أحد عشر يوما هزت العالم: نقد لبؤس النقد 2/1

لابد وأن عنواني أعلاه، سيذكر بعنوان كتاب” عشرة أيام هزت العالم” عن الثورة الروسية في أيامها الفاصلة الأولى (1917). وهو تذكير لمن يعتقد واهما، أن الماضي قد مات، فقط، لأنه بات من الماضي. وهو لا يدري، أن ما يلهج به من حداثة ومعاصرة وليبرالية سياسية واقتصادية سطحية، ليست إلا تكرارا كاريكاتوريا لتجارب تاريخية ماضية، ما عاد لها نفس السياقات التاريخية في زمن العولمة النيوليبرالية. والأنكى من ذلك، أنها جُربت قبل النصف الأول من القرن العشرين في بعض البلدان العربية، و جربت في مرحلة السادات وما بعدها، وانتهت إلى الفشل ، لحيثيات بنيوية وطبقية، انتقدها اليسار، وكانت في مجملها صحيحة ولا زالت. وقد لا يرى أيضا، أن ما يلهج به هي نفس الأيديولوجية الليبرالية التي تزعمت، بتحالفات خارجية مشبوهة، مشاهد” الربيع العربي”، بعد أن ضمر طابعها الوطني التحرري بأكثر مما كان عليه في التجارب الماضية، فما كان منها إلا أن أتت لأوطانها ودولها بالخراب والدمار. والبقية الناجية منها في بلدان أخرى، لا تزال تتخبط قي نفس الإشكالية التقليدية لليبرالية التخلف في زمن العولمة النيوليبرالية.
وبعبارة أخرى، إن العنوان أعلاه دعوة إلى التفكير المادي الملموس في الحاضر وتجاربنا فيه. وإلى الاجتهاد الحق في استشراف آفاقه العالمية والإقليمية والعربية، ومع الإدراك العميق بأن الأهداف الكبرى للتحرر الوطني القومي لا تموت، فقط، لخلل عابر في موازين القوى، ولا بالأحرى لهيمنة أيديولوجية نيوليبرالية قائمة.
وقديما قال ماركس، الإنسانية لا تطرح إلا الأسئلة القادرة على حلها. وهو يعلم، أن الإنسانية مند أن وجدت، وهي، تطرح أيضا أسئلة غير قادرة على حلها، منذ زمنها الخرافي و الأسطوري وإلى اليوم، في زمن التقنية والعلم. ومع ذلك، إذا ما وضعنا تاريخ التقدم الحضاري تحت الفحص المادي، فإن الإنسانية لا تستبقي من أجوبتها المختلفة على أسئلتها اللامتناهية، سوى ما كانت قادرة على حله، أي ما يحقق لها التقدم الفعلي. وهكذا، لكي لا نتوه في أسئلة مضللة وفارغة المحتوى، ينبغي لأسئلتنا نفسها أن تستوفي شروط التقدم، أي أن تكون أقرب إلى المعطيات الواقعية والتاريخية، ونابعة من الممارسات العينية. وقديما قالوا، أن السؤال نصف الجواب. ومقالتي في مجموعها تدور حول هذا المضمون وأسئلته :
(1)
ثمة ثلاث مقدمات أو موضوعات يعتمدها “بؤس النقد” لهذا الحدث الفلسطيني الكبير الذي هز العالم، سأتناولها، ولو بالسرعة المطلوبة:
المقدمة الأولى، تُلح على إنزال القضية الفلسطينية من علوها في وضع ” المقدس”، لكي تصير قضية سياسية جارية على الأرض، وقابلة للنقد والحوار بلا إرهاب فكري(؟!). ولكي لا أخوض في تفاصيل بين ما هو مقدس عند المؤمنين، وما هو غير مقدس، أتساءل وأتعجب، هل كانت القضية عند الفصائل الفلسطينية والعربية وغيرها على هذه الصورة المقدسة وغير السياسية، عبر تاريخ التجربة النضالية الحية؟ هل كانت جميع تلك الفصائل تجتمع وتتناقش وتختلف على تفسيرات لآيات قرآنية أو إنجيلية، أم أنها كانت تمارس وتختلف على برامج واختيارات إستراتيجية ومواقف عملية(؟) يقينا عندي، أن ما كُتب من تقييمات وتحاليل وانتقادات فردية وجماعية، ومن كل الأصقاع، لم يكتب عن أي قضية تحررية أخرى في العالم. فلماذا إذن هذه المغالطة؟ قد لا يفسر نفسانيا على الأقل، هذه الفوبيا من “الإرهاب الفكري” كما يحسونها هؤلاء، سوى أنهم استخفوا في زمن الركود والتراجع، بالقدرات الخلاقة والفائقة لصمود الشعب الفلسطيني، وبالتجذر العميق لمكانة فلسطين في وجدان الشعوب العربية. وعندما وقع الحدث الذي هز كل ضمير حي، ووعي يقظ، كانت الصدمة عليهم قوية أربكتهم وتلعثم لسانهم. لم تكن القضية في أي يوم قضية إيمان وشعائر لا أكثر، لأن هيبتها السياسية، إن جاز القول، وكما يظهر، استمدتها من أنها كانت، وستظل، ركنا أساسيا من أركان الهوية القومية التحررية، ومن أول أدراج تقدمها . وبهذا المعنى، هي معركة وجود لا معركة حدود، كما تعلمنا في نشأتنا، والقصد من الحدود، أنها ليست بالشأن السياسي العادي الذي تعيشه كل المجتمعات. ولأنها معركة الوجود القومي التحرري، اكتسبت من هذه الخصوصية بالذات تلك القامة التاريخية، وذلك العلو والتجذر في الوجدان الشعبي.
والمقدمة الثانية: تُشدد على المطالبة الفورية ب “علمنة القضية الفلسطينية” قد لا يطرحونها بنفس التعبير، لكن حصيلتهم، أن القضية اليوم، تُقدم للرأي العام الدولي، الذي يهمهم أكثر من غيره، وكأنها صراع ديني ضد اليهودية، ولا حجة لهم في ذلك، سوى وجود فصائل فلسطينية (وبعض من يساندون القضية) ذات مرجعيات أيديولوجية إسلامية تحديدا. والتلويح دائما أن ذلك يخدم مآرب الدولة الإسلامية الشيعية الإيرانية، ولا ينتبهون أن هذه الدولة التي يدينونها لمرجعيتها الدينية والشيعية تحديدا، تتحمل تكاليف باهظة لوقوفها الداعم للشعب الفلسطيني، وهو سني المذهب في أغلبيته الكبيرة.
بهذه الخفة في التحليل، ولقضية كبيرة ومعقدة، ترتبط بدور الدين وبمرجعياته، في عالم وزمن تخلت فيه الحداثة المعاصرة عن بعض أشكالها القديمة البالغة السوء والسلبية من الدين وأدواره …والأكثر سخافة وشططا، أنها في مجتمع متأخر، وبالأحرى، في مجتمع يخوض نضالا تحرريا وطنيا ضد كيان مغتصب يقوم في أساسه على أسطورة دينية، ودولة مفبركة تُعرِّف نفسها على أنها دولة يهودية، ولكل يهود العالم4؟! لن أجاري نقديا هذه الخفة وهذا الشطط في تفاصيل إشكالية لها أعماق ثقافية وتاريخية، وإنما سأكتفي بالموقف الذي ينبغي لأي علماني غير سطحي ذي بعد نظر أن يتذكره في تحليلاته:
الدولة الإسرائيلية، هي بالتعريف، دولة دينية احتلالية عنصرية، تسعى إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني بكل مقوماته، أرضا وبشرا وتاريخا ودينا .فالعنصر الديني في الصراع قائم ومفروض من المغتصِب وبالقوة. وليس استثناء، أن الانتفاضة الثانية قامت على إثر تدنيس شارون لبيت المقدس، وأن الهبة الشعبية الحالية أشعلها أيضا التضييق القمعي العنيف على ممارسة الفلسطينيين لشعائرهم الدينية بحرية، وعلى اعتزام الصهاينة تنظيم اكتساح بيت المقدس بالآلاف، وعلى الدولة اليهودية المصرة على تهويد القدس كاملة، وعلى إقامة أكذوبة هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى.
