مأساة مثقف نصر حامد أبو زيد: تأسيس قواعد لاهوتية جديدة هو بالتأكيد من مهام الباحث

في أكتوبر من عام 2002،  أجرى محمد علي الأتاسي مقابلة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد في دمشق، وقال عنه «محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن. وكرامة استاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكونيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة والسلطة الدينية المتحجرة». في ما يلي نص الحوار:

p فلنبتعد قليلاً عن مشكلة الهوية في علاقتها بالنص القرآني، من أجل اعادة صياغة بعض الاسئلة التي يطرحها المستشرقون، والتي لا تزال بعيدة عن النقاش والنقد لدى المختصين بالدراسات القرآنية داخل إطار الفكر العربي والاسلامي. كمثال: لماذا لم يأمر الرسول خلال كل فترة الوحي وحتى مماته بجمع ايات القرآن وحفظها داخل كتاب، بل تم ذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان؟ كيف تحوّل القرآن من نص شفاهي تحفظه الالباب الى نص موثق ومكتوب؟ ولماذا؟ وماذا يمكن القول عن حال اللغة العربية في ذلك الزمن وخلوها من التنقيط؟ وعن منزلتها كلغة بشرية لم تتوقف عن التطور والتبدل وعلاقة ذلك بقدسية النص القرآني باعتباره كلام لله المنزّل بلسان عربي؟ ما رأيك ألا يجب على المفكرين الاسلاميين ان يخوضوا في هذه القضايا أم يجب تركها حكراً على المستشرقين؟
n بالتأكيد يجب عودة الباحثين العرب الى هذه القضايا، وتغطية تاريخ القرآن وكيف تحوّل من نص شفاهي إلى نص موثق ومكتوب، وليس فقط في عصر الخليفة عثمان حيث لم يكن النص مقروءاً بسهولة لكونه كان خالياً من التنقيط ومن علامات الحركات، وصولاً الى النسخة التي هي اليوم في ايدينا، بنقطها وعلامات الحركات. لكن هذا كله لا يزال يدخل في اطار اللامفكر فيه. وأنا كنت واعياً لهذا تماماً عندما كتبت “مفهوم النص”، لكنني استبعدته موقتاً، لأنني كنت مشغولاً ببلورة مفهوم للنص وبالقيام من داخل علوم القرآن التقليدية بمحاولة قراءة حديثة لهذه العلوم. وقد ظهر لي مفهوم التاريخ بمعنى أن القرآن نص تاريخي وثقافي، وهذا ولّد لدى البعض أزمة لا تزال مستمرة. إذ فهم من التاريخي أنه زماني، ومن الثقافي فهم أن المقدس قد تأنسن. ومع ذلك هناك في كتاب “مفهوم النص”، إشارات واضحة لاحتمالات دراسة أوسع في المستقبل. فهذه الأسئلة عن تاريخية النص ولغته وتوثيقه، اقوم اليوم بدراستها من خلال منهج النقد التاريخي، بدون احساس بالخوف أو الخطر، لكن بمحاذير لا يمكن أن نقلل من شأنها.
لقد انفتح أمامي أفق يفكك الأسطرة التي ربطت ربطاً عضوياً تاماً بين لغة القرآن ورسالة القرآن، متوهمة أن لغة القرآن هي نفسها مقدسة ومنزلة.

p نصل إلى نقطة أساسية أشرت إليها في إحدى مقالاتك الأخيرة من خلال ايراد رأي جلال الدين السيوطي بأن القرآن أوحي إلى سيدنا محمد بالمعنى فقط وأنه هو الذي وضع صياغته باللغة العربية. هذا الرأي يفتح على آفاق واسعة ويحيلنا على فكرة جوهرية تقول أن القرآن مكتوب بلغة بشرية وهذه اللغة تتطور قبل القرآن وبعده وهي بمثابة كائن حي يتبدل بالإحتكاك مع الواقع من خلال تبدل دلالات الألفاظ ومعانيها واستخداماتها. لكن رغم ذلك تبدو اللغة العربية اليوم للبعض وكأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تتمنع في قواعدها النحوية على التغيير، فكأنها شيء مقدس؟
n هذا وهم وغير صحيح، فالتركيب العربي اختلف وتبدلت بنيته، وأن كان النحو المعياري قد بقي على حاله.

