تتنوّع عناصرُ القصّ وتختلف من قصّة إلى أخرى في “أحدب الرباط”، المجموعة القصصية الخامسة عشرة للروائي والقاصّ المغربي أحمد المديني، (المركز الثقافي للكتاب 2014). أرى هذا التّنوُّعَ يشمل الفضاءَ القصصيَّ، والشخوصَ، والثيماتِ، وتقنياتِ القصّ، ومساحةَ القصّة، وصيَغَ الكلام، وأنواعَه. ما يجعلنا إزاء مِروحةٍ واسعةٍ من نصوصٍ مختلفة، متنوعةِ المنظورات، متقابلةٍ ومتقاطعةٍ متلازمة، وفي الوقت تحتفي بالنقيض الضّامن لصُنع عنصر وجو المفارقة هي العِمادُ الأساس لهذا الفن أوْ لا يكون. كلُّ نص مكتوب هنا منفردٌ بتكوينه، مضفورٌ مع ثانٍ وثالث وعاشر. وعلينا أن نأخذ المجموعة لا تجميعًا بعد حين كيفما اتفق، بل كما أراد لها كاتبٌ خبرِ هذا الفن في نماذجَ معروفة له ارتادت مبكِّرًا التجديد والتجريب في نوع القصّة القصيرة، منذ” العنف في الدماغ”(1971) وعلى امتداد خمسة عقود ونيف، ومدروسة في أطاريح وعديد أبحاث. نعرف أنه زاوجها بتساوق، زوّجها بالرواية(ضرّةً) لها ولم يَسْلُ الحبيبَ الأول، قرأت له يقول إن “القصَّ القصير اختبارٌ عسيرٌ وضروريٌّ لحنكة أيّ كاتبٍ كي يتمرّس على السرد وسيلةً للرصد والتعبير، ويمتحنَ فيه كذلك عناصرَ الكلام، واقتصادَ القول، ودقةَ الرؤية، وتبئيرَ المعنى، وتعيينَ القصد والنظرَ اللمّاحَ والخلوصَ إلى الدلالة مهموسة كآهة عاشقٍ وخشعةِ مؤمن».
في المجموعة الجديدة تجربةٌ أخرى في المسار الطويل يواصل فيها القاصّ الاقترابَ من ذروة قَصَصية القصّة، ذلك السقفُ الذي يسعى الجميع لبلوغه، ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلًا، لأنّهم حين يفعلون يكونون قد كتبوا القصّة الكاملة. وعندها، لا يعود ثمّة مبرّر للكتابة. من هنا، تستمر محاولات الاقتراب من السقف العصيّ على البلوغ، في جانِب الحظّ بعضهم في محاولاته، ويحالف بعضهم الآخر. ولعلّ أحمد المديني في طليعة الذين حالفهم الحظّ، فهو لا يني يجرّب ويجرّب، ويقترب من بلوغ السقف، وهو ما نراه بوضوح في «أحدب الرباط». على أنّ قَصَصية القصّة شأنها شأنَ أدبيّةِ الأدب، وروائيةِ الرّواية، وشعريةِ القصيدة، سقوفٌ عاليةٌ هيهات بلوغُها، لأنّه في هذه الحالة ينتفي مبرّر الكتابة، فليس ثمّة قصّةٌ أو روايةٌ أو قصيدةٌ كاملة، والنقصُ من لوازم النشاط البشري ومنه الأدب. ومع هذا، سيبقى سيزيف يحاول الصعود بالصخرة إلى قمّة الجبل حتى يبلغَها أو يقضي الله أمرًا كان مفعولا. فأجملُ الدروب هي التي نظلّ محكومين بالسّير عليها دون أن نحظى بقصَب الوصول، لأنّنا حين نصل ننتهي.
