قمصان خضراء

 

يرفع كتفيه ويمضي. تردد كثيرا قبل أن يرمي ثوبه الأبيض الذي تفوح منه رائحة الكافور والمسك. لماذا تركوه وحيدا في هذا القبو وساحوا؟.. رآهم قبل قليل منهمكين في فتح دولابه. كانوا في أشد حالات الاضطراب. بعثروا القمصان الخضراء قطعة قطعة. وزعوا القطع الجديدة بينهم، وكانوا يحشرونها في أكياسهم ويغادرون بسرعة. ود لو يجهش باكيا. لكنه تذكر أنه رجل، والرجال لا يبكون. لماذا لا يبكي الرجال؟
لم أغمض عيني طيلة أسابيع. ما إن أتمدد على السرير حتى أشم رائحة اللحم المقدد، فأتذكره وأتذكرها. يطلب من أمي أن تهيء له طبق الكسكس بالقديد، ويدخل إلى غرفته ليغفو. لم يكن يعمل، كان يكتب فقط ويغفو. يغلق عليه غرفة السطح، ويكتب بدون انقطاع وهو ممدد على بطنه. غالبا يكتب على الورق اللامع، وحين يتعب يغفو أو يجرب القمصان التي كانت تأتيه هدية منها. لم يحدث أحدا عنها سواي. كان يقول لي: «إذا أردت أن تعرف امرأة خالطها جيدا. لا تترك تلك الأمواج الصغيرة التي يسمونها الحب تجرفك. لن تعود سالما..». أكتفي بالضحك، وأحيانا أتلصص على ما يكتبه. لم أكن أستوعب جيدا الأفكار الجافة التي يعبر عنها. أفكار تتكئ على بعضها بقوة كأنه يسعى لتحطيم شيء ما يجمح داخله. لم تكن جافة تماما. لنقل إنها ما يتألق في أحلامه. لنقل إنها امرأة مفترى عليها لا ينكر أنه يتعمد إخضاعها للإساءة، رغم أنها تغدق عليه القمصان التي يحبها. في آخر لقاء لهما، أهدته قميصا أخضر بأزرار تميل إلى السواد. تأتي بها من محلات شارع كالفر بأمستردام، وكان يفرح بها ويحشرها في الدولاب الذي كان يحتفظ بمفتاحه.
قبل أن يمضي، رأيته ينفض عن ذراعيه بعض الأوراق التي تسللت إليه من حيث لا أحد يدري. حدَّق وراءه، لا وجود لأشجار في هذا القبو. لا شيء سوى ظلام تُشَقِّقُه كتلات ضوئية بعيدة. رأى جمجمة تتدحرج قربه، ولم يخف. سمع قهقة تنكسر على صدره، ولم يخف. شعر بقليل من البرد، لكنه تابع الانحدار.. وامرأة بلون الماء ترفرف تحت جلده. لم تكن أمه التي رآها تنتحب وهم يعبرون به السرداب. حاولت منعهم بقوة. هاجت وصرخت إلى أن أغمي عليها. لم يكن بوسعه أن يفعل أي شيء. قمَّطوه وأوثقوه بالحبال وساقوه. مضوا به إلى بيت آخر بأنوار مطفأة.. لم يأخذ معه أقلاما، ولا أوراقا. لم يتخيل أنها هناك تنتظره. بيت مقفل بمدفأة يئن فيها الحطب ويفرقع. أريكة رمادية من ثلاث قطع. وسجادة ملئية برؤوس الطير. أخبرته أنها لم تعد تنظر في المرآة كثيرا كما تعودت. المرآة لا تعكس أي شيء، تختلج وتتخثر بسائل لزج. أخبرها أن ذراعيه الممتدتين إليها ثقيلتان.. وأنه يريد أن يعانقها أو يخرج.. وخرج. لم يكونا قد تحدثا قبل ذلك إطلاقا. شعر بالرهبة. كان يريد أن يعود إلى الصمت، لكنها انتصبت أمامه، وقالت:
– لماذا تلاحقني؟
– أريد أن أعطيك شيئا..
– لا أريد منك أي شيء. توقف عن ملاحقتي فقط..!