p أنا متفق معك تماماً، ويكفي أن نقارن لغة الصحافة والأدب اليوم بلغة النصوص القديمة لندرك الكم الهائل للتبدل والتطور الذي عاشته وتعيشه اللغة العربية، وهذا خير دليل على كون اللغة كائناً حياً ومتغيراً. ولكن، لنعد الى السؤال الأساسي فأنت من خلال السيوطي وضعت يدك على جوهر المشكلة، ومع ذلك لدي إحساس أنك لا تزال متردداً في الذهاب بالأسئلة إلى منتهاها، وهذا ما نلاحظه أيضاً عند مفكر آخر هو محمد أركون، وكأننا نطرق الأبواب ولكننا لا نعبرها إلى صلب الاسئلة الحارقة، والتي بدونها لا مجال للخروج من النفق؟
n لا أستطيع أن أنكر الذي تقوله. التردد موجود في داخلي، لكنه لا ينبع من خوف على شخصي، بل يأتي من كونك تعمل في إطار انموذج (براديغم) ثقافي تحاول اختراقه. ومهمة اختراق النظام المعرفي السائد والمستقر تتطلب أن تؤسس لنظام معرفي جديد. هذه المهمة لا يقوم بها شخص بمفرده بل تتأسس من خلال التراكم، ونحن حتى هذه اللحظة نعمل على النظام المعرفي الذي أسسه الشافعي في القرن الثالث الهجري. هذا النظام المعرفي قائم على أن النص مقدس لأنه لغة ورسالة ليسا من صنع البشر، ومحاولة اختراق هذا النظام معناها أن تبيّن أنه إذا كانت الرسالة إلهية فإن اللغة ليست إلاهية بل هي بشرية، وهذا ليس شأن القرآن وحده بل شأن الكتب المقدسة كلها. أما الوحي فهو مفهوم مرتبط تماماً بنظام من التواصل غير اللغوي، وتالياً فوحي القرآن للنبي محمد لم يكن عبر النظام اللغوي. وعليه، فان صياغة الرسالة انسانية. الآن، من أجل تأسيس فهم كهذا لا يكفي أن نتناول لغة القرآن ولكن يجب العودة إلى تأسيس القواعد اللاهوتية التي تسمح بذلك.

p لكن تأسيس قواعد لاهوتية كهذه، هل يدخل في إطار دور الباحث، أم هو منوط برجال الدين؟ ولماذا لا يزال منهج النقد التاريخي عاجزاً عن الدخول باسئلته إلى داخل الفكر الديني، إذ نراه أحياناً أسير محرّمات هذا الفكر؟
n بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال، فان تأسيس قواعد لاهوتية جديدة هو بالتأكيد من مهام الباحث. نحن نخرج هنا من دائرة الإصلاح الديني وندخل في دائرة النقد التاريخي، وهذا الفرق حصل منذ 1967. أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فالصورة تبدو كذلك، لكنها صورة خاطئة، وسأعطيك نموذجين لفكر ديني تقليدي يعمل وفق آلياته الخاصة لكنه متأثر بالتحدي الذي يطرحه منهج النقد التاريخي، وإن لم يعترف بذلك. المثال الأول هو فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي في خصوص علاقة الرجل بالمرأة وما يرتبط بحياة المسلم في أوروبا. فالقرضاوي، وإن كان لا يسلّم بفكرة التاريخ لكونها خارج إطار وعيه، متأثر بالتحدي الذي تطرحه هذه الفكرة وهي فاعلة رغماً عنه في نطاق الفتاوى التي يصدرها من خلال المجلس الأوروبي للفتاوى. وهذا ما دفعه إلى القول أنه يجوز للمرأة غير المسلمة التي تحوّلت إلى الاسلام إن تبقي زواجها من غير المسلم. وإذا كان القرضاوي لم يبنِ اجتهاده على قاعدة ثورية في اللاهوت أو على قاعدة الحرية، بل على قاعدة الدعوة ومن أجل تحبيب الناس بالإسلام، فإن داخل قاعدة الدعوة التي يعلنها وداخل هذه الفتوى توجد كل اجراءات النقد التاريخي.
المثال الثاني، هو رد شيخ الأزهر الطنطاوي على مرشد “الإخوان المسلمين” مصطفى مشهور حول موضوع الأقباط والجزية. فالشيخ الطنطاوي قال أن الجزية كانت ممارسة تاريخية. وإذا أنتَ جلستَ مع الشيخ الطنطاوي وسألته: “ممارسة تاريخية إزاي، ده قرآن؟”، بمعنى أن تسأله: هل تقول أن هذا النص القرآني أصبح غير صالح؟ فأنت تكشف له هنا إن مفهوم القرآن كنص تاريخي تسلل إلى لاوعيه. إن العلاقة التي تبدو ساكنة بين الخطاب الديني ومنهج النقد التاريخي في أفق الخطاب العام، مردها إلى أن هذا الخطاب في يده مؤسسات وفي يده سلطة وهو متماه مع السلطة؟ مع ذلك، فالأسئلة التي تقول أنت بامتناعه عليها، هي نافذة إليه. وعلينا هنا ان نرى قدرة الهامش على اختراق المركز واحداث حراك فيه. بعد 11 أيلول، أصبح هناك حمّى اسمها تجديد الخطاب الديني. طبعاً داخل هذه الحمى، قد يكون هناك خطاب سجالي أو دفاعي أو اعتذاري، لكن على الأقل هناك تسليم بأن الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود.


الكاتب : محمد علي الأناسي

  

بتاريخ : 22/06/2020