه» ص 1، هذا بالإضافة إلى الانتكاسات المتواصلة التي تعرض لها، مثل رفض طلبه دخول الجيش لقصر قامته، أو الحصول على المال للسفر، هذه المعاناة الحضور، تخفي في منطقة الغياب أملا في التغيير الذي يجسده فضاء بحجم فرنسا، تغيير المستوى المعيشي، البحث عن الكرامة المرتبطة بالمجهول الأمل في المخيال الشعبي المغربي.
ويكتسي خط اليأس ألوانا مختلفة، هكذا أصبح الوطن مرادفا للألم وضنك العيش في تمثلات المختار والسارد. ومقابل خط اليأس، نجد خط الأمل بمستقبل ينعم فيه المختار بحقوقه، أو بتحقيق دخل مادي يسمح له بإنقاذ أسرته من لظى الحاجة والفاقة. هذا الأمل الحضور، يوازيه اليأس الغياب، غياب المغرب بحمولاته الثقافية، غياب منظومة معقدة من القيم والعادات والتقاليد، وتحضر في الرواية في فترة حلوله بباريس، جاء في الرواية: عند حلوله بالورشة استقبله المقاول أحمد بحفاوة وترحاب أثلجا صدره، وبدد عنه بعض ما اعتراه من إحساس بالغربة والوحشة. يكاد لا يصدق أنه سيشتغل تحت إشراف شخص من بني بلدته في ضواحي مدينة تعج بحركية دؤوبة ينتظمها إيقاع من جلبة وصخب لا تتوقف عجلة آلته عن الاشتغال والدوران» ص 49. مرة أخرى، يعود البطل إلى أصله، إلى الغياب ليكون حضورا، وليست العودة إلا انتصارا على واقع مرير، عاد مع زوجته الجزائرية حسيبة، ليكمل بناء منزل العائلة. وبهذا يكون قد حقق أهدافه الشخصية، ولعل هذا ما يؤخذ على توجيه الحدث، وأقصد التملص من الهموم الجماعية، لتصبح المعاناة والأمل فرديين، أو مرتبطين بالفرد….
لاشك أن الكاتب عبد النبي بزاز، برع في نقل معاناة الفقراء، بأسلوب كلاسيكي مشوق، ولغة سردية تنهل من الحكمة واللسان الدارج كما في قول السارد (دواير الزمان) ص 18، والأدب الشعبي «كانا يقضيان فيه عطلة الصيف ببيت والدهما في ضيافة الجدة التي لا تتوانى في إحاطتهما بعطفها وحنانها مشنفة مسامعهما بحكايات ظلت مشاهدها وعوالمها عالقة بمخيلتيهما، وأيضا الزيارة الوحيدة لبلد والدتهما وما حظيا به من عناية وحفاوة من عمة أمهما التي لم تبخل عليهما هي أيضا بحكايات تماهت مع حكايات الجدة في إثارة فضولهما» ص 112….
وخلاصة القول، يمكننا أن نقول إن عبد النبي بزاز، حافظ في مؤلفاته، على أسلوبه السردي المميز، مستعينا باطلاعه على الروايات المشرقية، ونهله من الحكمة والثقافة المغربية بصفة عامة لتشكيل عوالم الرواية، وهو ما يجعلها نصا مفتوحا قابلا للقراءة، ولعل هذه القراءة المستعجلة والبسيطة قد أفضت إلى ضرورة دراسة الرواية لمن يرغب في ذلك بالمنهج الموضوعاتي، حيث وقفنا عند موضوعات مثل الفقر، والهجرة، الأمل، اليأس، وكلها تشكل مداخل جديدة لدراسة هذا النص الماتع.