تنوّعٌ واختلاف
في “أحدب الرباط»، يطول التنوّعُ مختلفَ عناصر القصّ؛ فالفضاء القصصيٌّ يتراوح بين مقارباتٍ ونمذجاتٍ شتّى:الرومانسيُّ والواقعيُّ، والواقعيُّ السحريّ، والواقعيُّ التاريخي. مرةً تجدُها مشخّصةً في كلٍّ واحدٍ مفردٍ مستقل، وتارةً مجتمعة، وطورًا متعاضدةً وينفي واحدُها الآخر كأنها حلبة، وثمّةَ من سينتصر ولا أحد ليبقى الصراع مفتوحًا، ذلك أن أسوأ ما يتعثر فيه القاص هو القفلة المغلقة إن حرص على نظام الوحدات الثلاث؛ أو لسنا في زمن العيش المدلهمّ والآفاق غير المرئية فضلًا عن قلق وحيرة أصبحا من نسيج التكوين السيكولوجي والتركيب الذهني لهوية الإنسان المعاصر، وهي كامنة بوصلةً في رؤية الكاتب أحمد المديني كما تابعتها في عديد أعماله، متصلة بشخصيات وأوضاع اجتماعية وشروط تاريخية للشعب والأمة التي ينتمي إليهما ما يمنح القصة هويةً سوسيو ـــــ حضارية، أكثر من رصد بارقٍ كأنها نزوةٌ عابرة. وهذا بعض ما يفسر ويبرر كون الشخصيات تتوزّع على أصعدة الحقيقي، والمتخيّل، والبشري، والحيواني، والنباتي، والصناعي. هو دليل غنىَ لا شك، وفي الوقت كسرٌ لوحدة النموذج التقليدية. يمتدإلى الثيمات تتراوح بين الحبّ، والصداقة، والسلطة، والكتابة، والموت وغيرها. يطول التعددُ والتنوّعُ تقنيات القصّ، نتبّين كيف تُفيد من النصّ الشعري، والحكاية الشعبية، واليوميات، والسيرة الذاتية، والرواية، والخرافة، والأسطورة، والحلم، والمرايا المتقابلة، والفقرات المُرقّمة المتعاقبةوغيرها. ولتحقيق واكتمال (الهارمونية) تتراوحصيغ الكلام بين ضمائر الغائب، والمتكلم، والمخاطب. وقد تجتمع في القصة الواحدة، وأنواعه تختلف بين الأدبي والديني والجغرافي والإداري والشعري، وقد تجتمع هذه الأنواع ضمن القصة نفسها. أمّا مساحة القصّة فتتراوح بين أربع صفحات، في الحدّ الأدنى، واثنتين وعشرين صفحة، في الحدّ الأقصى. وهكذا، يشمل التنوّع الشكلَ والمضمون، الحكايةَ وتقنية القص، الزمان والمكان، الصيغة والنوع.
نعي أن هذه العجالة لا تتّسع للإحاطة بهذه المروحة الواسعة من العناصر المتنوّعة، لذا حسبنا الإشارة إلى الثيمات الأبرز في المجموعة وكيفية التعبير عنها:
سلطة بلدية
تشكّل السلطة، على أنواعها، الثيمة الأكثر حضوراً في “أحدب الرباط”، وتشغل ست َّقصص، على الأقل، وتختلف وظائفُها من قصّة إلى أخرى؛ ففي “الشجرة المباركة»، تُقدِم السلطةُ المحليةُ في قرية صحراوية على قطع الأشجار المعمِّرة، ذاتَ ليل، وتحمّل أهل القرية المسؤولية، وتكبّدهم عناء دفنها، فالأشجار التي تشكّل معادلاً قصصياًّ للحياة والحلم في واقع صحراوي قاسٍ تسقط على حين غرّة، وتدَعُ الناس في حيرة من أمرهم، بحيث يتضافر عليهم سوء استخدام السلطة مع قسوة الصحراء، فيلجؤون إلى الحلم بالأشجار وتخيُّل وجودها للاستمرار على قيد الحياة. وتقبَل القصة قراءةً مغايرةً تنسحب على المدينة الإسمنتية يُجتثُّ ما تبقّى فيها من شجر ، طبيعة، فطرة، حياة خضراء وفي «العُقاب»، تتمثّل السلطة في شخصية العُقاب الذي يخشى الناسُ من التلفّظ باسمه وفي مقدّميه الذين ينفّذون تعليماته، وتقع على أهل البلدة الفقراء الذين لا يعنيهم من وجودهم سوى الخبز والماء وإرضاء الحاكم المحلّي وأدواته، وتتمظهر الممارسات السلطوية في القصّة في تجميع سكان الأزقّة المختلفة في ساحة عامة وشحنهم في حافلات إلى مقرّ الحاكم للتسبيح بحمده، غير أنّ فشلهم في تنفيذ المهمّة لسبب لا تذكره القصّة يجعلهم عرضةً للعِقاب الأبدي. وهكذا، تقول القصّة خلَلَ العلاقة بين الحاكم والمحكوم في فضاء سلطوي، يختلط فيه الواقعُ بالخيال، والحقيقةُ بالخرافة. اختلاطٌ مموّهٌ تضيع فيه الطرق عمدًا لكسر أحادية المعنى، وشحذِ مخيلة القارئ وذكائه التأويلي.
سلطة دينية
في “حادثا جنون.. وسربُ غربان»، نحن إزاء قصة مزدوجةِ الحدث، تُحيل إلى مسألة، بل إلى إشكالية عدم فهم السلطة الدينية وسوء استخدامها، بما يجعل من الدين أداةَ تخلّفٍ بدلًا من أن يكون عاملَ تقدّم، وهو ما يتمظهر في رفض الشاب في البلدة الشمالية عُريَ المُستجِمّين على الشاطئ، ما يُفرغ عملية الاستجمام من مضمونها، من جهة. وفي إصرار الفتى في بلدة أصيلة المغربية على قلي «الشُّورّو» بيده المتّسخة ذات الأظافر السوداء، ورفضِه ارتداءَ القُفاز واستخدامَ الملعقة بذريعة أن تلك عادات غربية مسيحية،(النصارى!) من جهة ثانية. وبذلك، نكون إزاء سوء استخدام السلطة الدينية واتخاذ الدين ذريعة للتخلّف من العامة والجاهلين. وفي قصة «حلم في ليلٍ صائف»، تتمظهر السلطة في المكان القصصي الذي يقع في «شبه قلعة محصّنة بِسور»، وفي الرجل الذي يشار إليه خوفًا ومهابةً باسم «صاحبنا»، وفي امتثال الأربعة المقيمين في المرآب الكبير لمشيئته وخروجهم في موكب مَهيبٍ من مقرّ إقامتهم، حتى إذا ما وصلوا إلى المكان المقصود يتلقون الأمر بالعودة من حيث أتوا. وبذلك، تقول القصّة بالرمز والكناية امتثالَ الرّعية الواضح للسلطة الغامضة، وتعبّر عن ذلك في إطار حُلميٍّ ناجمٍ عن ابتلاء الراوي بلوثة اصابته جرّاء إدمانه على قراءة كتاب «العنف في الدماغ» لأحمد المديني المشار إليه أعلاه. وهنا، يتم التداخل بين القصة والحياة، ويحوّل الكاتب نفسه إلى شخصية قصصية، يتناص مع نفسه نتاجه، ما يفعله في غير قصّة في المجموعة. عندي ليؤكِّد أنه صاحب مشروع.
سلطة اجتماعية
على أنّ السلطة في قصة “الغثّ والسّمين» تنأى عن السياسة والدين لتتّخذ بعدًا اجتماعيًّا يتمظهر في بسط سلطة ربّ العمل على عمّاله. والمفارقُ في هذه القصّة التي تتخذ طابعًا غرائبيًّا هو أنّ السلطة يمارسها صاحبُ محلّ الألبسة البشري على عمّال صناعيين، على مانكانات. إذ يجبر «المانيكان» الصناعية المتمنّعة، المستخدمة لعرض الثياب، من منطلق إحياء الجماد وإنطاق الساكن لتسخيره في إنتاج الدلالة الرمزية وهذه إحدى وظائف الفن الراقي بعيدًا عن الواقعية الحرفية والخطاب المباشر للتنديد باستغلال المرأة والإنسان عامة وابتزاز كرامته.، تشُذُّ المانكان عن زميلاتها فترفض ممارسة الجنس مع صاحب المتجر، على مرأى وتَشفٍّ من زميلاتها اللواتي سبقنها إلى ذلك. غير أنّ عجز التاجر عن ذلك، يقلب السّحر على الساحر، ما يجعل المانيكان تنتقم منه وتشمخ بأنفها عليه، فيتحوّل إلى موضع سخرية المارّة وقهقهاتهم. وبذلك، يقول المديني في هذه القصّة الغرائبية شخوصاً وأحداثاً ما يوحي بأن السلطة سلاحٌ ذو حدّين، وإن سوءَ استخدامها قد يعود على صاحبها بالويل والثبور. وهو ما نراه في قصّة «أأا نعم سيدي» حين يتحوّل مُحدَثُ النعمة الذي يُكلّف بمهمّة سلطوية إلى أداة بيد من كلّفه، عبدًا يفقد القدرة على الرفض والقبول، ولا يتقن سوى الخضوع، وبلغة المتنبي القاسية:» أذنه في يد النخّاس دامية» بعد أن انفضّ عنه الصّحب والإخوان. وبذلك، يدفع ضريبة سوء ممارسة السلطة مرّتين، بارتهانه لمكلّفه، وبانفضاض الأصدقاء عنه، وإن أوحى بعبودية جماعية طوعية، أحدِسها هي الدلالة الأبعد في القصة تهمِس بها في أذن القارئ بسرٍّ خبيء عليه أن يعيد اكتشافه إن امتلك حريته ولم يرتعد «أأأ نعم أسيدي»! هكذا، كلما أمعن الكاتب في البارودي والإليغوريا حقق متعةَ القص، ولا شك هذا مبتغى رئيس عنده من مجموعة» أحدب الرباط» مما يبرهن على وحدتها وامتلاكها لرؤية متناغمة ناظمة.
الحب والصداقة
الثيمة الثانية التي تلي الأولى حضورًا هي ثيمة الحبّ والصداقة، وتشغل أربعَ قصص في المجموعة، والمفارق أنّ قصّتَي الحبّ تنتهيان بموت الحبيبين أو أحدهما، ففي قصّة “ملاكان»، وهي الأولى في المجموعة، يتناول المديني شخصيتين حقيقيتين هما المفكّر الفرنسي أندريه ميكل ورفيقته جانين، فيرصُدهما في تلازمهما في الحياة والموت، ويوزّع النصّ بطريقة القصيدة، ويعكس الفضاء الرومنسي للعلاقة بين الرفيقين، ما يحقّق التناسب بين الشكل الشعري والمضمون الرومنسي. وفي قصّة «يحدث كلّ يوم، ومع ذلك»، توحي مقدّماتُ القصّة أنّ ثمّة فعلةً مذمومةً ارتكبها الزوج، تُخفيها الزوجة عن الآخرين، ليتبيّن في نهايات القصّة أن الفعلةَ المرتكبةَ ليست، يا للمفارقة، هي موته دون سابق إنذار تاركاً زوجته لوحدتها، ما يجعل الموت عندها نوعاً من الغدر. يفجّر الغضب في نفسها بداعي تخلّيه عنها، بعد عشرة نصف قرن. ويتمظهر التجريب في هذه القصّة في تعدّدِ الأصواتِ القاصّة، وتوزّعِها على الزوجة والزوج والجار، وإن استأثرت الأولى بحصّة الأسد، منها تتوزع الأصوات وحين يُكشف عن السّرّ في غياب الزوج، بالأحرى موتِه المُتستَّر عليه، يعزف القاص يصل إلى كرشندو المعزوفة الحزينة؛ ألم أقل لكم إن الفن، الأدب، القصة القصيرة كما يطرقها هذا القلم لسانُها الإيحاء والإخفاء والهمس والمفارقة الصادمة، وأضيف تُحلق بأجنحة متلونة تخدعك بما ترى فيما العين باطن.
في المقابل، تحظى الصداقة بقصّتين اثنتين في المجموعة، والمفارِق أنّ الطرَفَ الآخرَ في هذه العلاقة هو حمامةٌ في الأولى، وكلبٌ في الثانية. ففي “رقصة فالس مع حمامة»، يجري حوارٌ بين الراوي المقيم وحيدًا في مكتبه الباريسي، في الطابق السادس، وجارته الحمامة التي ارتجلت عُشّها في الزاوية الخفية لمدخنة العمارة، هو يشكو الوحدة، وهي تُغريه بالخروج منه والتحليق، وهو ما يتحقّق في نهاية الرواية حين يسقطان معاً من علٍ، ويهربان من أرض مُتخمة بالعنف والدمار، وتقوم أسرابُ حمام بحملهما، فيطيران. هنا أيضاً يتمظهر التجريب في الشكل بتعدّد الأصوات القاصّة، وفي الفضاء بالجمع بين الواقعي والغرائبي. وهذه القصّة تتناصّ من محفوظ الكاتب الثري مع قصيدة الشاعر العباسي أبي فراس الحمداني الأسير التي يخاطب فيها جارته الحمامة الطليقة، ويعاتبها لتبادل الأدوار بينهما:» أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ/ أيا جارتا هل تشعرين بحالي/معاذ الهوى ما ذُقت طارقةَ النوى/ ولا خطرت منك الهموم ببال». أمّا في قصة «ليل طويل»، فيقترب الكاتب من ذروة الجبل العالي الذي يتسلق ومايبحث عنه، باستثمار ذلك المنجم الغنيِّ والعميقَ الذي نزل إليه أدباء كبار، منجم (العمى) لاستخراج جوهرة البصيرة. منهم أبو العلاء المعري، وبشّار بن برد، وسراماغو، وبورخيس سيدُه هو والعميد طه حسين، بالمعاناة، أو التجربة. يأمل أن يصل إليه عبرْ حبل الصداقة والتكامل المُبرَمين بين جون الأعمى وكلبه فروان.هما متلازمان في الحلّ والترحال، ويُكمِل أحدهما الآخر، ويتبادلان الآراء في ما بينهما بحواس تختلف عن المعتادة في أداء الوظائف لتكشف عن بُعدٍ إنسانيٍّ غير منظور في العلائق البشرية لمن هُم في حُكم الكاملين، بذا يصبح النقصان(العاهة) هو الكمال. ولا تشذّ هذه القصّة عن سابقتها في تعدّد الأصوات والجمع بين الواقعي والغرائبي.
سؤال الكتابة
الثيمة الثالثة في “أحدب الرباط” هي ثيمة الكتابة، وتشغل قصّتين اثنتين فيها؛ تتميّز الأولى “إنّها تصبّن أحسن!» بطرافة عنوانها ومتنها، وتتناول مسألة غسل النصوص الأدبية، والحاجة لتشذيبها وتهذيبها في «مصبنة أدبية»، قبل النشر، قياسًا على غسل الثياب في المصبنة المختصّة. وتمتاز الثانية «لماذا أكتب؟»، وهي الأطول في المجموعة، بأنها قصّة مركّبة، تفيد من تقنيات الرواية، فتجادل بين ثلاثة أسلاك سردية تتعلّق بثلاث شخصيات حقيقية، هي الشاعر العراقي حميد سعيد، والروائي المغربي أحمد المديني، والروائي البريطاني جورج أورويل، وهذه الشخصيات / الأصوات تتناوب على الظهور في القصّة في إطار جدلية الظهور والاختفاء، لتقول تجاربها مع الكتابة، التي تتقاطع في غير نقطة. وبذلك، يحوّل المديني شخصيات حقيقية تاريخية، بمن فيها نفسه، إلى شخصيات قصصية. وهنا يبلغ التجريب مداه. هي قصة مختبر، وضع الكاتب في محاليلها أغلب الشواغل التي تعني الكُتاب في زمن التحولات الكبرى، والتنازع بين القيم الرأسمالية والمبادئ الاشتراكية والمثل الإنسانية للعدالة والمساواة ونبذ الاستبداد، نعلم أن أورويل كرّس لها أهم أعماله الروائية:” 1984” الاستشرافية، و”مزرعة الحيوانات”. في هذه القصة القصيرة الطويلة: لماذا أكتب” نلاحظ نقلة في تحويل النوع الأدبي لمنحى حواري يطرح فيه الكاتب قضايا جوهرية للأدب وعلاقة التفاعل بين الذات والحياة، ويُمكن أن تُعتمد لمعرفة التصور الإبداعي للكاتب ونهجه ؛فيما الخيطُ السرديُّ متواصل النسج.
إلى ذلك، ثمّة ثيمات أخرى في المجموعة، من قبيل الوحدة وتداعياتها النفسية في “نداء العنقاء”، والعاهة الجسدية التي تنتقل بالعدوى في “أحدب الرباط”، والنُّسك في “ناسك من الدار البيضاء»حول حياة القاصّ محمد زفزاف وتحوّلاته بين الأدب والدين. كأني بأحمد المديني وهو يختم مجموعته بهذه التحية لزفزاف يريد أن يذكّر بريادة وفضل هذا القاص على القصة المغربية والعربية كلها، ويلفت نظر المحدثين الى أن الأدب ميراث مشترك يُسهم فيه كل جيل وكاتب بمقدار، أحسب أحمد المديني في مجموعته الأخيرة وما سبقها أرسى فيه عُمُدًا راسِخة.
*ناقد أدبي
وشاعر من لبنان