مأساة مثقف 2 : نصر حامد أبو زيد: مأساة مصرع الحرية

شرعت محاكم التفتيش في أوروبا في التلاشي مع بداية انحسار العصور الوسطى، وأفول مكانة الباباوات وتأثيرهم في عقول الناس ومصائرهم. لكن محاكم التفتيش في البلدان العربية ما زالت مستمرة الى أجل غير مسمى، وما زال كهان العالم الإسلامي مستمرين، حتى اليوم، في قمع أي فكر نقدي او تنويري. وهذا هو ديدنهم منذ ان انتصر الحنابلة على المعتزلة في عهد الخليفة المتوكل. وكان الفكر العربي قد بدأ انغلاقه، على الأرجح، مع أبو حامد الغزالي، أي في زمن السلاجقة، عندما اعتقد، واعتقد المسلمون معه، انهم ختموا العلم، ووصلوا الى ذروة المعرفة التي لا معرفة بعدها، وأن جميع معارف الوجود باتت محفوظة في القرآن والتفاسير ونصوص الفقهاء وكلام المتكلمين من علماء الكلام. لكن الغزالي، بإنكاره مفهوم السببية، وإغراقه في التصوف والغيبيات، قضى على مفهوم العقلانية التي بذر بذرتها الأولى المعتزلة وبعض الفلاسفة، ولم يستطع ابن رشد أن يوقف تأثير الغزالي في الفكر الإسلامي. ومثلما قضى الغزالي على المعتزلة، قضى حسن البنا والإخوان المسلمون على المشروع الإصلاحي، شبه العقلاني، الذي دشّنه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ودخلت البلاد العربية في معمعان التبديع والتفسيق والتكفير. وهكذا هزم الطهطاوي وطه حسين وعلي عبد الرازق وعبد الله العلايلي على أيدي أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب وتوابعهم. فيا له من انتصار ضيّع فرصة التجديد، وأعاق نمو التفكير العلمي، وأورثنا قائمة طويلة من مصادرة الكتب ومنعها وحبس مؤلفيها او نفيهم او التنكيل بهم.

 

