أخلاق الغرب.. التعبير الأسمى عن الحضيض حنة آرندت: الكذب المنظم سلاح ضد الحقيقة 13

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..

 

 

ميزتْ حنة آرندت الحقائق العقلية عن الحقائق الواقعية، مؤكدة أنها تستخدم هذا التمييز فقط لأنّه مريح ودون أن تجادل حول جوهر شرعيته، خاصة أنها ترغب في استكشاف الضرر الذي تتسبب به السلطة السياسية على الحقيقة. وقالت:
«نحن ننظر في هذه المسائل لأهداف سياسيّة وليس فلسفيّة، ولذلك يمكننا أن نتجاوز صفحاً عن التساؤل حول ماهية الحقيقة، ونرضى بأنّ نتناول الكلمة بالمعنى العام الذي يفهمه الناس. فإذا فكرنا في الحقائق الواقعية، أي حقائق مثل الدور الذي لعبه رجل يدعى تروتسكي في الثورة الروسية، والذي لا يظهر في أي من كتب التاريخ السوفيتية، فسوف ندرك على الفور مدى هشاشة هذه الحقائق مقارنة مع جميع أنواع الحقائق العقلية الأخرى، فبما أنّ الحقائق والأحداث التي لا بدَّ وأن تنتج عن تعايش الناس مع بعضهم بعضاً تشكل النسيج الجوهري لعالم السياسة، فإنّ الحقيقة الواقعية هي التي تعنينا أكثر من غيرها في سياقنا الحاضر».
واشترطت الفيلسوفة لتتجاوز الحقيقة العقلية مجالها أن تهاجم «السيادة الإنسانية»، وهي هنا تحيل بشكل مباشر على هوبز، غير أن هذه الحقيقة، بالمقابل، «تحارب على أرضها وبشروطها حين تزيف الحقائق الواقعية أو تكذب بشأنها، وليس أمام الحقائق الواقعية فرص نجاة كبيرة أمام زحف الهجمات السلطوية عليها إذ إنّها تتعرض على الدوام لخطر أن تطردها المناورات السياسية من العالم وليس فقط لفترة مؤقتة من الزمن بل وللأبد».
تقول حنة أرندت «إنّ الحقائق الواقعية والأحداث أكثر هشاشة بما لا يتناهى من «المقولات البديهية الأساسية»، التي تقوم عليها الحقائق العقلية والاكتشافات والنظريات العلمية حتى لو كانت تلك الأخيرة تسرح دون ضابط في عالم الخيال، إذ إنّ الحقائق العقلية نتاج العقل الإنساني، أمّا الحقائق الواقعية فتحدث في مجال شؤون الإنسان الدائمة التغير، وفي تدفقها لا ثبات ولا دوام إلاّ لبنية العقل الإنساني الذي يتعامل معها، فإذا ما فقدنا هذه الحقائق فلن يتمكن أي مجهود عقلي بغض النظر عن جدِّيته في استعادتها بأي حال من الأحوال.
قد لا تكون فرص استعادة الرياضيات الإقليدية أو نظرية آينشتاين النسبيّة أو حتى فلسفة أفلاطون ضئيلة عبر مرور الأزمنة إذا مُنِع مستكشفوها من تمريرها إلى الأجيال المستقبلية، ولكنها أفضل بما لا يتناهى من فرص إعادة اكتشاف حقيقة واقعية ذات أهمية تم تناسيها أو على الأرجح الكذب بشأنها.
رغم أنّ الحقائق الهامة على المستوى السياسي هي الحقائق الواقعية، إلا أنّ الكشف عن الصراع بين الحقيقة والسياسة وتوضيحه تم للمرة الأولى بالعلاقة مع الحقيقة العقلية، فعكس الحقيقة العقلية إمّا الخطأ، أو الجهل، كما هو الحال في العلم. أمّا في مجال الفلسفة فعكسها إمّا وهم، أو مجرد رأي ظنيِّ.
لا يلعب الباطل المتعمد، أي الكذب الصريح، دوراً إلّا فيما يتعلق بالحقائق الواقعية، وقد يكون من المهم لنا والغريب أيضاً أن نرى بأنّ خلال الجدل الطويل حول العداء بين الحقيقة والسياسية، والذي امتد من زمن أفلاطون إلى زمن هوبز، لم يعتقد أحد قط بأنّ الكذب المنظم كما نعرفه اليوم يمكن له أن يكون سلاحاً فعالاً ضد الحقيقة. فبحسب ما قاله أفلاطون «قائل الحقيقة» معرض لخطر الموت، أمّا بالنسبة إلى هوبز فإذا أصبح هذا القائل كاتباً فهو معرض لخطر حرق كتبه، ولكن لم يعتقد لا أفلاطون ولا هوبز أنّ الإفك المحض مشكلة، ما يقلق أفكار أفلاطون هو الإنسان السفسطائي المنكر للحقائق المطلقة أو الجاهل غير الحافل بها وليس الكذّاب، وهو إذ يميز بين الخطأ والكذب أي بين الباطل اللاإرادي والإرادي فهو عادة ما يقسو على الناس « المتمرغين في الجهل كالخنازير» بدرجة أكبر من الكذّابين، فهل سبب قسوته هذه هو أن زمنه لم يكن يعرف بعد الكذب المنظم المسيطر على القطاع العام متميزاً عن «الكذب الخاص» الذي يقوم به أفراد بحسب «مهارتهم»؟ أم هل يتعلق الأمر بحقيقة لافتة وهي أن الأديان القديمة باستثناء الزردشتية لم تشمل الكذب من حيث هو متميز عن «شهادة الزور» ضمن خطاياها الكبرى؟ بل إنّ الحقيقة هي أن الكذب لم يعتبر تجاوزاً أخلاقياً خطيراً إلّا مع بروز الأخلاقيات البيوريتانية المتزمتة والذي تزامن مع صعود نجم العلوم المنظمة، والتي كان لا بدّ من ضمان تقدمها على أرضية صلبة من المصداقية المطلقة وتحري الحقيقة على ما هي عليه من قبل العلماء».


الكاتب :   إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 26/03/2024