في حوار مع المتخصص في الآداب المغاربية والفرنكفونية حسن مستير

عبد الكبير الخطيبي: الآتي من المستقبل

 

حسن مستير كاتب وجامعي بكلية الآداب بالرباط، متخصص في الآداب المغاربية والفرنكوفونية وما بعد الكولونيالية. من أعماله بالاشتراك: «Des lieux de culture; Altérites Croisées, Mobilité et Mémoires Identitaires»،«Ce qui vient de l’avenir» , « Arts plastiques et littérature francographe au Maroc, Localité et mondialité »

 

 

يتحدث حسن مستير عن الكاتب الراحل عبد الكبير الخطيبي، مستحضرا هذه الأسئلة القلقة: لماذا نقرأ الخطيبي اليوم؟ وكيف نقرأه؟ وكيف نقرأه، بعيدا عن بارث ودريدا؟ ومن هم قراؤه الورثة الجديرون بإرثه؟ وما رهانه على القراء «الآتين من المستقبل» في استعارة حية للشاعرة الروسية «آنا أخاماتوفا».عن الدوار الأدبي الذي يصيب قارئه وقارئته، عن الخطيبي ذلك السنونو المرتقي والخاطف،وعن الشعرنة، في أعماله، بوصفها صيغة لتعطيل الواقعية، وإعادة ابتكار الواقع، مستخلصا أن فيه شيئا من مالارمي، وكاشفا عما بين الخطيبي و»داني لا فريير» من اتصال.
1 – شاركت ضمن كتاب جماعي حول عبد الكبير الخطيبي «الذي يأتي من المستقبل» وهو عنوان مستلهم من عبارة غاية في الجمال للشاعرة الروسية «آنا أخاماتوفا». ونجد أيضا ترجمة أخرى بالفرنسية: « مدعو المستقبل» أو «في ضيافة المستقبل». فوفق أحد معاني هذه العبارة فإن «أنا أخماتوفا» هي التي تدعو القارئ إلى القراءة.
p بوصفك ناقدا أدبيا أنت المدعو والضيف لقراءة الخطيبي، كيف ذهبت إليه؟
n لم أكن أتصور أبدا قراءة الخطيبي، يوما ما، ليس لأنه لم يتح لي عبر النص وقرائه –فقد كان بعض أصدقائي، وهم طلبة جامعيون، في التسعينيات، يتحدثون عنه، وأنا برفقتهم. كنت ما زلت كالمنغلق أمام معانيه. ما كان يتحدث عنه، وخاصة ما كنا نلتقطه من حوالينا، لم يخاطب في شيئا: الذاكرة، الاختلاف…وغيرها لم تكن ضمن قائمة موضوعاتي آنذاك. بحكم تكويني الفرنسي، فرغبتي كانت جامحة للاغتراب الرمزي، عبر الأدب، الأدب الفرنسي تحديدا، والغربي عموما. بالنسبة لي قراءة نص أو كاتب مغاربي، لم تكن تعني لي آنذاك، أكثر من إدراك الواقع نفسه، الذي أريد الهروب منه، عبر أساليب أخرى. قراءة مغاربي كانت بمثابة النظر من النافذة، لا شيء مختلف. كان علي إذا أن أستنفد ما بداخلي من وهم رمزي،بدءا بهكذا ميثولوجيا للهروب الرمزي من أجل تفعيل إنصات مغاير.
أتيت إلى الخطيبي من طرق مختلفة، عبر إدوارد سعيد، الذي أصبح لدي مألوفا، ثم بعد ذلك عبر «بهابها» و»سبيفاك»اللذين اكتشفتهما في 2008، أي سنتين بعد وصول الدراسات مابعد الكولونيالية إلى الأوساط الفكرية بفرنسا، في أجواء من المقاومة والتوتر، ولكن أيضا من سوء الفهم. الخطيبي مكنني من فك إشكالات، لم تطرح بنفس الطريقة أيام كان أصدقائي يقرؤونه. ربما كان الوصول المتأخر حظا وإكراها في آن واحد: أنت تكون على بينة مما قيل من قبل، ومما لم يقل كذلك، لكنك تكون مجبرا على قول شيء مختلف،عبر قراءة مغايرة.
2-يصيب النص الأدبي للخطيبي قارئه بالدوار. وإليك حالة إحدى قارئاته كما أوردها هو ذاته:» حكيت في أحد المواضع،أن محللة نفسانية بباريس اضطربت أحوالها بفعل كتابة «عشق اللسانين» وعمدت إلى تمزيق النسخة التي كانت بحوزتها…حركة من التحاب والجرح الحي. سألتها إذ كانت قد اقتنت نسخة أخرى. – أجابتني بالإثبات».
p أيسر في هذا الدوار الأدبي، هل لكونه ساحرا فاتنا ثقافيا أو لأنه يلمس اللاوعي والأنثوي؟
n ليس الدوار إلا اضطرابا في المعنى أو ترقيا في مدارج المعنى، وهذا الأخير يداهم فجأة وعي القارئ عبر درجة قصوى من التعقيد، يستشعره القارئ على حين غرة. لا يتعلق الدوار إذن، بالصعوبة، لكن بالأحرى، بالرفعة والسمو. استعارة طيران السنونو(الخطاف)التي أقامها حبيب بن صالحة، بكل براعة، في ندوة حديثة العهد حول الكاتب بمدينة الجديدة، بليغة جدا. قراءة الخطيبي هي ارتقاء وخطف في نظري، حيث تنتظرنا دائما فراغات هوائية، ومراحل غير متوقعة، كتلك التوقفات غير المنتظرة داخل جملته، التي تأخذ منعطفا مدهشا، تعيد هندسة المسار تقريبا. فهو نفسه يتحدث في كتاب «لغة الآخر» عن التركيب بوصفه شغفا. من الضروري العودة إليه، للوقوف على إلى أية درجة يتصور ذلك كبوتقة حيث اللغات محافظة على استقرارها، داخل التوتر الدائم. وهو ما ينتقل، بدون شك، إلى القارئ. الدوارـ في هذه الحالة تحديدا- هو أدبي، اختيار في الكتابة، مفروض على الكاتب، ينتقل بشكل شبه مباشر، من حالة الكاتب إلى حالة القارئ، نوع من «فعل -متابعة» إن جاز التعبير.