أراد أن يبكي، لكنه تذكر أن الرجال لا يبكون. تنهد وأخرج القمبص الأخضر الذي أهدته أياه حين عادت. ارتداه بسرعة وهو يفكر بتلك القبلة التي تدحرجت من فمها نحو عنقه. هل كان يحلم؟ دائما كان يحلم قبل أن تتزوج ذلك الرجل، وتذهب إلى أمستردام.. قبل أن تتخلى عن رائحة القديد الذي تعشقه، ومقهى البرج المطل على كنيسة «القلب المقدس»، والجولات الطويلة تحت المطر في ديسمبر، والسباحة بين صخور شاطئ طماريس، واحتساء مرق الحلزون قرب منتجع «بوكو لوكو». الآن يريد أن يضغط على يدها كما كان يفعل دائما. أن ينسى أنهما الآن من طبيعتين مختلفتين، وأن يستجيب له ذراعاه ليعانقها.
لم يكن يزاحمها عليه أحد. يختلي بها في ذلك القبو العُلوي، ويبدأ في الكتابة عنها موليا ظهره للدولاب. ينصب اهتمامه، أولا، على تصريف الأفعال وربط الجمل ورتق المجازات وإنماء المعاني. تجلس أمامه فزعة، تنقل بصرها بينه وبين إبريق القهوة الذي يضعه على يساره. لم تكن تقاوم دموعها، ولا تتغاضى عن ارتجافه الخفي. تناولت يده، وطلبت منه أن يذهب. لا معنى لبقائه في هذا المكان، ولا لهذا الاندفاع العاصف الذي يجعله يبحث عن قمصانه الخضراء بين سطور يخطها على ورق لامع لا وجود له الآن. قال لها:
– لا أبحث عن القميص. أريد أن أكتفي بالمعنى.. هل تذكرين ذلك الشيطان غريب الأطوار الذي ربيناه معا !؟
– مازلت تؤمن بالظواهر الغريبة؟ اعتقدت أن الأموات يُشْفَون..
– كان فخورا بنا.. هل تذكرين حين جعلنا نغتسل بسبع موجات على تلك الجزيرة المهجورة؟
– أوووه.. عليك حقا يا عزيزي أن تعود من حيت أتيت. لا أرحب على الإطلاق بهذا الحماس السيء للذاكرة. لم أعد أذكر أي شيء..
– ما معنى ذلك؟
– أرفض اللحاق بك. هذا واضح جدا.. لا معنى لأي شيء..
– لم أعد أثير اهتمامك؟
– هل نسيت أنني امرأة متزوجة، وأم لطفلين؟
طرق الباب بهدوء. عرفت أنه هو. لم يعانقني. انزلق بسرعة نحو القبو، وأغلق الباب خلفه. سمعته يجهش بالبكاء، وكان يحشرج كأن أياد خشنة ومتحجرة تضغط على عنقه. دخل عاريا وطويلا ونحيفا. عيناه غائرتان، وتحت إبطه حزمة من الورق اللامع.
لا بد أنه الآن يحدثها عن أيام الآحاد وساعات الغسق وعازف البيانو الذي ظل يغلي من الغيظ لأنها تجاهلت غمزاته السريعة. رآه يغمز لها، فتناول قدحا من البراندي وسكبه على رأسه الحليقة، ثم تأبط ذراعها وخرج. كان المطر يهطل، وعنقها اللازوردي كان يختفي تحت إيشارب أزرق يمتص أنفاسها المتلاحقة. كان لشعرها العسلي أريج شفاف يذكره برائحة القديد الذي يحبه. لا بد أنه يكتب الآن، ليستعيد قمصانه الخضراء التي نهبها المُعَزُّون، ولابد أنه ينتظر أن تدخل عليه أمي بطبق الكسكس وكأس من اللبن الرائب..
فتحت باب القبو. لم يكن هناك أحد. كومة قمصان خضراء تتكئ بإعياء على السرير، وورق لامع مهمل في الركن.. وصورة امرأة تندفع شهقاتها بصخب نحو السماء..


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 10/01/2020

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *