نظرات في التصوف … الإسلام عشقًا : فرضيّات عامّة في موضوع التصوّف -2-

الحلّاج شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل.

 

2
لقد نسي الكثيرون أن تاريخ الإسلام الواقعي هو تاريخ التصوف أكثر مما هو تاريخ الشريعة، إذا اعتمدنا المقياس الكمي على الأقل. فالمتصوفة بنوعيهم (الصوفية الخالصة المتنسكّة التي اعتزل أهلها الحياة وهاموا بحب من يهوون، و”الصوفية الواقعية” التي كان أهلها أعمدة الحرف في المدن الكبرى) سادوا المشهد الديني في العالم الإسلامي طوال معظم تاريخه، جنبا إلى جنب مع الفقهاء، بل كان بعضهم في كثير من الأحيان فقيها ومتصوفا في الآن ذاته [2]. بل إنه يبدو لي أن التصوف كاد أن يشكّل طوال قرون أحد المذهبين الأساسيين لعامة المسلمين، أي إن أحدهم كان شاذليا ومالكيا، والآخر كان نقشبنديا وحنبليا مثلا، ناهيك عن الشيعة الذين كادوا أن يدخلوا التصوّف في أصل مذهبهم نفسه. بل إن ذوي النفوس الطموحة منهم لم يكتف بأخذ طريقة واحدة. فقد جاء في ترجمة للأمير عبد القادر الجزائري مثلا إنه أخذ الطريقة النقشبندية في دمشق عن الشيخ خالد المجدوي، ثم الطريقة القادرية على السيد محمود الكيلاني. كما إنه أخذ فيما بعد الطريقة الشاذلية عن الشيخ محمد الفاسي وكان ذلك في مكة، وأخيرا أخذ الطريقة المولوية على الدرويش صبري شيخ الطريقة في الشام. وكان الأمير مالكي المذهب[3]، كأغلب أهل المغرب. وجاء في ترجمة الإمام محمد عبده إنه اتصل بالشيخ درويش خضر، الشاذلي الطريقة، الذي ترك في نفسه أثرا وصفه كما يلي: “رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير العالم الذي كنت أعهده، واتسع لي ما كان ضيقا، وعظم عندي من أمر العرفان والنوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرا..الخ”[4]. بل حتى إن ذهاب الشاب محمد عبده إلى الأزهر لطلب العلم جاء بإلهام من أحد مجاذيب طنطا! كما يحدث هو نفسه. في رواية أحمد تيمور التي نقلنا منها الاستشهاد السابق. ولعلّ من المفيد أن يطّلع القارئ على الطريقة التي تجاور فيها علم الشريعة بعلم التصوف في أزهر تلك الأيام. يقول الكاتب: “هذا وكان في الأزهر نفسه تدافع بين الشرعيين والصوفيّة، فأولئك كانوا يرون في الخروج عن العلوم النقلية المتداولة في الأزهر تمردا على الدين، وهؤلاء كانوا يطمحون إلى أنواع من المعارف التي لها مساس بالتصوّف. ودليل هذا التدافع ما ذكره الصوفي الأزهري الشيخ حسن رضوان المتوفى سنة 1310هـ، 1892 م في منظومته المسماة “روض القلوب المستطاب”. وقد كان للشيخ المذكور مريدون بين علماء الأزهر وطلابه، منهم الشيخ حسن الطويل والشيخ محمد البسيوني وهما من أساتذة الشيخ محمد عبده نفسه، وجماعة من إخوانه. وبذلك يظهر أن الشيخ حينما جاء إلى الأزهر انضم إلى حزب التصوّف، وهو أقل الحزبين جمودا، وأقلهما نفرة من الجديد”[5[