الشعر عند الخطيبي ليس مجرد إضافة،هل هويته شاعر؟
ما قلته عن التركيب ينطبق على ضبط البعد الشعري، في كتاباته النثرية. بدأ الخطيبي روائيا، إلا أنه سبق أن خاض تجربة في الكتابة الشعرية باللغة العربية. لا يمكن الفصل بين الشعر والنثر عند الخطيبي: فهو ليس من طينة الكتاب الذين يقررون متى يكونون هنا شعراء، ومتى يكفون عن ذلك هناك. لنتذكر هذا الرهان المعلن منذ «الذاكرة الموشومة»: «شعرنة كل شيء»! الشعرنة هي صيغة لتعطيل الواقعية، لكن أساسا، إعادة ابتكار الواقع،تبعا لقوانين الحساسية وتكوين متخيله. لكن، لنعد ببساطة إلى نقطة البداية، فليست هناك إعادة إبداع ممكنة خارج التركيب والتكثيف، ففيه شيء من «مالارميه».

ثنائية اللغة؟ إنها حظي، حافتي الشخصية، وطاقتي الجميلة لفقدان الذاكرة: لكنها ستكون أذني الثالثة. مصاب ببعض الانكسارات،سأنبعث متناميا- لا يتخيل ذلك ابدا- في اتجاه معاكس، في فصل لكل لغة أحادية» عشق اللساني نص 208. هل هي حالة الكاتب الكندي» داني لا فريير»؟هل من تقارب بين الخطيبي(الغريب المحترف) وبين « داني لا فريير»؟ حين يقول: « أنا كاتب ياباني»؟
يبدو لي أن حالة «داني لا فريير» مختلفة، فمن جهة، لأن وضعية اللغة الفرنسية في هايتي ليست هي نفسها في المغرب العربي. «لافريير» وريث تقليد لغوي يعود إلى نهاية القرن السابع عشر، يذكر بهذا الصدد أن وثيقة الاستقلال حررت بالفرنسية. فلا الكثافة الزمنية، ولا العلاقة الصدامية مع اللغة، كانتا متشابهتين. بالنسبة لكاتب كالخطيبي، كل شيء مر على مستوى نفس الحياة: استعمار، استقلال، ما بعد الكولونيالية، وهو ما عزز لدى الكاتب تحولا وتطورا في الوعي، وفي تملك الإشكالية اللغوية. بل أرى أيضا، أنه يوجد في هذا الصدد، تسلسل زمني نقدي، لم ينقب عنه بالقدر الكافي، وينبغي إعادة بنائه، لأننا نعالج فكره غالبا، كنسق سانكروني؛ فمن الضروري إقامة حوار بين أعماله، حيث يجاوز بعضها البعض الآخر. أفهم، بأخذ شيء من المسافة، أن الجدوى من سيرته الفكرية ليست لجرد الحصيلة، بقدر ما هي محادثة فكرية مفتوحة، أحدثها لزخم أعماله وحفزها حواريا، وبث الحركة فيها قبل الرحلة الكبرى. نصير إذن كقراء ورثة لهذا النفس الحواري من داخل المنتج الأدبي للخطيبي.
قد يتفق الكاتبان في معنى عبور الحدود الرمزية، أكثر من تلك الواقعية، أي عدم استقرار الذات ما-بعد الكولونيالية بحيث يمكنها العيش في واجهات ثقافية متباينة، وملء فجوات بين-ثقافية. وهذا قريب من معنى الترجمة الثقافية. بطريقة تقريبية في روايته» أنا كاتب ياباني» سنة 2008،»يتلاعب» لافريير، بنقاء وانسيابية، بالخريطة الكلاسيكية الناظمة للمؤسسة الأدبية العالمية. بطل الرواية هو كاتب يعلن هذه الصيغة الاستفزازية،» أنا كاتب ياباني»،وقد كان لها صدى غير منتظر، من طرف شخصية السفير الياباني بكندا، كما هو الحال، بالنسبة للجمهور الياباني نفسه في الرواية،وهو على بعد آلاف الكيلومترات من مونتريال. فما هو على المحك، بطبيعة الحال، هو الوطنية الأدبية وقوالبها (ألا يمكن لكاتب أسود مثلا أن يكون يابانيا). وأكبر قلب لتلك الخريطة سيحصل عند المسألة المطروحة،حول ترجمة هذه الرواية الفرنكوفونية إلى اللغة اليابانية: أن نقول باليابانية:»أنا كاتب ياباني» هي عبارة فارغة من المعنى، إلا أن نقصد بها نوعا من الوطنية، غير ذات معنى أصلا في النص.