الأيديولوجية الدينية عنصر بنيوي في الصراع لا مفر منه، طالما الدولة اليهودية الاحتلالية تسعى إلى محو الهوية الفلسطينية كاملة، والدين واحد أساسي منها. وتجربتنا في بلدان المغرب العربي من بين الشواهد السابقة. والموقف التحديثي العلماني الحق يميز في هذا الصراع بين الأيديولوجية الظالمة والأيديولوجية المظلومة. ويقف مع الثانية ضد الأولى، لأنه في هذه الحالة، يقف مع الحرية والإنسانية والمساواة بين الأديان جميعا. والدين هنا يلعب دوره التاريخي الكبير والأصيل، دور العزاء، في مجتمع فقد فيه الفلسطينيون إنسانيتهم المهدورة بالمطلق. كلمة الله هنا تحث على الحرية، والجنة تعلي من الحق في الإنسانية الكاملة وتحشد الإرادة الوطنية الكفاحية إلى أقصى مداها. وإذا قيل أنه “نصر من الله” فهو مقرون بالعمل الجاد والحسابات العقلانية الصارمة.
في هذا الوضع التاريخي التحرري والخصوصي، لا يفقد الدين ومرجعياته نسغهما الثوري، رغم ما يكون في الأيديولوجية من رواسب ثقافية واجتماعية متأخرة. ورغم ما قد يحدث من أخطاء في الممارسة السياسية ومنها أنواع التحالفات، طالما بقي وضعها التحرري قائما، ولم تتحول بعد لتسويغ تحالف طبقي حاكم غدا معاديا للتقدم. فالطبيعة الوطنية التحررية تظل هي الحاكمة في آخر المطاف، وإلا فشلت تلك الحركة بعينها، لكن الأيديولوجية الدينية تتجدد وتظل قائمة، مادام شرطها التاريخي هو نفسه.
أرأيتم كيف أن الفكر الذي مازال يستقي مواقفه من منابع الحداثة الماركسية (أي من المتاع القديم) يتناقض جذريا مع الحداثة الليبرالية السطحية والخادمة في الراهن للأيديولوجيا النيوليبرالية العالمية. والمدهش حقا، أن القوى الأمبريالية أذكى من فِراخ الاستنساخ، فهي لا تتهم حماس والجهاد وحزب الله بالإرهاب لأنهم يحملون مرجعية دينية، وانما فقط لأنهم يهددون بالسلاح أداتهم الضاربة في المنطقة، إسرائيل. بينما يذهب الاستنساخيون إلى ما هو أبعد! وبالمناسبة هل سنطالب، في ضوء منطقهم، بحل “منظمة التضامن الإسلامي” ولو على علاتها، لكي لا نقدم صورة دينية عن الصراع مع اسرائيل؟ سؤال يضعنا وجها لوجه مع مفهوم آخر للإسلام كدائرة حضارية، وهو بعيد كل البعد عن سطحيتهم وجهلهم لأبعاد الإشكالية الدينية وتمايزات مستوياتها ومراحلها التاريخية، فهم لا يعترفون إلا “بدين أبكم” لا ينطق بكلمة، وإلا خرج من مدار الحداثة السطحية التي يرددونها كالببغاوات.
وعند آخرين، الربط بين القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي أضر، ويضر بها. وهذا غير صحيح، لأن الدي أضر بها، وبالوقائع، التخلي المتتالي عن الصراع العربي-الإسرائيلي، وليس العكس. وتعريف القضية عند هؤلاء، أنها قضية حضارية وحسب “هكذا؟! في المجرد والمطلق”، بينما المعنى الحقيقي عندهم، أنها مجرد قضية أخلاقية إنسانية لا غير، عوض الزج بمفهوم كبير ومركب الدلالات والتفاعلات بين مستوياته أو دوائره المتباينة والمترابطة، ويحكمها جميعا الشرط التاريخي لكل منها. والمرام عندهم، القفز على الدائرة الحضارية “العربية-الإسلامية” الجامعة بين شعوب المنطقة من المحيط إلى الخليج، والتي تتحدث أغلبيتها الساحقة في الحياة اليومية باللهجات العربية المختلفة، وتكتب جميعها باللغة العربية. ولها ثقافة وتاريخ ووجدان وشخصية من إنتمائها لثراتها العربي الإسلامي، ومع ما يبطنه من تنوع لغوي و ديني و مذهبي و إثني و عرقي و خصوصيات وطنية، بما فيها “الأكراد الأقل إندماجا لطموحهم القومي المستقل. فلا حضارة في التاريخ نقية و مستقلة مائة في المائة. وقد صار لهذا التنوع في العصر الراهن حلوله الديمقراطية المناسبة له، وبدون التفريط في ماهو أساس ومشترك للتقدم الحضاري.
والأهم من ذلك، الأسئلة السياسية التالية، لأنها محك صوابية أي موقف: هل نطالب بفك الجامعة العربية على علاتها، كما طالبنا سابقا بفك منظمة التضامن الإسلامي؟! وهل نطالب هذه الشعوب و بأغلبيتها الكبرى أن تكف عن نضالها القومي الوحدوي التحرري و التقدمي، فقط إرضاء لمن مازال في قلوبهم “غدة إثنية” تشوش عليهم الرؤية الحضارية الحقة؟! و مع معرفة جيدة، أن هذا النضال القومي التحرري هو المستهدف تحديدا من المشاريع الأمبريالية- الإسرائيلية عبر تاريخهما المشترك!
ونأتي أخيرا الى المقدمة الثالثة، والتي يتفقون عليها جميعا، كيفما اختلفت مواقعهم وزوايا نظرهم. ولسان حالهم يقول: لا فائدة اطلاقا من الكفاح المسلح ومن أدواته التي تبعت على السخرية أمام التفوق التكنولوجي الهائل لإسرائيل، وحصيلته الدائمة في كل مواجهة الدمار الشامل والتضحيات البشرية اللا معقولة. ويدل كل ذلك على أن الميلشيات المسلحة (كما يفضلون تسميتها على المقاومة) لا تُعطي قيمة “للإنسان” الذي هو جذر المسألة في كل زمان ومكان. ولا سبيل للخلاص عندهم ، إلا عبر كسب الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي (مختزلا في حقيقته في كسب ود أمريكا وإقناعها بالحقوق المشروعة) ، خاصة، وأن القوانين الدولية معنا. فأي فائدة إذن من إهدار هذه المكاسب بتضحيات مجنونة وغير إنسانية؟.
ويذهب آخرون الى ما هو أبعد، المعركة مع اسرائيل هي معركة تحديث ودمقرطة للمجتمعات العربية أولا وأخيرا. وعندما تتحدث المجتمعات العربية، كعدوتها إسرائيل، ستسقط هذه الأخيرة كما تتساقط أوراق الأشجار في دورتها الخريفية. لكننا لا نعرف شيئا عن معاني هذه الحداثة في المجتمع الفلسطيني المعرض يوميا للاقتلاع من جذوره. وأما عند رهط آخر من هذه الهرطقات ، فالقضية برمتها تُختزل في أن تطورات العصر، قد طوت بلا رجعة مقولة حركات التحرر الوطني. وما دامت القضية الفلسطينية هي الوحيدة الباقية من زمن انتهت جاذبيته، فما عليها إلا أن تنشد إلى المفاهيم المعاصرة التي من خصائصها، أنها تفكك الهويات و القوميات (؟!) ، وترفع عاليا من الولاء المطلق لحقوق الانسان- الفرد بجميع معانيها. ولكي تستعيد القضية دورها المركزي في نهوض عربي جديد، عليها ان تنخرط بجانب معارك “الشعب يريد” ضد الاستبداد. وهي معارك مازال نفسها حيا رغم كل النكسات الظاهرة. وبعبارة أخرى لا معركة فوق معركة النضال العربي الجمعي ضد الاستبداد.