3
هذا الدور الكبير للتصوّف في الحياة الاجتماعية والعلمية لذلك الزمان أعطاه سلطة جعلت القضاء عليه مستحيلا دون عنف السلطة السياسية. وهكذا كان. فقد ووجه التصوّف في القرن المنصرم بحملات ممن هب ودب. لقد شاركت في محاولة القضاء عليه سلطتان لم يكن يجمع بينهما أي شيء على الإطلاق، إذا استثنينا معاداة الصوفية. هاتان الفرقتان-السلطتان هما الوهابية والأتاتوركية. وكلاهما بحجة الإصلاح. الوهابيون أرادوا إصلاح الدين بغربلته من البدع، وكمال أتاتورك[6] أراد إصلاح المجتمع بالتحديث على الطريقة الأوربية. كانت النتيجة نوعا من “الإصلاح الديني المعكوس” الذي ما زلنا نرى أثره في الأشكال المشوّهة من الدين والتي هي شيء شاذ بكل المعاني.
ورغم أن الفرق الصوفية كانت بممارساتها تعطي هؤلاء “المجدّدين” حججا قوية للهجوم عليها. فمما لا شك فيه أن التصوّف تحوّل في كثير من الحالات إلى فرق مشعوذة أصبح التخلّص منها ضرورة تاريخية، لكن هذا التبرير المعقول لم يكن للأسف هو الدافع الأساسي وراء الحرب الوهّابية على التصوّف ولا وراء تلك الأتاتوركية. الأولى استندت كالعادة إلى حرفية النصوص (وليس التصوف هو ضحيتها الوحيدة في ذلك)، والثانية إلى اتجاه عام ناجم عن ضغط تحديات التغيير التي كادت تلغي شرعية أي شكل ديني موروث عن الحقبة العثمانية وخاصة إذا كان يشجع على ترك أمور الدنيا أو حتى يتسامح مع ذلك. هذا إن لم نتحدّث عن الاستلابات التغريبية لدى أتاتورك[7[.

4
إن حيثيات الهجوم الوهّابي والأتاتوركي على الصوفية يشيران بطريقة ما إلى نوع من الديالكتيك التاريخي للتصوّف الذي حتّم انقشاع سيادته عن الشارع الإسلامي والذي في الوقت نفسه يعطيه كل المشروعية ليعود إلى طبع الدين بصبغته الخاصة. فالجانب الاجتماعي الحياتي المادي الملموس للتصوّف كما عاشه المجتمع الإسلامي حتى القرن التاسع عشر لم يعد بأكثره قابلا على مقاومة التطوّر. إنه الجزء الميّت من التصوف[8]. لكن تلك النزعة التي تركّز على التجربة الشخصية في الممارسة الروحية وتعطيها أولوية على الالتزام الحرفي بالنص المقدّس، هذه الروحية هي الجزء الحيّ من التصوّف ورسالته الباقية.
قلنا إن قضية التصوّف الأساسية هي قضية الروح. وهو بهذا يعيد الدين إلى حقل عمله الأساسي. ولئن اضطرّ الدين خلال تاريخه الطويل إلى الانشغال بمسائل الحياة المادّية لأن الناس كانوا يلجؤون إلى مقدّسيهم في كل ما يستجد عليهم من مشكلات ماديّة وعقليّة تتطلّب حلا، فإن ذلك لا يعني أن هذه هي وظيفة الدين الأزلية. والدارس لتاريخ الأديان يلاحظ ميلها (بقصد أو بغير قصد، راغبة أو راغمة) إلى التخلّي المضطرد عن وظيفة القيادة في شؤون الحياة. بل إن الرسول قد قال في حديث شهير: “انتم أعلم بأمور دنياكم”، وهذا يعني شيئا واحدا هو توزيع الاختصاصات، للدين شؤون الروح وللناس شؤون الحياة. وفي هذه الدراسة أسمّي الدور الذي لعبه التصوّف في هذا الصدد: القطيعة الروحية. ويقصد باستخدام كلمة قطيعة عادة الإشارة إلى أن استمرارية ما تم قطعها. مما لا يعني بالضرورة أنه قد تم القطع مع كل ما كانت تلك الاستمرارية تشمله من مضامين، فأنا أعلم أن الواقع التاريخي مخالف لذلك تماما، ولكن موضوع الخطاب قد تبدّل جذريا. أترجم هذا في الحالة الإسلامية بانتقال موضوع الخطاب الديني من ممارسة الكائن الإنساني الشامل إلى ممارسة الروح.

 

 


الكاتب : حسين شاويش

  

بتاريخ : 18/06/2020