الغريب المحترف،كيف يمكن تحديد هذه المفردة: استعارة أم موضوعة أم مفهوم؟
n هي وضعية ثقافية استثنائية أكثر منها شيئا آخر، أي طريقة للإقامة في المجالات وعبورها. لا نعثر على هذه الصيغة عند الخطيبي منفصلة عن التجريبي والذاتي. وهي ليست أبدا لا-شخصية، كما قد يصوره لنا المفهوم مثلا للدلالة على حقائق»موضوعية»: إذا لم أكن مخطئا، فهولا يحيل، في الكتابة الخطيبية، على حقيقة مجردة بقدر ما يدل على الذات التي يعكسها (شخصية أو مؤلف). نستطيع، في أقصى الحالات، الحديث عن» مفهوم إجرائي» إذا كان ولا بد من اللجوء إلى صيغة أكاديمية.

هل الخطيبي عصي على القراءة؟ ومن هم قراؤه بالفرنسية والإنجليزية؟

أكاد أقول إن النص ينتهي دوما بالعثور على قارئه، فهذا بالضبط هو رهان الخطيبي على الآتين من المستقبل. لقد كان واعيا تماما بهذا الرهان على المستقبل في الكتابة. القراءة المتمنعة لا تنحصر فقط في الأسلوب،وهي الصعوبة التي يمكن التغلب عليها بسهولة. فهي مرتبطة أساسا بالأفق النقدي: فالسؤال ليس كيف نقرأه؟ بل بالأحرى لماذا نقرأه؟ لما نقوم بذلك؟ بمعنى توظيف النص لغايات تفكيك شفرات ورهانات كبرى، لها علاقة بالماضي والحاضر والمستقبل. وهذا ما كان ينقص فهمي للخطيبي في البدء، أنا الآتي من إشكالات غربية صرفة. قلت لك، من كانوا حولي كانوا يقرؤونه لأجل جمال النص، بيد أنني وجدت الأحسن في مواضع أخرى، في متون أخرى أجنبية. ليس هذا هو المهم. سيظل الخطيبي دائما غير مقروء، دون وضع فكره في السياق.
بخصوص السؤال حول القراءة الناقدة، فلا يزال هناك الكثير مما ينبغي إنجازه، عمل ضخم ينتظر النقاد والمترجمين،قصد التعريف بأعماله، وخاصة مقترحاته النظرية الأساسية. أفكر هنا في النقد ما-بعد الكولونيالي واللاكولونيالي، الذي يجهل تقريبا كل مقترحاته، إلا عند القليل من المفكرين في فرنسا بحكم اللغة وأمريكا الجنوبية بدافع الاجتهاد. ربما قرأناه نحن أنفسنا، انطلاقا من بارث ودريدا ولم نسلك أبدا الاتجاه المعاكس. نذكر أن الخطيبي اعتبر التفكيك امتدادا لنقده اللاكولونيالي مثلا. ينبغي قراءته أيضا من منظورات أخرى، ارتباطا بوضع الفكر اليوم، ومنظومة العالم في شموليته: تفكيره بـ «المحلي»، بـ «السياسي»، بـ «المحايد»، إلخ..
هي أسئلة كثيرة ومتلاحقة،جديرة بإطلاق دينامية لما بعد الممات، انسجاما مع رؤيته، لإعادة تجسيد الفكر.


الكاتب : حاوره: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 19/06/2020