يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن، غربته الكبرى بين قيم التنوير وما يتأسس عليه وجوده وهويته الحضارية. ذلك أن الغرب أصبح، مع ما جرى خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يجري الآن في غزة، وفي أكثر من بقعة على خارطة العالم، محلَّ تساؤلٍ مريب، بالنظر إى ازدواجيته الأخلاقية هو الذي يقدم نفسه بوصفه «التعبير الأرقى عن الكمال التاريخي للبشرية». بل إن عقل الغرب، كما يقول المفكر محمود حيدر، ينظر إلى التنوع الثقافي أو الحضاري «كَقَدَرٍ مذموم لا ينبغي الركون إليه. ومن هناك جاء التغاضي عن الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب هنا وهناك، وعلى رأسها ما يجري الآن للفلسطينيين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بالفيتو والسلاح الأمريكيين..
تتساءل حنة أرندت لماذا أصبح الخداع وحتى خداع النفس أداة لا غنى عنها في حرفة صنع الصور العامة؟ ولماذا نعتبر أن الكذاب إذا ما انخدع بأكاذيبه فإنّ هذا أسوأ من كونه يخادع الآخرين فقط؟ أي عذر أخلاقي يمكن للكذاب أن يتقدم به غير قوله إنّ نفوره من الكذب عظيم إلى درجة أنّه كان عليه أن يقنع نفسه قبل أن يكذب على الآخرين، وأنّ عليه أن يجعل «ذاكرته مذنبة حتى يضفي الصدقية على كذبته» بعبارة شخصية أنطونيو في مسرحية شكسبير: «العاصفة»؟ وأخيراً، وقد يكون هذا السؤال أكثر الأسئلة المذكورة هنا إثارة للقلق: إذا كانت الأكاذيب السياسية الحديثة عظيمة لدرجة أنّها تتطلب إعادة ترتيب كامل نسيج الواقع، أي صنع حقيقة بديلة أخرى يمكن لهذه الأكاذيب أن «تركب» فيها دون «تشقق» أو »كسر»، وبالضبط كما تتركب الحقائق الواقعية مع السياق الحقيقي الذي وقعت فيه فما الذي يمنع هذه القصص والصور الجديدة مع الأكاذيب المتعلقة بها أن تصبح بديلاً كاملاً عن الحقيقة ووقائع الأحداث كما حصلت بالفعل؟
وتذهب الفيلسوفة الألمانية إلى أن هذا الكذب الكامل الذي يحمل في ثناياه إمكانية أن يتحول إلى الحقيقة النهائية –وهي أمور لم تعرفها الأزمنة السابقة- هو من الأخطار التي تنشأ من التلاعب بالحقائق الذي يشهده عصرنا الحديث. فحتى في العالم الحر حيث لا تحتكر الحكومات السلطة حتى تقرر ما يجب قبوله على أنّه الواقع وما لا ينبغي قبوله، قامت المنظمات العملاقة ذات المصالح الهائلة بتعميم نوع من عقلية «المصالح العلي»، وهي عقلية كانت محصورة في السابق هي الشؤون الخارجية أو في أسوأ تجاوزاتها أثناء حالات الخطر المباشر الداهم، وقد تعلمت حتى وسائل الدعاية الوطنية بعض «الخدع» من ممارسات أصحاب الأعمال والمؤسسات الدعائية. قد تتحول الصور المصنوعة للاستهلاك المحلي إذا ما ميزناها عن تلك الموجهة إلى العدو الأجنبي إلى حقيقة بالنسبة إلى الجميع بما في ذلك صانعي الصور أنفسهم الذين قد يجرفهم مجرد التفكير بأعداد ضحاياهم بينما لا يزالون يحضرون «منتجاتهم» الدعائية. لا شك في أنّ موجدي الصورة الكاذبة الذين «يلهمون» أصحاب الإقناع لا يزالون يعلمون أنّهم يريدون أن يخدعوا عدواً ما على المستوى الاجتماعي أو الوطني، ولكن النتيجة هي أنّ مجموعة كاملة من الناس، بل دول بأسرها قد تسترشد طريقها من خلال شبكات الخداع التي أراد قادتها أن يحبكوها لأعدائهم.