نحن إذن أمام أطروحتين متمايزتين من حيت الشكل، الأولى للمرجئة ( حتى يكتمل الصرح الحداتي لمجتمعاتنا). والثانية للخوارج (لا علي ولا معاوية، الحكم مشاع للجميع حتى يسقط الاستبداد). ربما سأفكك هذا التمايز بينهما لو تبرعت باسم جديد عوض حركات التحرر الوطني، “الحركة المعاصرة للحداثة والمواطنة وحقوق الإنسان”. لعل هذا الاسم يرضي شغف جميع العاشقين للجديد، وفقط لأنه جديد. لكنهم يجهلون حينها أن التوسيع غير التضمن الصلب لأي مفهوم، لأنه يشتت ويؤدي إلى اللا معنى. ويمكنني أن أخوض في تفاصيل الهفوات الجسيمة الفكرية والسياسية التي لا عد لها، لكن دعنا نركز على ما له قيمة سياسية ظرفية واستراتيجية راهنا ، ولنأخذ أهمها:
أولا: التضحيات البشرية ينبغي أن تكون متناسبة ومعقولة. وهذا كلام معقول أيضا. لكن هل هناك من رقم سحري لهدا التناسب والمعقولية، أم أن المعارك هي التي تفرض نتائجها على الطرفين في شروط محددة لموازين القوى؟ هل قرر ستالين (الاستبدادي ولكنه الوطني!) التضحية بنحو26مليون انسان لفك الحصار النازي عن ستالينغراد وتحرير الاتحاد السوفياتي وهزم النازية في عقر دارها؟ وهل قرر ماوتسي تونغ أن يضحي بعشرات الآلاف في مسيرته الكبرى التي لم يصل منها سالما إلا القليل, وهل أحجم الفيتناميون عن الكفاح المسلح عندما كانت قراهم تحرق بالنابالم وبمن عليها، وهل توقفت الفيتنام الشمالية عن دعم جنوبها وهي تتعرض لتهاطل قنابل الطيران الأمريكي على مدنها وساكنتها، عقابا لها. وهل قررت جبهة التحرير الجزائرية التضحية بما يزيد عن مليون من مواطنيها، وأمثلة أخرى كثيرة… بل هل النضال السلمي، وأرقاه التظاهرات والاضرابات القطاعية و العامة والعصيان المدني، يخلو من القتلى والجرحى والطرد من العمل والاعتقالات والمحاكمات الجائرة التي قد تعادل ف الموت البطيء أو الاعدام . أليس هذا ما يقع في فلسطين اليوم مع تشريد وتهديم بيوت المحتجين وغيرهم.
واذا كان من المستحيل ضبط بمعادلة رياضية رقم الخسارات المادية والتضحيات البشرية في أي نضال تحرري، سلمي أو مسلح، رغم كل التقديرات المسبقة الممكنة، فالذي ينبغي أن يدان في هذه الحالة هو المستعمِر أو الحكم المستبد، وليس العكس، كما يفعل جل دعاة السلمية المزيفة. واذا ما تضخم هدا الهوس السلمي تحول إلى عقدة نفسية استسلامية بالضرورة. ولعل ما أفصح عنه رئيس الحكومة القطري السابق، بصراحته المعهودة، يلخص كل المأساة الفكرية والنفسية والاستراتيجية لهكذا موقف، عندما قال في رده على سؤال عن مكامن القوة عند الدول العربية: “نحن نعاج ” لا حول ولا قوة لنا. وعلى نفس المنوال، يكتب أحد التقدميين المحترمين، حتى ولو هاجر نصف الإسرائيليين” لصواريخنا عليهم ” ، وبقي النصف الأخر، فإنه سيهزمنا، لأن الهزيمة تسكننا في دواخلنا، ما دمنا متخلفين. وكأن حركات التحرر الوطني المنتصرة كانت جميعا في غاية العصرنة والحداثة والدمقراطية. هكذا تتحول المقولات الصحيحة إلى أصنام جديدة، عندما تتجرد من تاريخيتها في الواقع الملموس. المقاربة العقلانية لمسألة التناسب بين المعارك، السلمية والمسلحة، وبين تضحياتها المفروضة، تنبني على الموجهات التالية، وهي تتضمن حتما قدرا من المخاطرة، يفرضها دائما العدو في الحالتين.


الكاتب : محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 14/06/2021