ولد باتريك موديانو، الفائز بجائزة نوبل للآداب ينة 1914، في باريس عام 1945، من أب إيطالي وأم بلجيكية، التقيا في باريس زمن الاحتلال. عاش طفولة ترنحت بين غياب الأب، وجولات الأم التي كانت تعمل ممثلة سينمائية. ترك موت أخيه «رودي» جرحاً لا يندمل في نفسه، وظل يهدي إليه أعماله المكتوبة بين 1967 و1982.
ويعتبر باتريك موديانو من الكتاب الذين يعرفون المغرب العربي معرفة جيدة وقد استلهم روايته «عشب الليالي « من قصة حياة المهدي بن بركة . وقالت لجنة نوبل الأكاديمية إن الروائي الفرنسي استحق الجائزة «بسبب تمكنه من فن الذاكرة الذي أنتج أعمالا تعالج المصائر البشرية العصية على الفهم، وكشف العوالم الخفية للاحتلال».
– تستحضر روايتك الجديدة، قصة رجل يبحث عن امرأة في فترة الستينات من القرن الـ20، وكأنك تكتب معها الرواية ذاتها، منذ سنوات طويلة… ؟
– عندما كنت أبلغ بين الـ 17 و الـ 22 عاماً، عايشت وخبرت جيداً معنى وطعم فترة الستينات في القرن الـ20، إذ مثلت المحرّك الروائي لي، لأنها كانت مرحلة غريبة مليئة بالشغب.
ولم يكن لي أي روابط عائلية أو اجتماعية. وهذه العناصر تأتيني بلا توقف مثل الأحلام. ومن هنا فإن كتاباتي، ربما أنها متأثرة ومشبعة بهذه الفترة، وأحياناً بشكل لا شعوري.
– ما آلية اختيارك أحياء محددة في باريس، لتكون مطرح أحداث روايتك؟
– إنها الأحياء نفسها التي ترددت عليها وعرفتها. وبعضها يأتي إلى ذاكرتي بلا انقطاع. مثل الحي الثامن عشر في مونتسوري والمدينة الجامعية في روايتي «ليالي العشب». إنها ترتبط بخمسة أعوام تشكل فترة لأشياء عشتها بصعوبة، وكأنها بئر سوداء في حياتي. الناس الذين كنت ألتقيهم كانوا يجرونني إلى أشياء خطرة، وباريس في تلك الفترة، كانت قلقة.
كانت باريس سنوات ستينات القرن الـ20: خطيرة للغاية، مظلمة ومضطربة.. كانت على مرمى حجر من الحرب التحريرية الدائرة في الجزائر. أرّخت لنفسي عبر محطات في الرواية. فحينها لم أدرس، كنت قاصراً.. كانت باريس أيامها تخيفني، يمكننا أيضاً أن نلتقي بكبار السن الذين يخبرونك عن ذلك».
– هل يمكننا القول، بناءً على كلامك، أن باريس في تلك الفترة، كانت مسكونة بالاستعمار وحرب الجزائر؟
– نعم. بعض الأحياء في باريس كان مضطرباً أثناء حرب الجزائر، وخاصة في الحي الثامن عشر في منطقة ربورت كليانكور.
فالناس الذي كانوا يزوروننا في شقتنا، كانوا يأخذونني إلى أماكن غريبة، وهي مرتبطة بحرب الجزائر، حيث تنتشر هناك مقاه في بورت دي اتالي في بوليفار فنسان ــ أوريول. كانوا بشراً مرتبطين برجال الشرطة من الفرنسيين أو الجزائريين. هؤلاء الناس يراقبون كل شيء. كل هذه الأشياء كانت تفزعني.
– إذاً أنت لا تكتب بدواعي الحنين إلى الماضي؟
– كلا. على الإطلاق. إنها أشياء تبدو لي مزخرفة وبعيدة. إنها أشياء خالطتها وأشياء مهددة.
– ما رأيك في فكرة التخييل الذاتي التي راج الحديث عنها بصدد روايتك الجديدة؟
– هذا مؤكد. إذ أصبح لازماً ومحتماً عليّ الانتفاع من مادة حكائية شخصية في الخصوص. بيد أني أعتقد دائماً أن المعطيات الأوتوبيوغرافية: (الحكائية الذاتية)، تكون نافعة إذا ما ضُخّ فيها قدر من التخييل. أحس بشيء من الحذر إزاء المحاولة التي لا تسعى إلا لأن تكون أوتوبيوغرافية، بالرغم من أني معجب، مثلاً، بـ «شواطئ أخرى» لنابوكوف، وكذا في أعمال شاتوبريان.
ولا يمكن للمرء أن يكون مهذباً بالتمام مع ذاته، وقد يكون من الرائق أن ينسى المرء أو يمحو أشياء من حياته الشخصية، جميع أنواع النسيان.. يصعب على المرء أن يكون المشاهد الشخصي لذاته: يتعذر عليه أن يسمع وقع صوته وأن يرى من خلفه. من هنا فإن المرء مرغم على أن يكشف عن ذاته.
ولهذه الأسباب، يبدو لي أن مشروعاً أوتوبيوغرافياً صرفاً هو شأن مصطنع، زد على ذلك أن هذا المسعى يجازف، أحياناً، بأن يصبح مجرد اجترار نرجسي، بينما يتيح ضخّ التخييل التوجه نحو الآخرين، والتواصل مع القارئ، وجعل الأشياء مدهشة أكثر لشخص يوجد خارج الذات. وإذا كانت السيرة الذاتية تعدم المزايا الشعرية كما عند «نابوكوف» أو «شاتوبريان»، فإنها تنزع إلى المماحكة النرجسية .إذا لم تجعل من المادة الحكائية سلبية، فإننا نكون إزاء عملية ثأر بسيطة.
كما أحب أن تحدث المادة الحكائية نوعاً من الوميض والتألق… أو على النقيض من ذلك، فإن ما يهم هو وثيقة خامّ عن حياة شخص، شبيهة بتقرير بوليسي.. إن «الأنا» التي تكتب في رواياتي، ليست، إذاً، ذاتية بشكل تام، إنها «أنا» أندسّ فيها لا بطريقة سردية بل بطريقة تكاد تكون حلمية، وإنه لمن الصعب تفسيرها. ليست الكتابة نهجاً أسعى إلى التعرف فيه على ذاتي، ليست هذه الأنا، إذاً، استبطانية. فأنا لا يهمني أمر اكتشاف من أكون.
عن مجلة «أنروكأبتبيل»