ما يحدث بعد ذلك يكاد يتلو الأحداث السابقة آلياً: سيحول الجهد الأساسي الذي يبذله كل من المجموعة المخدوعة والمخادعين أنفسهم وجهته نحو الحفاظ على سلامة الصورة الدعائية التي تم بناؤها، ولن يكون التهديد الأكبر لهذه الصورة هو الأعداء أو أصحاب المصالح المعادية لها بقدر ما سيكون أفراد المجموعة نفسها الذين تمكنوا من التغلب على «سحر» الصورة فتخلصوا من أسرها وأصروا على التحدث عن الحقائق أو الأحداث الواقعية التي لا تتلائم مع الصورة، والتاريخ المعاصر حافل بالأمثلة عن أناس «قائلين للحقيقة ». شعر أصحاب «المجموعة المخدوعة» بأنّهم أخطر بل وحتى أكثر عدائية من الأعداء الحقيقيين. علينا هنا ألّ نخلط بين الحجج التي سقناها ضد خداع النفس وبين احتجاجات «المثاليين» وبغض النظر عن مزاياهم ضد الكذب كمبدأ فاسد وضد فن خداع الخصم القديم بقدم التاريخ نفسه. من الناحية السياسيّة، يمكننا أن نشير إلى أنّه من المرجح لفن خداع النفس الحديث نسبياً أن يحوِّل قضية خارجية إلى واحدة داخلية بحيث ينقلب صراع دولي أو بين مجموعات محددة إلى واحد داخلي محلي، وعلى سبيل المثال فعمليات خداع النفس التي مارسها كل من طرفي الحرب الباردة أكثر من أن تحصى، ولكنها تثبت النقطة التي نوردها هنا بوضوح. لطالما بيَّ نقاد الديموقراطية الجماهيرية المحافظون المخاطر التي يجلبها هذا اللون من الحكومات إلى الشؤون الدولية ولكنهم فعلوا ذلك دون أن يذكروا المخاطر الخاصة بالأنظمة الملكية أو الأوليغاركية وقد انبنت قوة حجتهم على مقولة لا سبيل إلى نكرانها وهي أنّه وتحت ظروف كاملة الديموقراطية يكاد يستحيل خداع العدو دون خداع النفس.
تحت نظام الاتصالات العالمي المعاصر والذي يغطي عدداً كبيراً من الدول المستقلة لا توجد أي قوة كافية لتجعل «صورتها » عن نفسها متكاملة لا تقبل أي عيب، ولهذا السبب فإنّ أعمار الصور بطبيعتها قصيرة نسبياً ومن المرجح أن تنفجر ليس بمجرد سقوط الأقنعة وعودة الحقيقة إلى الظهور في المجال العام بل حتى قبل ذلك الأوان لأنّ «شظايا » من الحقيقة لا تفتأ عن الظهور وتغيير موازين الحرب الدعائية القائمة بين صور مختلفة متضادة. ولكن هذه ليست الطريقة الوحيدة أو حتى الطريقة الأهم التي تنتقم بها الحقيقة ممن اجترأ على مكافحتها، لا يمكن للعمر المتوقع للصور أن يزداد بشكل كبير حتى ولو كانت الصور مبنية من قبل حكومة عالمية أو أي شكل حديث آخر من «التفوق الروماني » القديم، ولا شيء يعرض هذا بشكل أوضح من أنظمة الحكومات الاستبدادية وديكتاتوريات الحزب الواحد المغلقة نسبياً والتي هي دون ريب أكثر الأنظمة فعالية في حماية الأيديولوجية والصور الإعلامية من تأثيرات الحقيقة والواقع. لطالما لوحظ أن الأثر الأوضح لغسيل الأدمغة على المدى البعيد إنّا هو نوع غريب من فقدان الأمل في المثاليات، أو الرفض المطلق لحقيقة أي شيء بغض النظر عن مدى التوصل إلى صدقية ذلك الشيء. بعبارة أخرى: إنّ نتيجة الاستبدال المنتظم والشامل للحقيقة الواقعية بالأكاذيب لن يكون تحوّل الأكاذيب إلى الحقيقة ولا النفور من الحقيقة على أنّها أكاذيب، بل ستؤدي إلى دمار شعورنا الذي «نوجه من خلاله بوصلتنا» في العالم الحقيقي والذي يشكل التفرقة بين الحق والباطل إحدى أهم الوسائل العقلية التي نتوصل بها إليه».