روح التنوير

إن ما يمنح كتابات نصر حامد أبو زيد أهمية إضافية، علاوة على أهميتها الفكرية، هو السجالات التي أثارتها، وهي سجالات عكست، في معظمها، الصراع الفكري بين تيارين: تيار التنوير والتجديد، وتيار التشبث بالماضي وبحكايات السلف. وقد كانت غاية التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر، كما هو معروف، هي تحرير الإنسان من سلطة رجال الدين، وتحرير العقل من كابوس اللاهوت وقيوده. ففي تلك الفترة كان يكفي ان يستند رجل الدين الى آية من الإنجيل، او الى قول منسوب الى احد القديسين، او الى واحد من آباء الكنيسة كي يصبح كلامه قاطعاً ونهائياً، وتصبح أي مناقشة لآرائه هرطقة. أليست هذه هي الحال عندنا اليوم في العالم العربي؟
كانت روح التنوير تعني ان المعرفة يجب ان تستند الى العلم والتجربة العلمية، لا ان يعتبر اللاهوت هو المصدر الرئيسي لها. وفي سبيل هذه الروح تحررت المعرفة، الى حد كبير، من اللاهوت ومن سلطة رجال الدين ومن الغيبيات والخرافات معاً ومن جميع السلطات أيضاً. أليست هذه هي غاية التنوير في بلادنا اليوم؟ أي تحرير الإنسان العربي من سلطة رجال الدين ومن جميع السلطات، وتحرير المعرفة من غيبياتهم ومن خرافات النصوص القديمة الجاثمة فوق الرؤوس كثعابين هندية سامة.
أخال ان غاية نصر حامد أبو زيد في جلّ ما كتب كان التنوير، او، على الأقل، الإصلاح. ولهذا قامت عليه قيامة المشايخ بالدرجة الأولى. وبهذا المعنى حاول نصر حامد أبو زيد ان يفرق الفكر الديني عن الدين. لكنني اعتقد ان هذه التفرقة مراوغة. فالفكر الديني لا ينمو إلا في سياق الدين ذاته. والدين اليوم، كما يفهمه الفقهاء، ليس ما بين الدفتين، أي القرآن وحده، إنما هو القرآن وركام هائل من العقائد والمرويات والأحاديث التي تدخل كلها في باب التراث. والإسلاميون، في غالبيتهم، لا يفرقون التراث عن الدين. فهم يتعاملون مع التراث بوصفه مقدساً، أي ان التراث تحول، لدى هؤلاء، الى دين، وجرى دمجه في سياق المقدس. والأنكى ان الإسلاميين لم يتناولوا التراث الغني والمتنوع إلا بطريقة الإعادة والتكرار بطريقة لا تنتهي، ولا تقدم أي جديد او تجديد.
لنلاحظ كيف ان المتطرفين الإسلاميين والمعتدلين يعتمدون المصدر الديني نفسه… وهذه مفارقة حقاً. فلا يوجد خلاف في المرجعية الفقهية بين من يزعم انه وسطي، وبين من يدعي انه سلفي، أكان من السلفية الجهادية ام من السلفية الدعوية. فعبد الله عزام لا يختلف في مرجعيته عن شيخ الأزهر. كلاهما لديه الأحاديث نفسها، والفقهاء أنفسهم والتراث نفسه. والفارق بين هؤلاء وهؤلاء هو في الانتقاء. وحتى الآن لم اعثر على سلفي يخالف الوسطي في مراجعه او العكس، فالواحد منهم يغرف من المعين ذاته.
وقد لاحظ نصر حامد أبو زيد ان الخلاف بين الاعتدال والتطرف في الخطاب الديني الحديث ليس خلافاً في النوع بل في الدرجة. فالتكفير طريقة لنفي الخصم فكرياً عند المعتدلين، ولتصفيته جسدياً عند المتطرفين. لهذا اجتهد نصر حامد أبو زيد كي يرسي عمله الفكري على قاعدتين:
فهم التراث فهماً نقدياً لاعتقاده ان فهم التراث غير ممكن بطريقة تكرار مقولاته ووقائعه كما يفعل المشايخ.
فهم النص الديني بغاياته وليس بحروفه. وهذا ما حاول ان ينجزه عبد الله العلايلي، ولا سيما في كتابه الخطير «أين الخطأ؟».
وفي هذا الحقل من المعرفة دعا أبو زيد الى التحرر من سلطة النص. وقد فهم اصحاب الرؤوس الناشفة، وكدليل اضافي على الغوغائية، انه يدعو الى التحرر من النص القرآني. ولم يكن هذا الامر صحيحاً على الاطلاق، بل كان مقصده التحرر من القراءة السلفية للنص القرآني. فدعوته الى التحرر من سلطة النصوص ومن المرجعيات الفقهية العتيقة، ليست إلا دعوة، على ما يقول هو نفسه، الى اطلاق العقل الإنساني كي يتجادل بحرية مع الطبيعة في مجال العلوم الطبيعية، ومع الواقع الاجتماعي والإنساني في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب. وهذه الدعوة لا تقوم على إلغاء الدين، ولا على إلغاء نصوصه، بل على فهم النصوص الدينية فهماً علمياً.
مصائر الذين آذوه
أودّ أن أتيح لنفسي، ليس الشماتة او التشفي بخصوم نصر حامد أبو زيد، بل النظر في أحوال هؤلاء الذين تصدّوا له وأورثوه العذاب والقلق والنفي والتكفير والشتم والتهديد بالموت. والتفت الى اثنين فقط من بين هؤلاء: عبد الصبور شاهين ومحمد عمارة. فعبد الصبور شاهين تشفّى بمغادرة أبو زيد جامعة القاهرة فكتب كتاباً بعنوان «قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في الجامعة». لكنه، في مسلكه، لم يكن لائقاً بمكانته كأستاذ في دار العلوم، بل خلط الجامعة بالجامع حين دشن حملته على أبو زيد من مسجد عمرو بن العاص في القاهرة في 2/4/1993، ثم راح يجول على المساجد داعياً الى تكفيره وتوقيع القصاص به. وفي ما بعد ذاق عبد الصبور شاهين من المعجن نفسه الذي خبز عجينه بيديه، فقد شن الشيخ العجيب يوسف البدري هجوماً لاذعاً على عبد الصبور شاهين بسبب كتابه «أبي آدم». والمعروف ان عبد الصبور شاهين، ومعه الشيخ شعراوي أيضاً، كان متورطاً في فضيحة شركة الريان للنصب على الناس وأموالهم باسم الدين. وقد مات شاهين في 26/9/2010، ومرّ خبر موته همساً، فكأنه عاش ولم يلتفت إليه احد، ومات فلم يحزن عليه أحد. أما محمد عمارة الذي أورد في كتابه «فتنة التكفير بين الشيعة والوهابية والصوفية» ان النصارى كفرة ملحدون، وان أموالهم ودماءهم مستباحة، كان دعا في مقالة له في جريدة «الأخبار» المصرية (4/7/2003) الى توحيد الأمة على المذهب السني قبل التوجه الى القدس على غرار ما فعله صلاح الدين الأيوبي.
هذه هي دعوة صريحة الى الفتنة المذهبية، ودونها انهار من الدم. وحسبنا اننا امام ثلاثة عيارات من الرجال: عبد الصبور شاهين، وهو تقليدي ضيق الأفق والتفكير، ومحمد عمارة الذي يبدو على شاشات التلفزة مثل رامبو، لكن بلا عضلات، علاوة على كونه متعصباً وأحمق في الوقت نفسه. ونصر حامد أبو زيد المفكر التقدمي النادر في فهمه للإسلام، والعلماني والمظلوم في الوقت نفسه.
إني أعلن انحيازي الى الثالث بلا ريب. وهذه المقالة تحية الى اسمه الكبير


الكاتب : صفر أبو فخر

  

بتاريخ : 18/06/2020